حتى لا ننسى الأبطال.. فى ذكرى وفاة اللواء باقى زكى يوسف

عادل السنهورى
عادل السنهورى
بقلم عادل السنهورى

قبل وفاته بأسابيع قليلة وفى أحد البرامج التليفزيونية فى التليفزيون المصرى تسأل المذيعة اللواء متقاعد المهندس باقى زكى يوسف صاحب فكرة خراطيم المياه فى حرب أكتوبر المجيدة:

- يا فندم.. طوال السنين اللى فاتت لم تشعر بعدم التكريم والاحتفاء اللائق بك وحسيت بمرارة..؟

يحدق اللواء البطل فيها ويصوب نظره إلى المذيعة باندهاش ممزوج باستنكار ويعلو صوته: "مرارة إيه..؟ وعدم تكريم إيه..؟؟ أنا يا بنتى أول ناس عدت من الممرات اللى فتحناها بخراطيم الميه يوم 7 أكتوبر الصبح.. تعرفى يا بنتى وأنا معدى منها كانت رقبتى أطول من مبنى التليفزيون بتاعكم ده..". (بالمناسبة وللعلم.. مبنى ماسبيرو، الذى يضم مبنى الإذاعة والتلفزيون المصرى، يبلغ ارتفاعه 143 مترًا، ويتكون من 42 طابقا).

بعد أيام من ظهوره على شاشة التليفزيون الذى تجاوزت هامته ارتفاعه يوم العبور المجيد فخرا وشرفا بنجاح فكرته العبقرية، وفى مثل هذه الأيام يرحل عن عالمنا اللواء باقى زكى يوسف يوم 23 يونيو عام 2018 بعد أن سطر حروف اسمه من ذهب فى سجلات الشرف وأصبح اسمه مرادفا للعبقرية العسكرية المصرية، فهو البطل الذى حمل فكرة بسيطة فى عقله وقلبه، وتحولت بإيمانه وعبقريته إلى مفتاح النصر الذى كان أحد أبطاله الحقيقين. فكرته الجريئة، التى وصفت بـ"الطفاشة" غيّرت مجرى التاريخ العسكرى، حين حطمت ساترا صعبا منيعا وأسقطت حصنًا كان يعتقد أنه خط منيع وهو خط بارليف.

فى قرية صغيرة بمحافظة الشرقية، ولد باقى زكى يوسف يوم 23 يوليو عام 1931 وتدرج فى تعليمه حتى التحق بكلية الهندسة جامعة عين شمس قسم الميكانيكا وتخرج منها عام 54. التحق بالقوات المسلحة كضابط مهندس ثم تم انتدابه للعمل فى مشروع السد العالى. وكان واحدا من المسؤولين عن تدمير الجبال المحيطة فى منطقة بناء السد، وأحد المسئولين عن التعامل مع الطلمبات. لم يكن يعلم حينها أن دراسته وعمله بالسد العالى ستقوده إلى واحدة من أعظم الملاحم العسكرية فى التاريخ.

أثناء الانتداب والعمل فى السد العالى وقعت هزيمة يونيو 1967 واحتلت إسرائيل سيناء، وشيّدت حصنًا ترابيًا على الضفة الشرقية لقناة السويس، وخطا عسكريا باسم "خط بارليف". كان هذا الخط عبارة عن ساتر ترابى ضخم، مدعوم بحقول ألغام ونقاط نارية، لمنع أى محاولة مصرية لاستعادة سيناء. وتوهمت إسرائيل أنها بذلك ضمنت احتلالا دائمًا.

يعود المقدم باقى زكى يوسف إلى الجيش بعد انتهاء انتدابه بالسد العالي. عاد لمكانه فى سلاح المركبات واستلم الخدمة وجاءت وقفته أمام الساتر الترابى، يتأمله ويدرسه عن بعد ويتذكر جبال أسوان التى تحطمت بطلمبات المياه.

كانت الاستعدادات تجرى على قدم وساق لإعادة بناء الجيش ووضع خطة الانتصار فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة وتحرير الأرض وإزالة آثار العدوان.

فى مايو 1969من عام، فى غرفة اجتماعات بسيطة، يستدعى اللواء سعد زغلول عبد الكريم قائد الفرقة 19 مشاة، قادة الفرقة لمناقشة خطة اقتحام خط بارليف. الخطة كانت تبدو مستحيلة مع الدعاية الضخمة عن الساتر والخط. بين القادة الحاضرين يجلس المقدم باقى بصفته قائداً للفرقة 19 مركبات يستمع إلى النقاشات التى دارت حول قوة العدو وتعقيدات تحصيناته. يمر الوقت والنقاش مستمر ومحتدم والأفكار كثيرة. فجأة والقادة مشغولون فى النقاش يرفع باقى يده بهدوء طالبا الكلمة. نظر إليه اللواء سعد زغلول وباقى القادة بفضول، يشير إليه القائد بالحديث.. فبدأ يتحدث: "نحن نملك قوة عظيمة..".

يتبادل القادة فى اندهاش واستغراب وبسؤال موجه لباقى "إيه هى يا سيادة المقدم.. اتفضل قول".

يصمت باقى للحظة ثم يمضى فى الحديث: "المية يا فندم.. يمكننا استخدام طلمبات ماصة كابسة، تسحب المياه من القناة وتضخها على الساتر الترابي. انحدار الخط يجعله مثاليًا لهذا. نضع طلمبات على طول القناة، ونفتح ثغرات بالطول والعرض الذى نريده".

يواصل باقى فى الشرح لقياداته: "الساتر الترابى لا يوجد به فقط غلطة واحدة لكنه يحتوى على 3 غلطات تقضى عليه. الأولى أنه مبنى بزاوية مائلة، والغلطة الثانية أنه ليس مبنى فقط بزاوية مائلة وإنما درجة ميله 180 درجة، والغلطة الثالثة أنه على حرف شط القناة".

ساد الصمت الاجتماع. نظر الجميع إلى هذا الضابط الذى بدا وكأنه يتحدث عن شيء من الخيال. شعر باقى بالقلق، لكنه أكمل: "فعلنا هذا فى السد العالي.. كنا نضخ المياه من النيل إلى الجبال، فتنهار الرمال وتترسب".

اللواء سعد زغلول قائد الفرقة يسأله: "وماذا عن الطين الذى سينتج؟" فأجاب باقى بحسم: "ميهمنيش! سأدخل المجنزرات وأطقم التمهيد".

انتهى الاجتماع وهنأ الجميع المقدم باقى على الفكرة الجريئة لكن عليه أن يستعد للاختبار الصعب!

فى صباح اليوم التالى، يقف باقى أمام قائد الجيش الثالث الميدانى، يشرح فكرته بثقة. يطلب منه القائد تكرارها مرة أخرى ثم مرة ثانية. يبتسم القائد ويربت على كتف باقي.

فكرة باقى تدخل فى مرحلة الجد فيستدعيه رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة اللواء ممدوح جاد تهامى ويطلب منه الشرح مرة أخرى. يستمع اللواء ممدوح بتركيز كبير وباهتمام إلى شرح المقدم باقي. وما أن انتهى حتى يقف اللواء ممدوح ويضرب بيده على مكتبه بحماس قائلاً: "يا بنى، هى ما تيجيش غير كده.. برافو!".

على الفور يستدعى اللواء ممدوح، مدير سلاح المهندسين العسكريين، اللواء جمال محمد على، ومعه الضابط شريف مختار، الذى عمل مع باقى فى السد العالى، وقال لهم: "إيه رأيكم فى خطة باقي"، يرد الحاضرون: "أيوة والله يا فندم، لقد نفذناها وفعلناها هناك فى السد العالي".

بدأت الفكرة تأخذ طريقها إلى التنفيذ. عاد باقى إلى وزارة السد العالى، وجمع شرائط وأفلامًا توثق كيفية التعامل مع المياه فى المشروع. عاد إلى قائد الفرقة اللواء سعد زغلول واستغرقت الجلسة أكثر من ساعتين فى مشاهدة شرائط الأفلام، جلسا ساعتين يشاهدان الأفلام، وطلب اللواء سعد تقريرًا رسميًا.

بعد أسبوع، يعود باقى إليه بمسودة الفكرة، لكنه أحرقها أمام عينيه، وقال له: "الرئيس جمال عبد الناصر وافق على الفكرة وقرر أن تستمر التجارب، وتُنفذ إذا نجحت. وأمر الرئيس بتوفير كافة الإمكانيات لدراسة الفكرة من كافة النواحي"، وبالفعل تم تجريب أكثر من نوع من أنواع المضخات، وقاموا بالعديد من التجارب التى زادت على 300 تجربة عام 68 فى حلوان ثم اعتبارا من سبتمبر عام 1969 حتى عام 1972 بجزيرة البلاح بالإسماعيلية، حيث تم فتح ثغرة فى ساتر ترابى أقيم ليماثل خط بارليف الموجود على الضفة الشرقية للقناة. تحت سمع وبصر العدو الإسرائيلى، الذى لم يكن يدرك أو يترجم ما يجرى أمامه على الوجه الحقيقي.

لم تكن الفكرة العبقرية التى أطلق عليها "اسم الطفاشة" أكثر من استدعاء لخبرة باقى زكى يوسف فى استعمال المياه لبناء السد العالى، حيث كان يقوم باستخدام مدافع مائية لتنزيل الرمال فى حوض، ويتم سحبها منه عبر طلمبات ثم دفعها فى البناء، وهى فكرة غيرت الخيال العسكرى تماماً، فقد كان أقل الاحتمالات المطروحة يبدأ بخسائر بشرية لا تقل عن 20%، وساعات لا تقل عن 15 ساعة، لإحداث ثغرات محدودة فى الجدار، بينما فكرة الاستخدام المائى لا تكاد تحمل أى خسائر، وتسمح بتدمير الخط بشكل شبه نهائى، حيث تم إحداث 65 ثغرة خلال ست ساعات، وإزالة 90 ألف متر ترابى تقريباً خلال وقت محدود، ولم يسقط لنا فى مجمل العملية أكثر من 90 شهيداً.

تحولت الفكرة إلى واقع. ونجحت فكرة البطل باقى زكى يوسف فى إزالة 10 ملايين متر مكعب من الرمال، ومع بدء ساعة الصفر فى الثانية ظهر 6 أكتوبر 1973، بدأت المدفعية المصرية أضخم تمهيد نيرانى فى تاريخها، وبدأ اقتحام مانع قناة السويس، فيما بدأ المهندسون العسكريون يواصلون تنفيذ أخطر مهمة قتالية لفتح الثغرات فى الساتر الترابى، لتتمكن 5 فرق مشاة بكامل معداتها من عبور قناة السويس ويرتفع العلم المصرى شرق القناة ويتحقق النصر المبين.

أثبت المهندسون العسكريون تفوق العقلية المصرية جنبا إلى جنب مع المقاتل المصرى، حيث استطاع سلاح المهندسين، بفضل فكرة باقى زكى يوسف من تنفيذ 60 ثغرة فى خط بارليف من بورسعيد وحتى السويس قبل مرور 10 ساعات على بدء الحرب.

انهار الساتر الترابى وأسوار خط بارليف تحت ضغط المياه، وتقدم الجيش المصرى عابرًا القناة، ليحقق انتصارًا أذهل العالم.

عقب المعركة المجيدة وفى فبراير عام 1974، منحه الرئيس أنور السادات نوط الجمهورية العسكرى من الدرجة الأولى عن أعمال قتال استثنائية تدل على التضحية والشجاعة الفائقة فى مواجهة العدو بميدان القتال فى حرب أكتوبر 1973، كما حصل على وسام الجمهورية من الطبقة الثانية من الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك عام 1984 بمناسبة إحالته إلى التقاعد من القوات المسلحة.

وفى 23 يونيو عام 2018 تودع مصر ابنها البار، حيث انطلقت جنازته من كنيسة مار مرقص كليوباترا بمصر الجديدة، وحضرها مندوب عن رئاسة الجمهورية، ووزير الدفاع، ورئيس الأركان، ورئيس الوزراء السابق، المهندس عصام شرف، ونقيب المهندسين، هانى ضاحى، كما نعاه البرلمان المصرى ومجلس الوزراء والكنيسة القبطية، وجهات تنفيذية وشعبية. ويرحل البطل الذى لولا فكرته "لما استطعنا العبور وخوض حرب أكتوبر"، كما قال اللواء سمير فرج.

وبعد وفاة اللواء باقى زكى يوسف، كلف الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، بإطلاق اسم المرحوم اللواء باقى زكى يوسف على نفق شارع التسعين بمدينة القاهرة الجديدة، وهو أحد الأنفاق المهمة، التى تربط بين شارعى التسعين الجنوبى والشمالي.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

آخر موعد لقيد اللاعبين فى القوائم الأولية للأندية استعدادا للموسم الجديد اليوم

الزمالك يُنهي التعاقد مع المدرب الأجنبي الجديد..والإعلان الرسمي خلال 48 ساعة

السيناريست ناصر عبد الحميد: أغنية اسم المسلسل تعبر عن العلاقات

اعرف أماكن استخراج بطاقة الرقم القومى "الفورية" على مستوى الجمهورية

البرازيل والأرجنتين الأكثر تسجيلًا للأهداف في كأس العالم للأندية 2025


قرية أبرق.. جوهرة محمية جبل علبة وأهم قطاعاتها وكنز الجنوب التاريخي والطبيعي.. بها نقوش تدل على آثار الإنسان ما قبل التاريخ.. تحوي بقايا قلعة رومانية قديمة.. وينتشر بها العشب مطلع الربيع والشتاء كل عام.. صور

مصرع 3 من أسرة واحدة فى انقلاب سيارة من أعلى كوبرى قويسنا بالمنوفية

حبس السائق المتسبب فى مصرع 19 شخصا بالمنوفية وإجراء تحليل مخدرات له

تنسيق الجامعات 2025.. القائمة الكاملة للجامعات التكنولوجية

موعد مباراة بالميراس ضد بوتافوجو في كأس العالم للأندية


عرايس الجنة.. كفر السنابسة تبكي بناتها بعد مصرع 19 في حادث المنوفية (فيديو)

بعثة شباب اليد تعود للقاهرة فجر الثلاثاء بعد تحديد مراكز بطولة العالم

ترتيب هدافى كأس العالم للأندية قبل انطلاق دور الـ16

أخبار 24.. شروط الالتحاق بمدارس المتفوقين للعام الدراسى 2026

تقارير: زيزو على رادار بشكتاش وفناربخشه فى تركيا

مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: لا أخفيكم سرا أنا جائع "فيديو"

بعد مصرع 19 فى حادث المنوفية.. أدعية الاستعاذة من فواجع الأقدار

سعد الصغير بعد تخرج ابنته فى الجامعة: "وش السعد أحسن واحدة في الدنيا"

انهيار وإغماءات بين أسر ضحايا حادث الطريق الإقليمى خلال الجنازة.. فيديو

قبل زفافهما المرتقب.. من هى لورين سانشيز خطيبة ملياردير "أمازون" جيف بيزوس ؟

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى