الهجرة النبوية: توازن النبوة بين الإيمان والآمال والواقع

لم تكن الهجرة النبوية مجرد انتقالٍ من مكة إلى المدينة، بل كانت لحظة فارقة في تاريخ الرسالة، وميلادًا جديدًا لأمةٍ تتشكل على عين الله، وتسير بخُطى نبيٍ يوحى إليه، ويقودها بوحيٍ من السماء وبصيرةٍ في الأرض. الهجرة كتاب مفتوح من دروس النبوة، فيه تتلاقى الروح بالإيمان، والعقل بالحكمة، والسير على الأرض بالتطلع إلى الآفاق.
في مكة، اشتد البلاء وضاق الخناق، وبلغ الأذى ذروته، والنبي صلى الله عليه وسلم صابر ثابت، لا يُقابل الأذى بالانفعال، بل يقرأ الواقع، ويترقّب الإذن. فلما جاءه أمر الهجرة، لم يتحرك ارتجالًا، بل بدأ بخطوات متزنة تُعلّم الأجيال كيف يكون البناء. أول ما فعله هو اختيار الرفيق، فاختار أبا بكر الصديق رضي الله عنه، الصحبة الصالحة التي تقوّي القلب، وتُساند في الطريق، وتُذكّر إذا نسي العقل أو ارتجف الجَنان. بهذا الاختيار علّمنا صلى الله عليه وسلم أن القلوب المطمئنة لا تسير وحدها، وأن طريق الحق لا يُسلك إلا مع مَن يشدّ على يدك في الضعف، ويواسيك في الشدة.
ثم تجلّى حسن الإعداد: أبو بكر يجهّز راحلتين قبل الموعد، وأسماء بنت أبي بكر تُعد الزاد وتخفيه، وعبد الله يجمع الأخبار ليلًا، وعامر بن فهيرة يطمس الآثار، وعبد الله بن أُريقط، رغم أنه غير مسلم، يُستأمن على الطريق لما عُرف عنه من أمانة ودقة. كانت خطة متكاملة جمعت بين التوكل على الله، والدقة في التنظيم، فالتوكل الصادق لا يلغي الحذر، ولا يُغني عن الاستعداد، بل يتجلّى معه.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، وأبقى عليًا رضي الله عنه في فراشه، ليشتري وقتًا، ويُطمئن الأهل، ويُربك خطط قريش. ثم سلك طريقًا مخالفًا لطريق المدينة، واتجه جنوبًا إلى غار ثور، لا لشبهة تردد، بل لتأمين المسار. مكث في الغار ثلاث ليالٍ، وهو القائد الذي تُطارده قريش كلها، لكنه هناك، في أحلك لحظات المطاردة، قال لأبي بكر: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”، فكان ذلك درسًا خالدًا في الإيمان وسط الشدائد، والتوكل في قلب العاصفة، والثبات حين يتزلزل كل شيء.
وفي الطريق، جاء سراقة يطاردهم طمعًا في الجائزة، فساخت فرسه، فطلب الأمان، فأمنه النبي، وبشّره بسوارَي كسرى. لم يكن مشهد عفو فقط، بل رؤية ممتدة، وعين نبوة تبصر النصر من قلب الصحراء. لم يكن لدى النبي آنذاك راية ولا جند، لكنه كان يملك اليقين، ويُوقن أن الله ناصره ولو بعد حين. في ذلك درس عظيم: أن من يُخطط بالإيمان، ويعمل بالصدق، ويرجو الله، سيبلغ ما يرجو، ولو طال الطريق.
واصل النبي صلى الله عليه وسلم رحلته الطويلة في الصحراء، متحمّلًا لهيب الشمس، وشدة التعب، والسير على الأقدام، لكنه لم يشتكِ، ولم يُظهر ألمًا، بل حمل همّ الرسالة على كتفه، وسار متقدمًا، يطمئن على من معه، ويحرص على سلامتهم، ويقود بخوف الأب على أبنائه. كل خطوة كانت تعبًا، وكل توقف كان احتسابًا، وكل لحظة فيها كانت تجسيدًا لقيادة تحمل الأمة لا تُتاجر بها.
وحين وصل إلى قباء، أول ما فعله كان بناء المسجد، ليؤسس أوّل كيان للمسلمين على أساس العبادة والربط بالله، لا على أطماع السلطة ولا على جمع السلاح. كانت هذه الرسالة الأولى في الدولة الجديدة: أن صلة الأمة بالله هي أعظم سلاح، وأن المسجد ليس موضع ركوع وسجود فقط، بل منطلق حضاري، ومركز للتشاور والتعليم والتربية. ثم دخل المدينة في مشهد لا يُنسى، والناس تهتف: “طلع البدر علينا”، لكنه لم ينشغل بالحفاوة، بل توجه فورًا لاختيار موقع المسجد النبوي، في الموضع الذي بركت فيه ناقته، ليبقى المسجد مركزًا للمدينة، كما هو مركز للقيادة.
ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، مؤاخاة حقيقية لا صورية، شملت الشراكة في المال، والسكن، والمصير. وكان من هؤلاء عبد الرحمن بن عوف، الذي رفض أن يأخذ شيئًا من أخيه، وقال: “دلوني على السوق”، فذهب، وباع، واشترى، وربح. إنها رسالة بليغة: أن العمل لا يتعارض مع الإيمان، بل يُثبت صدقه، وأن الكسب الشريف جزء من كرامة الإنسان، وأن الدولة لا تُبنى بالعاطفة فقط، بل بالجهد، والإنتاج، والسعي.
كما وضع النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة، التي نظّمت العلاقة بين المسلمين واليهود وسائر الطوائف، وحددت الحقوق والواجبات، وأرست قواعد العدل والتعايش. لم يُقصِ أحدًا، ولم يُجبر أحدًا على ترك دينه، لكنه جعل الجميع في ظل عدالة واحدة، وشراكة عادلة، والتزام جماعي بالسلم والاحترام. فالدولة في الإسلام لا تبنى على الإقصاء، بل على العقود والمواطنة والاحترام المتبادل.
وفي موطن آخر من مراحل التأسيس، لما أراد بعض الصحابة استعجال ما لم يحن أوانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اتركوها فإنها مأمورة”، ليُربّي النفوس على السكون لحكمة الله، وعدم الاستعجال في خطوات التغيير، فبعض الثمار لا تنضج إلا على مهل، ومن يستعجل البناء قد يهدم الأساس.
بهذه الخطوات، وعلى هذا التوازن، تأسست الدولة النبوية: بالإيمان الذي لا يلين، وبالآمال التي لا تموت، وبالواقعية التي لا تغفل عن موازين القوة وطبائع النفوس. لقد علّمتنا الهجرة أن الإيمان وحده لا يكفي إن لم يُواكبه التخطيط، وأن الآمال لا تكفي إن لم تُسند بالعمل، وأن الواقعية ليست تنازلاً، بل بصيرة في التوقيت، وفهم للسنن، وتوظيف حكيم للأسباب.
وهكذا كانت الهجرة النبوية تجسيدًا نادرًا لتوازن النبوة بين الإيمان والآمال والواقع. فقد كان الإيمان هو الزاد في الطريق، لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، ولا في الخوف، ولا في التعب. وكانت الآمال الكبيرة في إقامة الحق وبناء الأمة تدفعه إلى الاستمرار، دون يأس ولا كلل. لكن هذه الروح لم تُغنِ عن التعامل مع الواقع بما فيه من مطاردة وتحديات، فكان التدبير بالغ الدقة، واختيار الرفاق محسوبًا، والتخطيط مؤسسيًا، وبناء الدولة متدرجًا، يُراعي النفوس، والواقع، والمآلات.
لقد جمعت الهجرة بين الثقة بوعد الله، والعمل على الأرض، بين الوحي المنزّل، والعقل المدبّر، بين القلب المتعلق بالله، واليد العاملة، والعين المتأملة في المستقبل. ومن أراد أن ينهض بأمة، أو يُقيم مشروعًا، أو يُصلح واقعًا، فليجعل من الهجرة مرجعه، ومن هذا التوازن مساره، لأن السير على غير هذا الميزان إمّا أن يُسقط في مثالية عاجزة، أو واقعية بلا روح، أو طموحات لا أساس لها.
فما أحوجنا اليوم إلى توازن الهجرة… إلى فهم نبوي يمسك بيد الإيمان، ويصنع المستقبل بالآمال، ولا يغفل عن الواقع بكل ما فيه من تحديات وحقائق.
Trending Plus