توابيت خطرة وصناديق بريد آمنة.. غزة بين الذاهبين مع الطوفان والعائدين من المحرقة

حازم حسين
حازم حسين
بقلم حازم حسين

لا إسرائيل انتصرت ولا هُزِمَت إيران، وما من تعادُلٍ أيضًا. حصيلة الجولة أعادت المشهد إلى توازناته القديمة؛ غير أنَّ طرفًا حقّق الكثير من باقة أهدافه المُعلنة، فيما فقد الآخر مزيدًا من أنيابه ومخالبه. ثم فُتِحَت ثغرةٌ لينفذ منها الجميع إلى استهلاك سرديَّاتهم الخاصة، وتقديم إفادات متضادة ومتناقضة؛ لكنها تستند إلى شواهد داعمة، بقدر ما يُطوّقها من مآخذ وملاحظات. بحيث يُتاح الاحتفال على كلِّ الجبهات بالتساوى، ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ؛ كما قال المُتنبّى فى مِيميَّةٍ شهيرة اختار أن ينام فيها ملء جفونه عن الشوارد والمُنغِّصات.


ذهب الخصوم وعادوا على أمواج الطوفان، وما يزال الغزّيون حبيسى لحظته الأولى بكل ما فيها من حدّة وانفلات. كان القطاع أكبر الخاسرين من نزوة حماس وقائدها يحيى السنوار، ولم تتبدّل تلك الحقيقة الكئيبة بعد قرابة واحد وعشرين شهرا من انفجار المأساة.


وفيما أراد رجل غزّة القوى أن يُصَحِّف المُعادلات القائمة، ويستدعى ورشة إقليمية على أجندة المقاومة وتطلعاتها؛ فقد أتاح للاحتلال أن يُصفّى كثيرًا من حساباته المُؤجَّلة على وجه الاستعجال، وفكَّك الساحات بدلاً من ربطها، وأخلى طريق بنيامين نتنياهو لفرض إرادته على الفضاء الفلسطينى، بعيدًا من كل حسابات القوة والسياسة التى كانت حاضرة فى الأُفق قبل صبيحة السابع من أكتوبر.


خسرت الحركةُ بحصيلة صافية؛ إنما تظل القضية الفلسطينية أكبر الخاسرين. وقد سدَّدت كُلفة الإقدام دون جاهزية واستعداد، وتتكفَّل وحدها بفواتير إحجام الحلفاء وهشاشتهم بعد فاصل طويل من الرقصات المتقطعة.


دوّت الصفعة على وجه حزب الله؛ فتوجّع منها القسّاميون فى أنفاقهم الغائصة تحت الأرض. واحترقت ورقة الحوثيين على البُعد فى جغرافيا اليمن، فاكتوت بنارها خرائطُ الفلسطينيين بين النهر والبحر، وعندما سلّمت طهران بصفقة التهدئة ووَقف الحرب مع تل أبيب؛ كانت كأنها تُوقّع عقد انفضاضٍ من الشراكة مع ما تبقَّى من ميليشيَّاتها الرديفة، وتُخلّى ساحة شركائها الضعفاء ليصطدموا وحدَهم بذئاب الصهيونية الجائعة، دون غطاء أو إسناد.


وإذا كان من طبائع إسرائيل أن تخترع الفرص من عدم؛ فالبديهى أن تنتهز ما يُساق لها قَصدًا، أو يقع تحت يديها بالمصادفة.


لهذا؛ بدا منذ اللحظة الأُولى أنَّ ما صِيغ على سبيل الشَّرَك لها، ستراه طرفَ الخيط الذى يقودها إلى مكمَن الخطر، وستتبعه بدأبٍ وبلا انقطاع أو مللٍ نحو الرأس، مرورًا بالأذرُع والأطراف.


لقد رأت مواجهتها الأخيرة مع إيران منذ الرصاصة الافتتاحيّة، وسعت إليها بإصرار؛ فيما ظلّ خصومُها واقفين عند غلاف غزَّة، أو لم يتجاوزوا أجواء معركة «الإسناد والمُشاغلة» وراء نهر الليطانى، وصولاً بالكاد إلى أسوار ضاحية بيروت الجنوبية.


