الهجرة النبوية.. مشروع حضاري متكامل

تعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة لحظة تأسيس حضاري في التاريخ الإسلامي وميلادًا لأمة جديدة، ونقطة تحول شاملة في بنية المجتمع الإسلامي ووعيه بذاته وبرسالته، حيث شكلت انتقالًا واعيًا ومدروسًا من مرحلة الاستضعاف إلى أفق التمكين والوحدة والانتقال من مجتمع تقليدي تغلب عليه العصبية والانغلاق، إلى مجتمع منفتح يبنى على القيم والرسالة والمواطنة الجامعة، ومن يتأمل هذا الحدث تتجلى فيه معاني القيادة الرشيدة وبناء الدولة وصناعة الإنسان.
وشكلت الهجرة النبوية فعلًا استراتيجيًا جمع بين حكمة القيادة ممثلة في شخصية النبي ﷺ، ودقة التخطيط وروح التوكل والشجاعة والإيمان، وهو ما جعل منها نموذجًا خالدًا في إدارة الأزمات، وتحويل التهديدات إلى فرص، فالنبي ﷺ لم يغادر مكة بقرار عفوي، ولكن قرأ الواقع واستبصر آفاق المستقبل وجاءت استجابة مدروسة لواقع متأزم واستشرافًا لمستقبل أكثر عدلًا، وقد مثّلت المدينة المنورة البيئة الملائمة لانطلاق المشروع الإسلامي، فكان أن تحولت الهجرة إلى منصة لتأسيس أول دولة إسلامية تقوم على مبادئ العدل، والمساواة، والتعدد، والتكافل الاجتماعي، وتنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة.
لقد أطلقت الهجرة النبوية مشروعًا حضاريًا غير مسبوق أعاد صياغة مفهوم القوة باعتبارها القدرة على تحقيق العدل والتنظيم وصناعة السلم الاجتماعي، وأرست قواعد راقية للتعايش وبناء العلاقات، جمعت بين الإيمان والوحدة والتنوع في إطار من الاحترام المتبادل والحقوق المتكافئة، ومن خلال وثيقة المدينة وضع أول نموذج لدستور مدني ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ويؤسس لمفهوم المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المشتركة، حيث قامت الدولة على القانون والشراكة، فتشكل المجتمع من المسلمين مهاجرين وأنصار وغيرهم، ضمن عقد اجتماعي ينظم الحقوق ويصون الحريات ويحدد المسؤوليات، وبذلك فتحت الهجرة أفقًا حضاريًا وأطلقت مشروعًا إنسانيًا وأخلاقيًا يتجاوز الحدود والأنساب، ويؤسس لأمة تعلي من قيمة الإنسان وتحمي العقيدة وتنظم المجال العام وتدير التنوع وتبني علاقتها بالآخر على أساس الحق والكرامة.
وقد حملت الهجرة مشروعًا لإعادة تشكيل الوعي الفردي والجمعي وفق منظومة جديدة من القيم والاتجاهات، تقوم على الإيمان والحرية والمسؤولية، فالتربية النبوية في المدينة تعد نموذجًا لصناعة الإنسان القادر على التعايش، والمستعد لبذل الجهد من أجل الصالح العام، فمن خلال بناء المسجد كمركز روحي واجتماعي، وإقرار نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتفعيل مبادئ التكافل والتضامن، انتقل المجتمع إلى فضاء الوحدة والتعاون، ولم يكن النبي ﷺ يكتفي بتعليم العبادات، ولكن كان يغرس في أصحابه الوعي بالقيمة، وبأهمية الصدق، والوفاء، وحفظ الحقوق، واحترام الآخر، وهي مبادئ تنهض بالمجتمعات حين تكون تربية الأفراد فيها قائمة على تحرير الضمير وتزكية النفس، فالهجرة النبوية تعد مشروعًا تربويًا بامتياز استطاع أن تؤسس حضارة بقيت آثارها شاهدة حتي يومنا هذا.
وتظل الهجرة النبوية حدثا مفصليًا يمتد أثره إلى الوجدان الإنساني والوعي الحضاري، خاصة في ظل ما يشهده العالم من اضطرابات فكرية، وانهيارات قيمية فهي كمشروع تربوي متكامل انطلقت منه التربية النبوية وتبلورت فيه أعظم الدروس التي تؤكد أن الإنسان هو الأصل ومحور التحول في أي مشروع حضاري؛ لذلك تعد الهجرة مدرسة في التزكية والتربية والتراحم، تأسس فيها المجتمع المدني النبوي على قيم الحب، والمؤاخاة، والعدالة، والمساواة، فكانت التربية هي القاعدة التي شيد عليها الوعي الجمعي وضمانتها للاستمرار والثبات أمام التحديات، وهنا ندرك أن الأمة تنهض حين تبنى على تربية الإنسان، وإطلاق طاقاته الكامنة وتنمية وعيه وترسيخ القيم التي تعلي من شأنه وتشعره بالانتماء والكرامة، فالتربية في مشروع الهجرة كانت صناعة للضمير وتشكيلًا للرؤية وتفعيلًا للإرادة وتجسيدًا حيًّا للقيم وترسيخًا لسلوك حضاري، يمكّن الأمة من تجاوز الانقسامات، ويمهد لنهضة شاملة تعيد للإنسان مكانته ودوره في عمارة الأرض.
وفي زمنٍ تتعاظم فيه التحديات، تظل الهجرة النبوية مصدر إلهامٍ متجدد، تنير لنا درب البناء وتجديد الوعي فنحن نعيش في عالم تتسارع فيه التحولات وتتعقد فيه الأزمات وتتنازع فيه القوى والمصالح، وتتبدل فيه كثير من القيم الأصيلة تحت وطأة المادية والسطحية والاضطراب الثقافي، وفي خضم هذا المشهد المأزوم تعيدنا الهجرة إلى الجذور، حيث يتم استدعاء مركزية الإنسان في الرؤية والسياسات والمناهج والممارسات بوصفه أساس التنمية وفاعلاً في التاريخ وصانعًا للمستقبل، ولذلك يصبح الرهان على التربية كما جسدها النبي ﷺ في مشروع الهجرة هو المدخل الأصدق لأي نهضة حقيقية لبناء العقل والوجدان.
كما تبرز الهجرة أن الوعي هو الدرع الأصيل في حماية الأوطان، حيث تحمى الأوطان أولًا بالعقول اليقظة التي تدرك ما حولها، والقلوب المؤمنة التي تنبض بالانتماء، والضمائر الحرة التي تقاوم الانحراف، والقدرة الجماعية على فهم الواقع والتفاعل معه بذكاء ومسؤولية، فالوعي الجمعي هو الحصن الذي يمنع تسلل الفوضى، ويحصن الأمة من الانزلاق في مهاوي التبعية أو التفكك، وهو القوة الصامتة التي تدير الصراع في صمت وتحفظ كيان الدولة، فحين يهمل المجتمع بناء الوعي أو تنمية التفكير النقدي والاستقصائي، يصبح عرضة للاختراق من الداخل قبل الخارج، حتى وإن بدا متماسكًا ظاهريًا؛ فالهشاشة الفكرية أشد خطرًا من الفقر، والانهيار في منظومة الوعي أخطر من الانهيار الاقتصادي أو السياسي.
وإذا كان الوعي هو الحصن، فإن القيم هي عمق هذا الحصن وسر تماسكه واستمراره؛ وتؤكد الهجرة النبوية أن القيم منظومة حياة، وبنية أساسية للتماسك الاجتماعي والروحي، فالعدالة، والرحمة، والصدق، والوفاء، واحترام الآخر دعائم تبنى عليها المجتمعات، وأُسس لاستقرارها ونهضتها، وهي الضمانة الأولى لتماسك الأمم واستمرارها، وما يمنحها مناعة أخلاقية تصمد بها أمام رياح التصدع والتفكك والانهيار.
ونؤكد أن القيم تمنح المجتمعات حصانة داخلية تمامًا كما تمنحها التربية حصانة فكرية، وإذا اضطربت الموازين وتكاثفت التحديات، فإن المجتمع الذي تأسس على القيم الأصيلة والتربية الواعية، هو وحده القادر على البقاء، والتجدد، والصمود، فبغير القيم، تهوي الحضارات وتنهار من الداخل، مهما بلغت قوتها المادية، واتسعت أدواتها، ومن هنا ندرك أن الهجرة النبوية كانت ارتقاء في الوعي وترسيخًا لقيم العدل وتأسيسًا لمجتمع يبنى على مشروع حضاري عظيم يعيد ترتيب الأولويات ويثبت المعايير ويضع بناء الإنسان في صدارة الاهتمام بوصفه روح الأمة وجوهر نهضتها ومنهج بنائها الحقيقي في طل مجتمع متماسك قادرًا على حماية هويته وتحقيق نهضته وصناعة مستقبله بإرادة حرة ووعي أصيل.
____
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر
Trending Plus