الهجرة ليست فرارًا بل اختيار لحياة أفضل

في زمنٍ تهرب فيه القيم من زوايا الزحام، وتزداد الأرواح ظمأً وسط وفرة الضجيج، تأتينا ذكرى الهجرة النبوية لتُعيد ترتيب المعاني، وتهمس في أذن القلب بأن الهجرة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل ارتحالٌ من ضيق إلى سعة، ومن ألم إلى أمل، ومن الخوف إلى الحضن الآمن.
هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لم تكن خضوعًا، بل صعودًا، لم تكن فرارًا من المواجهة، بل بحثًا عن بيئة تصلح لبناء الإنسان والرسالة، فحين ضاقت الأرض بما رحُبت، وحين خُنق الحق بين طيات العناد، جاء القرار الرباني: غادر المكان، وابدأ الحكاية من جديد.
ليست الهجرة درسًا دينيًا فقط، بل هي خريطة حياة، كل منّا يحتاج إلى "هجرة" بطريقته، هجرة من الكسل إلى السعي، من السلبية إلى المبادرة، من العلاقات السامة إلى راحة القلب، من أماكن تؤذينا إلى مساحات تمنحنا الحياة.
من أراد أن يبقى في مكانه رغم الخنق، سيتحول إلى ظل باهت، ومن تمسّك بجدران لا تحميه، سيُصبح شاهدًا على موته البطيء، أما من هاجر بإرادته إلى حياةٍ أنظف، فقد فهم رسالة الهجرة، وفهم أن النجاة تبدأ بخطوة.
وفي الهجرة النبوية معانٍ لا تنفد: فيها درس في التخطيط حين رتب النبي وصاحبه الطريق والمبيت والزاد، وفيها درس في الصبر حين مكث في الغار مطاردًا لا مذعورًا، متوكلًا لا مهزومًا، وفيها رسالة في اختيار الرفيق، فالصديق وقت الشدة هو ظِلّ الأمان، وفيها إثبات أن تغيير الواقع ممكن، إذا تحرّك العقل قبل الأقدام، وإذا تحرّك القلب بنية صادقة.
أما نحن، فكم من مشاكل نقيم فيها كأنها أوطان؟ كم من علاقات نبقى فيها بدافع العادة؟ كم من أحلام أجلناها لأننا خفنا أن نتحرك؟
الهجرة تذكرنا أن البقاء ليس دائمًا بطولة، وأن التحرك ليس دائمًا خيانة، أحيانًا، لا تكون الجدران التي تحيطك أمنًا، بل سجنًا، وأحيانًا، لا يكون الفرار هروبًا، بل تحريرًا للنفس من قيودها، فلنحتفل بالهجرة لا كذكرى فقط، بل كفكرة حية.
كلٌّ منّا يملك غارًا ينتظره، ودربًا ينتظر أن نبدأه، ومدينة فاضلة قد نجدها إن هاجرنا ما يؤذينا.
الهجرة النبوية حدث غيّر مجرى التاريخ، فهل نمتلك نحن شجاعة أن نُغير مجرى أيامنا؟
Trending Plus