كانوا يضربون فى الماضى، بينما يُصوّب الصهاينةُ على المستقبل. يقفون على حدودٍ قديمة يشتغل العدو بكثافةٍ لزحزحتها عن مواضعها، ويسعون إلى رجرجة التوازنات المُختلَّة، فيما يصكُّ هو مُعادلاتٍ جديدةً أكثر اختلالاً، ويُثبِّتها بالحديد والنار والإرعاب.


عُقدة الزمن التى أخّرت القضية عقودًا منذ بدايتها، وأدخلتها إلى الدوّامات الهائجة فى غير أوانها، من إساءة الانتقاء والتبديل بين خيارَى السياسة والسلاح، إلى الانقسام على الذات فى أشدِّ حالات الاحتياج للتوحُّد، وحتى رهن الأُصول الوطنية للاستقطاب وتجاذُبات المحاور والأحلاف، تحت سقوف الأيديولوجيا والانتماءات الأوَّلية الكاسرة.


استُدرِج الحماسيِّون للفخ؛ بالتحفيز والإملاء من جهة إيران، أو بالإمهال وغضّ الطرف من ناحية إسرائيل. وفى الوقوع شدّوا معهم بقيّة المحور المُمانِع اضطرارًا؛ وما أفلحت الجمهورية الإسلامية فى الإفلات عندما غسلت يديها من الهجوم، ولا استرعاها أنها تنتظم فى طابور الأهداف، وعليها أن تُفعِّل إمكاناتها الخَشِنَة والناعمة استباقيًّا؛ بترويض الأتباع أو باحتواء الخصوم.


بوغِتت طهران بما لم تتوقّعه أو تتجهّز له. يستندُ مشروعها إلى أولويَّةٍ واحدة: تصدير الثورة، أو استيراد الامبراطورية من أضابير التاريخ.
وإذ يتأسَّس على اختراق البيئات اللصيقة وتوسيع حيِّز القوّة فى الأفنية الخلفية الآمنة؛ فإنَّ تناقُضها مع الدولة العبرية يبدو ثانويًّا، فى المدى الراهن على الأقل؛ رغم وجوديّته وطبيعته البنيويّة الواضحة. ولعلّها تصوّرت أنَّ الغريم يُكيِّف موقفَه منها بالمنطق ذاته، ويختزل السباق فى الساحات المفتوحة؛ دون رغبة فى الاشتباك المُباشر أو المساس بالعواصم.


كانت تعرفُ بالضرورة أنها على موعدةٍ مع صدامٍ حتمى؛ فالأُصوليَّات تتصارع فيما بينها حالما تقضم وجباتها القريبة وتقضى على مخاطرها العاجلة. لكنَّ المعرفة لم تُوفِّر لها رؤية بانورامية مُكتملةً لمجال التنازع، ولا استقراءً دقيقًا لذهنية المُنافس.


أرجأت استعداداتها للمُواجهة الكُبرى، على أمل أن يُرجئ الآخرون استعداداتهم أيضًا. فكأنها رتَّبت الأولويَّات بمنطق الافتراس المُتوازى، لحين التقابُل عند خطّ النهاية؛ بينما اختار الصهاينة أن يزيحوا المُفترِسَات أوّلاً؛ لتخلو طريقُهم إلى الطرائد دون مُناكفة أو مُقاسَمة.


خاضوا معاركهم بفلسفة التدرُّج وتجميع النقاط، وخاضتها إسرائيل بمنطق الشطب والإزاحة بالضربة القاضية؛ وعندما سلّموا بوجوبيَّة التخارُج منها، إذا هُم يُبرمون الصفقة على شرط العدوّ. فكأنهم يضحّون بحصيلة شهور الاستنزاف الطويلة، ويخرجون من الميدان دون بندقيَّةٍ أو ترضية؛ ولو رُفِعَت الكفوف بعلامات النصر.


وتفسير المُجمَل من القول السابق؛ أنهم تكبّدوا كامل الأعباء والتكاليف عن المُغامرة التى تجنّبوها، ولم يحتفظوا بشىءٍ من الأوراق التى تساهلوا وأبدوا قدرًا عظيمًا من الرخاوة والمُهادنة لأجلها.


أى توصّلوا من طريق التعقُّل إلى ذات ما كان يُبشّر به الجنون؛ ولو أنهم ربطوا الساحات ببعضها وأعلنوها حربًا شاملةً من البداية، ما نَقصت خسائرُهم الراهنةُ مقدار حبّة خردل، ولا أُملِى عليهم غير ما أملاه ترامب ونتنياهو بالفعل.


تلكّأت طهران خوفُا على أُصولها الثمينة، واستثمارات أربعة عقود فى بناء مرافق الدفاع المُتقدِّم. كان يُحتَملُ مع الإقدام أن تُبتَر أذرعُها وتتمدَّد النار إلى حصنها المنيع؛ بقدر احتمالية أن تُرهِق الأعداء وتجبرهم على تسوية مُرضية.


أمَّا الإحجام فقد غلّب ما تخوّفت منه على ما كانت تتطلّع إليه، وأعادها إلى محطًّتها الأُولى فى زمن الثورة الخُمينية، وعلى أقصى تقدير إلى تجربة الإنهاك وتجرُّع كأس السمّ أمام العراق ونظام صدّام حسين.


لها أن تُقدِّم سرديَّةَ النصر لجمهورها، وأن تحتفل على الشاشات وفى الشوارع؛ لكنَّ الوقائع تُنبئ عن صورةٍ سوداويَّة تمامًا، إن لم تُشطَب فيها «حماس» من أرصدتها؛ فأقلّه أن تُبعَد عنها تمامًا، مع انتهاء صلاحية الاستثمار فى ورقة فلسطين والتجارة بها.


والحزبُ يتحلّل من الداخل ببطء، وتهضمه الساحة اللبنانية بصبرٍ وأناةٍ. أمَّا الحوثيّون؛ فلن يطول بهم المقام على الحال التى اعتادوها، وسرعان ما ستتشكَّل ورشة إقليمية ودولية للإجهاز عليهم، ولن يكون بمقدور القلب أن يُسعِفهم بضخّ الدم وتعزيز اللوجستيات الضرورية لاستدامة الوجود.


يتشكَّل مشروعٌ وطنى مُغاير للعقدين السابقين فى العراق؛ ربما يتباطأ أو يتعثّر قليلاً، لكنه ماضٍ على أيّة حالٍ نحو الخروج من ظلال الهيمنة الإيرانية. وقد غادرت سوريا من غير رجعة، وانكسر الهلال الشيعى من الخاصرة.


عادت الجمهورية الإسلامية إلى حدودها التاريخية؛ غير أنها تلعق جراح الجسد المُثخن، وتتباكى وحدها على الأحلام المتهدّمة، دون فرصة للتسرُّب من فراغات الخرائط؛ حتى ولو للوقوف على أطلالها لمرّة أخيرة.


كان الإقليم هشًّا؛ لكنها زادته هشاشة. ربما تُغطّى عداوة البعث على جنايتها فى بغداد؛ لكن السوريين لن ينسوا آثار خُطاها الثقيلة على وجه الشام، ولن يغفر لها القحطانيون ما أحدثته فى يَمَنِهم السعيد، أو الذى كان سعيدًا قبل زمن غابر.


وبالتأكيد ستظلُّ تراجيديا التفكيك والاستقواء ماثلةً أمام عيون اللبنانيين، ويُؤرِّخون لنكباتهم بتأسيس الحزب فى العام 1982، وباغتيال الحريرى واقتحام العاصمة وفرض الثُلث المُعطِّل، وغيرها من الحلقات البائسة، كما بالغزوات الصهيونية واحتلال بيروت ووقوف العدوّ اليوم على خمس نقاطٍ من الجنوب.


يتعالى الجدار النفسى؛ بقدر ما تتهاوى جُدران المحور وأسوار قلاعه الساقطة. يضعُف الحلفاء وتتضاعف المرارة فى حلوق المُناوئين، ويقع على عاتق الحالم اليوم أن يعتذر عن خيالاته لطيف لا حصر له، ولنفسه أوّلاً، وأن يتوب عنها توبة نصوحًا، ويُفتِّش عن مسارات صعبة ومُتعذّرة للاستدراك والتصويب. فاتحتها إخلاء التمركزات القديمة جبرًا، وأقساها التعرّى أمام المرآة والذاكرة الشعبية الساخنة، وأخطرها الحاجة إلى إعادة هيكلة السلطة الثيوقراطية، أو مُعاينة تفسُّخها وتآكل أركانها من الداخل.


الصهاينةُ متوحّشون منذ البداية، وازدادوا توحُّشًا فى الجولة الأخيرة، وتعاظمت مطامعهم مع إرخاء الفرصة المثالية وتتابع المكاسب السهلة. وعلى كل نقائصهم وشرور أنفسهم؛ فلا يُمكن القفز على حقيقة أن وقود انفلاتهم الأخير دبّرته الممانعة تطوّعًا، وفتحت لهم مدخلاً على الأهداف التى كانت مُستحيلة أو مُرجأة، وأعانتهم على إخراج السيناريوهات التراجيدية المؤسفة من الأدراج.


الغايات معروفة؛ لكنّ تظهيرها وتسريع وتيرتها يتّصل بارتباك الشيعية المُسلّحة، وبانكشافها فى التفكير والتدبير، ومُطاوعتها لتقنيّات الاستثارة والترويض، وانعدام قدرتها على المُناورة فى التكتيكى والاستراتيجى على السواء.


بُنِيَت منظومةُ الأدوات الإيرانية بمنطق الدفاع لا الهجوم؛ ولغرض واحدٍ يبدأ وينتهى عند الذود عن الجمهورية الإسلامية. ما يعنى أن فاعليتها جميعًا انقضت بمجرّد بدء الاشتباك بالأصالة مع إسرائيل فى أبريل 2024، ثمّ التصويب على طهران نفسها فى أكتوبر الماضى. وأن الاستعراض الأخير فى سماء فارس لم يكُن للإجهاز على البرنامجين النووى والباليستى حصرًا؛ بل لاستكمال مراسم القطيعة الكاملة مع الامتدادات الخارجية، وتأطير الدولة بحدودها الطبيعية، وقَطع الحبل السُّرّى بتغذيته الرعوية والراجعة؛ بحيث ينقطع عنه الدعم، وتنقضى إمكانات اضطلاعه بأدوار الإسناد وحراسة القلعة والعمامة.


لم يتوقَّع الملالى أنهم سيحتاجون لخوض الحروب من النقطة صفر، ولا أنَّ جغرافيّتهم الأصيلة ستكون مَدعوّةً للاشتباك فى أىِّ مفصلٍ قادمٍ.
عزّزوا إمكانات الميليشيات الولائية والمصلحيّة وتناسوا أنفسهم؛ فكان سهلاً على عصابة نتنياهو أن تُضعِف الأطراف ثم تذهب إلى المركز دون خوفٍ أو مُخاطرة، وأن تُسقِط المهابة ودعائيات السنين الطويلة بتكلفةٍ لا تكاد تُذكر.


بدت المُعادلة مُرضيةً تمامًا للعمائم المُقدّسة. وليس أمتعَ من الجلوس على قمّة الهرم؛ ولو كان خائرًا من قواعده.


أَضعِفت دفاعاتُها فى ضرباتٍ سابقة، واستهلكت شهورًا ولم تُعوِّض فواقدها؛ حتى أنها تلقّت الضربة التالية باستخفاف أكبر.


ويُنسَب للرئيس الروسى فلاديمير بوتين القول؛ إنهم عرضوا على الإيرانيين بناء منظومة دفاع جوّىٍّ مُتطوّرة؛ لكنهم تعاملوا مع العرض برخاوةٍ ولا مُبالاة. وليس ذلك عن تضحيةٍ مجّانية بالنفس؛ بل عن وَهمٍ مُفرطٍ بالحصانة وعدم الاحتياج من الأساس للجاهزية وإعداد ما استطاعوا من رباط الخيل.


وهكذا؛ فبعدما كان الراحل حسن نصر الله يضع ضاحية بيروت فى مقابل تل أبيب؛ صارت طهران نفسها فُسحةً لطيّارى الصهاينة ومُقاتلاتهم.
الخيال المُكثّف أشاع أن الساحة الإيرانية دونها الهلاك؛ فاكتشف الإيرانيون قبل غيرهم أنهم كانوا أضعف من الأتباع، وأنَّ العدو، الذى هو أوهن من بيت العنكبوت؛ توصّل إليهم بأيسر مِمَّا نال من الحركة والحزب.


وإذ انقضت اللوثة على ابتلاع ضربة قاسية فى فوردو ونطنز وأصفهان، وتنسيق ردٍّ رمزىٍّ عليها فى قاعدة العديد القطرية؛ فالمُؤكَّد أنَّ ما خَفِىَ أكبر، والصفقة تنطوى ضمنيًّا على الانسحاب وإعادة التموضع، وعلى إعادة بناء توازُن الرعب والردع تحت سقفٍ شديد الانخفاض، لا ترفعه أن يُنفّذ الحرس الثورى ضربةً على بئر السبع قبل دقائق من إنفاذ اتفاق وقف إطلاق النار، ولا يُخفِّف من تداعياته أنَّ النظام ما يزال قائمًا، والرؤوس على حالها فوق الأعناق.


ضحّت صقور الجمهورية فى الميدان، بما منعوه على الحمائم والساسة فى غُرف التفاوض. والمُحصّلة أن المرافق الحيوية فى منظومة القوّة الفائقة قد تضرّرت، وفكرة التخصيب شُطِبَت عمليًّا بلا اتفاق عليها، ودون حاجة للاختلاف فى النِّسَب والحدود المقبولة.


ارتضت رأس السلطة بالقبض على ما تبقّى، والانكفاء على ذاتها اكتفاءً ببقاء النظام ولو زال المشروع. إنه خيار الضرورة إذ يُختَزّل فى الحدّ الأدنى من الوجود، ويتأهّب لمواجهة اعتلالات الداخل بمخاطرها المفتوحة على التداعى والصراعات البينية؛ لأنه لم تعُد ثمّة فرصة لخلط الأوراق، أو تصدير الأزمات إلى ما وراء الحدود المُخترقة غزوًا ومن الأعماق.


فتحت الضربة الأمريكية ثغرةً للمُرشد ورجاله؛ تُجنّبهم مزالق المواصلة اليائسة أو الاحتراق البطىء. بإمكانهم التستُّر بدعاية الصمود أمام الشيطان الأكبر وربيبته الصغيرة، وأنهم لم يُفرّطوا أو يُعطوا الدنيّة فى دينهم ودُنياهم، وهيهات مِنّا الذلّة كما كان يصرخ نصر الله لعقودٍ.
النصر هُنا وجهة نظر لا حقيقة مؤكَّدة، ويُكتَفَى منه بالإيحاء، وبأقلِّ قدرٍ يصلح للاستهلاك الداخلى.


القاعدة الشعبيّة عادت لصدارة المشهد؛ ولا قيمةَ لمشاعر المُشايعين والمُتأجّجين عاطفيًّا من بيئات المُمانَعة وكارهى الاحتلال. المُهمُّ أن يَثبُت الشارع ولا ينتفض أو ينقلب على حكومته، وليذهب المُراهنون على الثورة من خارجها إلى الجحيم.


صار لديهم مخزون عظيم من اليورانيوم المُخصّب لحدود 60 % أو يزيد، ولا مُنشآت لاستيعابه أو تحسينه وتحويله. إنه الانصراف عن المادى بالمعنوى، والاغتناء بالدعاية؛ ولو تعرّت من الاقتدار والفاعلية. بالضبط كما جرى فى سيناريو الخروج من الميدان بأنفٍ نازف ولسان صاخب.


كان الردُّ على ترامب دراما مكتوبةً برداءة واضحة؛ وحتى الهالة الرمزية فيها لم يحترمها الرئيس الأمريكى. واصل الرجل هُوايته فى التنمّر والإزعاج، وأفصح علنًا عن الاتفاق المُسبَق على وقته، ولم يصطبر عِدّة سنوات كما فعل فى التجربة السابقة، عندما عقّبت إيران على اغتيال قاسم سليمانى، بعدّة صواريخ مُحدّدة الاتجاه والإيقاع عند أطراف قاعدة «عين الأسد» بالعراق.


أُخلِيَت القاعدة الجوية على أراضى قطر؛ والأخيرة يُشاد بشجاعتها فعلاً فى الوساطة وجَبر التناقضات، وقبول أن تكون صندوق البريد للرسالة الختامية.


أُطلِقَت رشقةُ صواريخ أقلّ تطوّرًا من المُستَخدَم على جبهة الاحتلال، وأُذِيَع الخبر فى التليفزيون الرسمى على خلفية من الموسيقى العسكرية، ووُصِفَت العملية بالقوية والناجحة؛ استباقًا لمعرفة ما وصل منها وما تقطّعت به السُّبل.


قِيل ابتداء إنها ستّة قذائف، فيما يبدو تناسبًا عدديًّا مع عدد القاذفات الثقيلة من طراز B-2 التى تكفّلت بالإجهاز على منشأة فوردو؛ ثم دقّق المجلس الأعلى للأمن القومى الأرقام قائلاً إنها أربعة عشر، ومُوضّحًا الرمزية فى أن تكون مثيلة لقنابل GBU-57 المُتفجّرة فى باطن جبال قُم. فأكّدت منذ اللحظة الأولى أنها تكتفى بالضربة ردًّا وحيدًا، وتُصفّى الفرع مع الولايات المتحدة، استعدادًا لتصفية الأصل فى النزاع مع إسرائيل.


لم يكُن مقصودًا الإيذاء، ولا حتى الإزعاج. افتُقِدت المُبادأة أصلاً بالتنسيق، والمُفاجأة بالإخطار المُسبَق، والفاعلية بالاعتماد على طرازات قديمة وقليلة السرعة والأثر؛ حتى أنَّ من جُملة الذخيرة المُطلقة أُسقِطت ثلاثة عشر، وتُرِك الأخير ليسقط فى مساحة خالية، بدلاً من إهدار مضادّ أرضى بثلاثة ملايين دولار على صدّه.


أُرِيد الرمز لا القتل، الرسالة لا الأثر، الدعاية لا الثأر فعلاً. واكتفى سيِّد البيت الأبيض بالتعقيب لفظيًّا، وأُغلِق الملفّ على توابيب الغزّيين كالعادة.


كانت رسائل ترامب إمعانًا فى الإهانة، ورغبةً فى التعرية؛ لكنها لم تكُن تُهدِّد بإفساد الصفقة المُبرمة.


استنفد الأطراف جميعًا أغراضَهم بتحقيقها أو التأكُّد من استحالتها. لا إسرائيل قادرة على إسقاط النظام، ولا الأخير بمقدوره أن يهزم الغُزاة، أو يُنقذ المُوالين، أو يستمر فى القتال الأبدىّ بلا أُفقٍ أو بديل؛ والأعباء تتزايد كُلّما طالت المواجهة.


ومن هُنا أحرز داعيةُ السلام من خلال القوّة علامتَه الكاملة، وأجهَز على الخطر النووى المُعَمَّم، ولم يخذل الحليف الإسرائيلى، أو يمنحه انتصارًا حاسمًا.


تلقّت طهران لكمةً أفقدتها التوازن؛ ولم تقتلها، وأعاد نتنياهو ترميم قدرٍ من شعبيّته المُتآكلة، وبإمكانه العودة إلى ساحته الأصيلة بعدما قضى على وحدة الساحات، ووزّعها على توابيت بعرض الإقليم، وأُرسِلَت شهادة وفاتها لواشنطن فى صندوق بريد قطرى.


استعراض ترامب الأخير ينُمّ عن هشاشة لا قوّة؛ إذ كان بإمكانه ألّا يُخلى القاعدة، وأن يختبر قوّة ردعه الحقيقة أمام رغبة الثأر الشيعية. الجميع خرجوا من المشهد ضُعفاء نفسيًّا؛ لكن الفوارق واسعة فى الصورة والرمز والمُكتسبات.


المهم؛ أنّ المنطقة يُعاد ترتيبها، ويتوجّب ألَّا يغيب العرب عن الطاولة، ولا أن يتنازعوا فيما بينهم على هوامش لن تُغنيهم عن المُتون.


سيتجرأ نتنياهو أكثر، ولن تتوقَّف مُحاولات المُمانَعة عن تعويض خسائرها على حساب الآخرين.


المجال خاوٍ من العقل والمُبادرات، والسياق يفرض إنتاج مُقاربة إقليمية أكثر جدّية وابتكارًا، وأقدر على سدّ الثغرات فى جدار الاعتدال، وصدّ الهجمات المُتوقّعة من الأُصوليَّات، المُنتصرة والمهزومة بالتساوى.


بدأ الطوفان بتوابيت وانتهى إلى صناديق بريد. ما يزال الأبرياء يموتون فى عراء غزّة، ويتلمّظ الصهاينة لمضغ ما تبقّى فى فلسطين، بعدما فرغوا من طبقهم الشهىّ فى جبال فارس.


يلوح الهدوء فى الأفق؛ إنما عادة المنطقة أنها ما تنطفئ إلا لتشتعل، وقد نُحيّت أثقالها القديمة وأُسقِطَت الكوابح القادرة على الضبط وترشيد الحركة.


استعادة حماس من ضلالتها أولويّة، والتئام الجسد المُتشظّى فريضة لا فضيلة، وترميم الجسور مع طهران حاجة ظرفيّة عاجلة. استتابة الحزب، واحتواء الحشد الشعبى، والخلاص من اللوثة الحوثية بصفقة أو معركة. البيت الإقليمى أحوج ما يكون لإعادة الترتيب، وقد آن للضعفاء ألا يستقووا على بعضهم، وللخيال أن يُعانق الواقعية، ويرى السمّ فى أوصال الحيّات؛ بدلاً من مُعانقتها والاستكانة لنعومتها الخادعة.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

إنشاء فندق صغير أمام مسجد الحاكم بأمر الله ضمن مشروع القاهرة التاريخية.. يضم 36 غرفة ومبنى على الطراز الإسلامى.. ترميم واجهات العقارات بـ 5 مناطق تاريخية.. والمشروع يعيد الشكل الحضاري لأقدم مناطق القاهرة.. صور

شائعة ثمنها الحبس.. 3 سنوات وراء القضبان لمروجى الأكاذيب على السوشيال ميديا

بنفيكا يتحدى تشيلسي في ثمن نهائي كأس العالم للأندية

محافظ الجيزة يعتمد غدًا تنسيق القبول بالثانوى العام والفنى

الزمالك يُنهي التعاقد مع المدرب الأجنبي الجديد..والإعلان الرسمي خلال 48 ساعة


الأهلى يناقش مع ريبيرو ملف الصفقات والراحلين فى اجتماع غدا

أخطاء مرورية تعرض السائق لسحب تراخيصه.. اعرف التفاصيل

وزارة العمل تواجه عمالة الأطفال.. تنفيذ أول مسح قومي لرصد الظاهرة.. خطة وطنية للقضاء على أسوأ أشكال عمل الأطفال.. توفير حماية اجتماعية للأسر.. وتوسيع قائمة المهن المحظورة لتشمل كل ما يضر بالطفل نفسيا وبدنيا

ديربي برازيلي بين بالميراس وبوتافوجو فى افتتاح ثمن نهائي مونديال الأندية

أوروبا تصفع شركات التكنولوجيا.. تأييد غرامة قياسية لجوجل تتجاوز 4 مليارات يورو.. تغريم تيك توك 350 مليون يورو بسبب تسريب بيانات.. والأوروبيون يهجرون التطبيقات الأمريكية على خلفية التوترات السياسية مع ترامب


محمد هانى يتخطى متعب وفتحى وشادى محمد فى قائمة الأكثر مشاركة مع الأهلى

موعد مباراة بنفيكا ضد تشيلسي في كأس العالم للأندية

مصرع 3 من أسرة واحدة فى انقلاب سيارة من أعلى كوبرى قويسنا بالمنوفية

حبس السائق المتسبب فى مصرع 19 شخصا بالمنوفية وإجراء تحليل مخدرات له

تنسيق الجامعات 2025.. القائمة الكاملة للجامعات التكنولوجية

حقيقة اقتراب المهدى سليمان من الانتقال للزمالك لتدعيم حراسة المرمى

حزب الجبهة يقدّم 100 ألف جنيه لأسرة كل متوفى و50 ألفا لكل مصاب بحادث المنوفية

تقارير: زيزو على رادار بشكتاش وفناربخشه فى تركيا

مع قرب فتح باب التقدم.. شروط الالتحاق بمدارس المتفوقين للعام الدراسى 2026

انهيار وإغماءات بين أسر ضحايا حادث الطريق الإقليمى خلال الجنازة.. فيديو

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى