حسين عبد البصير يكتب: "أيام الفاطمى المقتول" سردية موت المثقف

في عمله الروائي الجديد "أيّام الفاطمي المقتول"، الصادر عن دار صفصافة بالقاهرة ودار ميسكلياني بتونس، يقدّم لنا الكاتب التونسي المرموق الدكتور نزار شقرون نصًّا رؤائيًا فريدًا من نوعه فى المشهد السردى العربى المعاصر، يجمع بين الطرح الفكرى الجرىء، والحفر السردى فى طبقات التاريخ والهوية، وبناء أدبى مغاير لا يكتفى بالتمثيل، بل يطمح إلى زلزلة اليقينيات.
الرواية ليست حكاية بالمعنى التقليدى، بل هى نصٌّ يُشبه نداءً خافتًا قادمًا من أعماق التاريخ والجسد، نداء من مثقف عربى يُدعى "مختار الفاطمى"، يُقتل فى زمن "ما بعد الربيع العربى"، ثم يعود كصوتٍ روحيٍّ ليحكي، لا من أجل الحكي، بل من أجل إدانة الواقع، وفضح الآلة التي تطحن كل من يحاول أن يفكر خارج النص المقدّس، أو خارج منظومات الهيمنة الثقافية والسياسية.
المثقف المقتول.. من هو "مختار الفاطمى"؟
في مركز الرواية يقف مختار الفاطمي، شابٌ عربي تونسي، مثقف يعيش قلق الهوية، وانفصام الانتماء، وضياع الحلم، يراه القارئ وقد سكنته الأسئلة: من أنا؟ من نحن؟ ما الذي بقي من آبائنا؟ وهل نحن استمرار لهم؟ أم انقطاع عنهم؟ تنتمي هذه الشخصية إلى جيل عربي كامل نشأ في ظل الحداثة الشكلية والأنظمة المتآكلة والانتفاضات المجهضة، جيلٌ أراد أن يثور، لكنّه وجد نفسه يُدفن قبل أن ينطق.
"مختار" لا يسافر فقط جغرافيًا من تونس إلى مصر، بل يذهب إلى الماضي الفاطمي كمن ينقّب في ذاكرة ملوّثة بالحذف والتشويه، يبحث عن أصوله، وعن القيمة الثقافية لحضارة الفاطميين، لا حبًّا في الأنساب، بل رغبة في فهم اللحظة الراهنة، إذ يرى أن الحاضر لا يُفهم إلا بمساءلة الماضى، ولأن الماضي تمّت مصادرته، فإن رحلته هى إلى منطقة محرّمة، ولهذا كان موته ضروريًا لكن هذا الموت هو أيضًا ولادة جديدة: فالبطل يتحوّل إلى "راوٍ ميت"، يحوم فوق المدينة البيضاء، يروي لنا – نحن الأحياء – ما لم يُروَ، في سردية وجودية، رمزية، فكرية.
رواية الأطروحة.. بين الحفر التاريخي والطرح الفلسفي
"أيّام الفاطمي المقتول" ليست رواية أحداث أو مغامرات تقليدية، بل تنتمي إلى ما يُعرف في النقد الأدبي بـ"رواية الأطروحة"، أي التي تُبنى حول سؤال مركزيّ فلسفي أو فكري، وتسعى إلى تقديم قراءة تأملية للعالم، لا تكتفي بالتصوير، بل تتدخل للتفكيك، والتفسير، وحتى الإدانة.
تطرح الرواية مجموعة من الأسئلة المفصلية..
• هل المثقف العربي حر في طرح الأسئلة؟
• هل نحن أبناء تاريخ نفاخر به، أم ضحاياه؟
• لماذا يخيفنا الماضي، ونرتعب من التفكير الحرّ؟
• وهل المستقبل ممكنٌ دون مواجهة الذاكرة؟
تبدو الرواية، في هذا الإطار، كأنها مرآة قاتمة للحاضر العربي، إذ تُبرز كيف أنّ العقل النقدي يُستأصل، والماضي يُسطّح، والاختلاف يُجرّم، والفكر المستقل يُقصى، في ظلّ تمدّد خرافيّ لماضويين جدد يُعاد إنتاجهم عبر الإعلام والدين والسياسة.
الدولة الفاطمية.. مرآة سردية لعصر مضاد
اختيار الدولة الفاطمية ليس اعتباطيًا. هذه الدولة التي نشأت في المغرب ثم انتقلت إلى مصر، وتميّزت بحضارة تعددية، واحتفاء بالعقل والعلوم والفنون، تُستعاد في الرواية كرمز لما نفتقده: التسامح، والتعدد، وحق الاختلاف. فـ"مختار" لا يذهب بحثًا عن مجدٍ سياسي، بل عن إرث ثقافي حضاريّ يرفض أن يُدفن.
لكن الرواية لا تقع في فخ الحنين المثالي، بل تستخدم التاريخ لا كماضٍ نقيّ، بل كموقع صراع رمزي: فكما اغتيل المشروع الفاطمي يومًا، يُغتال اليوم كل مشروع ثقافي عربي حر. "مختار" إذًا هو امتداد لذاك المشروع، وضحيته.
البناء الفني واللغة.. تفكيك الزمن وبلاغة المأساة
من الناحية السردية، تبني الرواية عالمًا ديستوبيًا رمزيًا في نهايتها، حين تخرج جثة "مختار" من قبرها في زمن مستقبلي مشوّه، لتسرد لنا الحكاية من عالم ما بعد الحقيقة. هذا التفكك في الزمن الروائي يعكس بدقة تفكك الوعي العربي ذاته، ويحوّل الرواية إلى نصٍّ تتشظّى فيه الذكريات، وتسود فيه لغة أقرب إلى الشعر، حادة، حزينة، موجعة، تكتب الألم بلذة معرفية.
لغة شقرون هي لغة مثقف يفكك ويقاوم، وليست لغة راوٍ محايد. بلاغته تتجاوز الإنشاء إلى الرؤية، وإيقاعه يشبه وضع "المسامير في نعش الحاضر"، كما تصف الرواية ذاتها، في عبارة تُلخّص جوهر النص كله.
من تونس إلى مصر.. وحدة الألم والبحث عن الخلاص
الحضور المزدوج لمصر وتونس في الرواية ليس مجرد خلفية جغرافية، بل هو تجسيد حي لوحدة الألم العربي، إذ أنّ الفضاءين – القاهرة وتونس – يلتقيان عند الجرح ذاته: المثقف المطارد، والحلم المجهض، والثورة المهدرة، والذاكرة المغتصبة.
بل إن مصر في الرواية تأخذ بعدًا رمزيًا مزدوجًا، فهي من جهة الحاضنة التاريخية للحضارة الفاطمية، ومن جهة أخرى، مرآة عربية للعديد من الأزمات، التمزق بين "النظام والفوضى"، و"الموروث والممنوع"، و"الحنين والخوف".
الذاكرة المتشظية والهوية القاتلة
من أعمق مفاهيم الرواية وأكثرها حداثة، هو مفهوم "الذاكرة المتشظية"، الذي يمثله البطل المقتول، ويتحوّل إلى بنية سردية. فمختار، وقد تم اغتياله جسديًا، يعود روحيًا كذاكرة مكسورة، تحاول استعادة الحكاية، لكن من دون ترتيب زمني، بل من خلال التناص والتداعي والانقطاع. كأنّ الرواية تُجسّد الهوية العربية المتكسّرة، التي لا تعرف وجهتها، ولا تملك إجابة، وتكتفي بالصراخ.
الرواية كعمل يقاوم ويؤرّخ ويحذّر
رواية "أيّام الفاطمي المقتول" هي رواية تمزج بين الرؤية الجمالية العميقة، والتحليل الثقافي الفاحص، والتجريب السردي الشجاع. إنها نصٌّ يقدم الواقع العربي، ولا يخاف من طرح الأسئلة القاتلة، بل يواجهها بوعي مأسوي، وأمل خافت، في أن يكون التفكير مقاومة، والكتابة خلاصًا.
هذا النص الروائي الثري البديع يضع كاتبه نزار شقرون في مصاف الكتّاب الذين لا يكتفون بالتشخيص، بل يصنعون من الأدب أداة لتحرير الإنسان من أوهامه وخوفه. إنّها رواية يجب أن تُقرأ أكثر من مرة، لا لفهمها فحسب، بل لكشف ما نخشاه نحن من أن نراه في مرآة ذواتنا.
Trending Plus