سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 25 يونيو 1921.. الحكومة توافق على إقامة تمثال «نهضة مصر» لمحمود مختار فى ميدان المحطة ورئيس الوزراء يصفه قائلا: «كبير القيمة من الوجهة الفنية ومن صنع مصرى»

تقدمت لجنة «إقامة تمثل نهضة مصر» بطلب إلى الحكومة بالترخيص بإقامة التمثال فى ميدان المحطة «رمسيس»، فأعطت الحكومة موافقتها يوم 25 يونيو «مثل هذا اليوم»، 1921، حسبما يذكر الدكتور بدر الدين أبوغازى فى كتاب «المثال مختار»، مضيفا أن قرار الحكومة اشتمل على «أن يكون إنشاء القاعة وإقامة التمثال تحت إشراف وزارة الأشغال».
كان «عدلى يكن باشا» هو رئيس مجلس الوزراء الذى اتخذ هذا القرار، وكانت المذكرة التى قدمها إلى المجلس ووافق عليها كلها إشادة بقيمة التمثال، ومما جاء فيها: «تمثال نهضة مصر من الأعمال التى تتجلى فيها قوة الخيال والتصوير، وهو كبير القيمة من الوجهة الفنية، ويزيد فى قيمته ويجعله حقيقا بعناية خاصة أنه من صنع مصرى، فلهذه الأسباب أشير على مجلس الوزراء بمنح الرخصة المطلوبة، وسيوكل إلى وزارة الأشغال العمومية الإشراف على أعمال بناء القاعدة ونصب التمثال».
كان هذا القرار إحدى المحطات فى قصة هذا التمثال الذى يعد فى رأى «أبو غازى»: «أول تمثال فى تاريخنا الحديث صنعه مصرى، وجاء تعبيرا عن فكرة قومية، ومعنى هز مشاعر الجموع وبه بدأ الإحساس بالفن كضرورة قومية، وكان لظهور التمثال، وإقامته من أحجار الجرانيت دلالات رمزية ردت إلى الناس الثقة وجعلته نشيدا من أناشيد الأمل فى عصر النهضة.. وراء هذا التمثال قصص كفاح طويل سجلت الصراع بين إرادة الشعب وسطوة السلطان، بين الدعوة إلى الحرية وبين القيود، بين بيروقراطية الحكام وحرية الفنان».
كل هذه المعانى وغيرها اجتمعت فى هذا التمثال الذى أبدعه محمود مختار «فتى مصر الذى لو مدت به الحياة لمضى بأمته فى طريق من المجد، كان يمضى فيها موفقا، أحسن التوفيق، فائزا أعظم الفوز»، وفقا للدكتور طه حسين فى جريدة «كوكب الشرق»، يوم 28 مارس 1934.
يذكر أبو غازى، أن خطوات عمل هذا التمثال بدأت منذ أن كان فكرة ولدت فى باريس بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى «11 نوفمبر 1918»، وكان محمود مختار يعيش فى باريس وقتئذ وشقت سمعته عنان السماء فى فن النحت، كان فى نفسه ثورة تتأجج من أجل بلاده، وصب ثورته فى تمثال على غرار الأناشيد البطولية الثائرة التى نحتها «رود» صاحب تماثيل «قوس النصر»، تمثال يصور الأمة الغاضبة، وقد استلت سيفها لتحارب المستعمرين.
بدأت حملة اكتتاب لإقامة «التمثال» فى أحد ميادين العاصمة ودعا إليها أمين الرافعى فى جريدة الأخبار، ونشر نداء الاكتتاب تحت عنوان «نهضة مصر - دعوة إلى الأمة المصرية»، ولاقت تجاوبا كبيرا من المصريين، وبلغت قيمة الاكتتاب ستة آلاف وخمسمائة جنيه، واعتمدت الحكومة له 12 ألف جنيه، ثم ثمانية آلاف أخرى، وتشكلت لجنة له برئاسة حسين رشدى وعضوية ويصا واصف، واصف غالى، الدكتور حافظ عفيفى، محمد محمود خليل، عبدالخالق مدكور، فؤاد سلطان، عبدالقوى أحمد، أمين الرافعى، وفى يوم 25 يونيو 1921 أعطت الحكومة الموافقة على إقامة التمثال فى ميدان المحطة، وتغيرت الحكومة، ووضعت حكومة إسماعيل صدقى العقبات أمام استكمال المشروع، لكن لم يصمت المصريون، فحسب أبوغازى: «تحول التمثال إلى شعارات اتخذها المصريون عنوانا، وأخذت الصحافة تنادى بإتمام هذا العمل العظيم، وتنشر صور التمثال فى أولى صفحاتها»، وأخيرا تحققت لحظة الانتصار الكبرى بإزاحة الستار عن التمثال يوم 20 مايو 1928.
يكشف «أبو غازى» عن طبيعة محمود مختار الثائر على الأوضاع، مشيرا إلى أنه يوم إزاحة الستار وفى لحظة الاحتفال الباهر، انعزل عن مظاهر الاحتفال مع مجموعة من الأصدقاء، وعندما طلب الملك فؤاد استدعاءه، وبحث عنه رجال التشريفات فلم يجدوه، وبدأ الحرج يرتسم على الجو، وأخيرا عثروا عليه بعد بحث فى الجانب الآخر من الميدان يمزح مع بعض الأصدقاء.
استغرق محمود مختار فى عمل التمثال ستة أشهر، لكنه انتظر شهورا لإزاحة الستار عنه، وعقب افتتاحه ترددت فى البرلمان رغبة فى مكافأته، فقال رئيس الوزراء: «إن المجد والفخار اللذين أحرزهما مختار بإقامة تمثاله فى أكبر ميادين العاصمة يفوق كل مكافأة مادية»، ولم يحصل على أى تقدير رسمى من نياشين أو أوسمة، وفى رسالة منه إلى وزير الأشغال العمومية قال: «إزاء العطف الذى أظهرته نحوى الأمة والبرلمان والحكومة وما طوقتنى به من المعروف بالمساعدة على إنجاز التمثال الذى أعده مفخرة فى حياتى، أقر لمعاليكم من الآن بأننى أترك أمر التعويض المذكور لمحض تقدير الحكومة بعد إنجاز التمثال وتسليمه دون أن يكون لى الحق فى الالتجاء إلى أية سلطة قضائية أو غيرها فى شأن ذلك عدا البرلمان».
Trending Plus