عن الهزيمة كفرصة أو طوق نجاة.. العائدون من الحرب بين دعائية النصر ودوّامة المُمانَعة

عندما طار الخمينى من باريس إلى طهران بعد شهور من اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الشاه؛ كانت الرحلة إيذانًا بتجيير الثورة لحساب القوى الإسلامية، ودليلاً على ارتضاء الغرب للصيغة الجديدة؛ إن لم تكن على الشراكة الكاملة فى صناعتها.
وحتى الاشتباك المبكر مع الولايات المتحدة لم يغير من الأمر شيئا. خاضت واشنطن مفاوضات طويلة بعد اقتحام سفارتها بدلا من إعلان الحرب، وصمتت مع الآخرين على التنكيل بقوى اليسار وتعليقهم فوق أعواد المشانق، وقدّمت دعمًا خَفيًّا للجمهورية الوليدة فى حربها الطويلة مع العراق.
وظلت العلاقة المُريبة تتبدَّل وتختلف بين مدٍّ وجَزر، من إفساح طريقها للانتشار على طول الإقليم، حتى ترتيب مشهد التخارُج الناعم من الصدام الأخير مع إسرائيل.
القوى الأُوروبية التى أفسدت تجربة رئيس الوزراء المُنتَخَب محمد مصدّق فى صدر الخمسينيات، ودبَّرت انقلابًا عليه لصالح الأسرة البهلوية وشبكات مصالحها فى فارس، ضحّت بحليفها التاريخى فى لحظة التباس وخطر، واستبدلت بالاستثمار فيه شريكًا جديدًا، لأجل أن يكون فالقًا جغرافيًّا وسياسيا مع العالم الشرقىِّ فى خواتيم الحرب الباردة.
انتقال من النقيض إلى النقيض بعد ربع القرن تقريبًا؛ إنما ظل الهدف واحدًا فى الحالين، والغاية الكُبرى ألَّا تخرج إيران من الدائرة الغربية؛ وإن حدث فليكُن الحياد لا السقوط فى قبضة السوفييت.
والإسلاميون وحدهم كانوا ضمانة الفكرة وقتها؛ لهذا توجّبت مُؤازرتهم فى مواجهة فسيفساء من الأفكار والأعراق، تميل بالأيديولوجيا أو الهَمِّ الاجتماعى إلى الغريم الأوَّل والأشرس.
وعليه؛ يُمكن النظر إلى الخلاف الراهن مع الملالى من زاوية تاريخية بعيدة، لا سيّما بعدما صادَقوا روسيا الجديدة ووطّدوا علاقتهم بالصين. كأنهم انحرفوا عن شروط التعاقد الضمنية بين الطرفين، ويُعاقَبون اليومَ على انحرافهم بأثرٍ رجعىٍّ.
وذلك فضلاً على استحقاقات إضافية تبدأ من فورة الميليشيات الرديفة، وزحام طائراتها المُسيّرة فى سماء أوكرانيا، ولا تنتهى عند أدوارها الظاهرة والمُخاتلة فى طوفان الأقصى، وربما الرغبة فى إفساح مجال آمن للانتقال السياسى فى سوريا؛ خاصة أنه يُبنَى على طللِ المُمانَعة وطموحات الامبراطورية المذهبية، وهلالها الشيعىِّ المار بدمشق فى رحلته من طهران إلى بيروت.
ظاهر الأزمة يتجلّى فى البرنامج النووى؛ لكنّ جوهرها يعود إلى رؤى والتزامات عُلِّقَت على كاهل الجمهورية، وارتضتها سابقًا بالمُوافقة أو الصمت الرمادىّ المُحايد؛ لكنها عندما سعت إلى التحرُّر منها، بدت كما لو أنها لا تُجمّد التحالف الضمنى مع المجال الأنجلوساكسونى فحسب؛ بل تنقلب عليه وتعاديه، وترسم لنفسها حدودًا وأدوارًا غير ما أراده المُتنفّذون، وما توقّعوا أن تُذعِن له طهران وتنخرط فيه بكلِّ طاقتها.
وقد كانت مفيدةً فعلاً فى اشتباكها مع صدَّام، وفى الإجهاز على ما تبقّى من إرث القومية العربية، وتقديم نسخة أُصوليَّة شيعية تنوب عن الطبعة السنيّة المُتطرِّفة، والمُفرطة فى العداء والاستهداف، أو هكذا رأى أوباما وتيّاره الليبرالى داخل الحزب الديمقراطى الأمريكى.
التضاد بنيوىٌّ عميق؛ وليس طارئًا فى ضوء صراعات مُستجدّة أو طموحات وطنية. وإذ يُفضل الغرب اللعبَ مع القوى الدينية؛ لما تُبديه من مرونةٍ مُبكِّرة، ولقُدرتها العالية على إظهار الليونة والمُطاوَعة فى فواتح التجارب؛ فإنها تذهب دومًا إلى الصدام فى الخواتيم.
غيابُ الشرعية الشعبية غالبًا يتركُها طوالَ الوقت على أرضٍ قَلِقَة، وعند نقطةٍ مُعيّنة يُستَنفَد منها وقود الأهداف المرحليَّة، وتتآكل فاعليَّة التناقضات الثانوية المُقدَّمة قهرًا على غيرها من الأُسس والمُوجِّهات الفكرية؛ لتجد نفسها فى مُواجهة التناقض الأصيل: الكفر والإيمان، وإلزامية المشروع العقائدى، والحاجة الوجودية إلى عداواتٍ مُقدَّسة، لا تنفد ولا تُستحدَث من عدم.
اختبرت الحكوماتُ الغربية وجيوشُها وأجهزتُها الأمنيَّة تلك التراجيديا الدوَّامِيّة غير مَرّة، مع مُجاهدى الشيشان الذين شكَّلوا نواة تنظيم القاعدة، ومع حركة طالبان، وربما تنظيم داعش بدرجةٍ من الدرجات، وقد لا تكون بعيدةً من خيالهم بينما يصافحون "الجولانى" فى سوريا ويتصالحون معه؛ لكنهم يُكرِّرون المحاولة بذات المُقدِّمات، طمعًا فى نتائج مُغايرة.
ولعلّهم أفسحوا مجالاً أخيرًا للجمهورية الإسلامية أن تدخل فى عباءة المُهادنة، أو تخلع عباءات الشراسة والصدامات الحضارية والثقافية، قبل الوصول إلى محطَّة المُكاسَرة النهائية فى حلبة الموت، وتلك النقطة أوجب ما يتعيّن على حُكّام طهران اليومَ أن يلتفتوا له، ويتعاطَوا مع مُهَلِه ومخاطره بحقِّها الواجب من اليقظة والديناميكية، والرغبة الصادقة فى الإفلات من الفخ، أو التداوى من عِلَلِها الهيكلية المُوجبة للمُغامرات الأبدية، والتى تُفتَتَح غالبًا برغبةٍ مُنفلتة فى التعملُقِ دون حدٍّ أو سقف، وتُختَتَم دائمًا بالاحتراق أو التآكل من الداخل.
وإذ يُفهَم التجاء السلطة الثيوقراطية فى إيران الآن إلى الاحتفال، وتكييف حصائل المُواجهة الأخيرة على صورة النصر؛ رغم كلِّ ما أصابها من أضرارٍ وانتكاسات للمشروع وجُملة مفرداته المحليَّة والعابرة للحدود؛ فأخطر ما تنطوى عليه حالةُ الإنكار أن تكون ناشئةً عن قناعة حقيقية بين أهل الحُكم بالانتصار، لا مُجرّد الرغبة العابرة فى إظهار الصلابة، وترميم حواضن النظام وسيكولوجية جماهيره المتداعية.
أى أن يتخطَّى سلوكها الراهن نطاق الدعاية إلى الاعتقاد؛ فتؤسِّس عليه تصوّراتٍ مُضلِّلةً عن المَنعة والبأس وقابلية الحياة مع ثقوب العمامة الواسعة، واعتلالات الجسد الإمامىِّ ودائه العضال.
وهى حقيقةٌ لا تُقرّها شيخوخةُ المرشد الأعلى فى ثمانينيته فقط؛ بل تنفتح على إشاراتٍ مُزعجة عن كهولة النظام نفسه، وحاجته الماسّة للإنعاش والتجديد. وقد تأكّد من سوابق الوقائع أن الأنظمة الأيديولوجية تفقد بريقَها سريعًا، وتتعثَّر فى مُركبّات نقصِها، بأكثر ممَّا تُعَثِّرُها الاستهدافات الخارجية.
وليس أوضح على هذا من تجربة الاتحاد السوفيتى فى المدى القريب، أو السلطنة العثمانية التى شاخت وماتت فى مكانها، قبل أن يتخطّف الطامعون ما تبقّى من تركتها الذابلة.
دشّنت الجمهورية الإسلامية محورها على امتداد المنطقة، ولم تُعلّم ميليشاته شيئًا من أساليب المناورة والمُداراة وحنكة صانعى السجَّاد وطُول نَفَس تجَّار البازار؛ بل يبدو أنها لم تتعلَّم هى نفسها من كل ما تحت يدها من تراث فارس، وذاكرتها المفتوحة على المفاخر والمأساويات.
درّبتهم على افتتاح الحروب، ولم تمُدّهم بأيّة معرفة جادة عن أساليب إدارتها أو مسارات إنهائها. احتَمَت بهم ولم تحمِهم، كما لم تذكُر وهى تُجهّزهم للدفاع عنها، أن تُؤهِّلهم ليدافعوا عن أنفسهم ويصونوا وجودهم.
ورّطتهم وتورّطت معهم فى مُطابقة السياسة بالدين، ومَنح الحروب صِفَة إيمانيَّةً سامية وتوقيفية، بحيث يتحوَّل النصر شعارًا له حجّية النصوص المُقدَّسة، والهزيمة عارًا تتلبّس رداء الذلّة والدنيّة؛ فما عاد لديها أىُّ هامشٍ للنظر فى دقائق الأمور على هيئتها الحقيقية، ولا للاعتراف بالخطايا الفادحة إقرارًا بالبشرية الكاملة، وشرطًا وجوبيًّا للاستدراك والتشافى وتحصين الوجود فى حدوده الدنيا.
الاعتراف بالهزيمة مدخلٌ إلى تجاوزها؛ وليس انكسارًا أو خروجًا من الميدان مرّة وللأبد. استمرأ الحزب دعايات الانتصار بعد مُغامرته فى جنوبىّ لبنان بالعام 2006؛ فاصطدم بأفدح منها بعد نحو عقدين.
وأجلى ما يُرَى فيه التناقض على ضِفّة النكبة الثانية فى غزّة؛ إذ ما يزال قادة حماس قابضين على جمرة المفازة بانفصالٍ مُؤسِفٍ عن الواقع، وقطيعةٍ كاملة مع المنطق والحسابات العاقلة.
وما وقاهم الوَهمُ شَرَّ الانحدار واتّصال النزيف؛ بل زجّ بهم فى جولاتٍ حارقة تتناسَلُ من بعضها؛ وكلّما تخطّوا واحدةً بالاستكبار نفسه، دخلوا فى الأسوأ، وصار عليهم أن يتقبّلوا اليومَ ما كانوا يرفضونه بالأمس، وأضعافهما غدًا بالضرورة، وأن يُسدِّدوا التكاليف مُضاعَفَة، فيما تتضخّم الأعباء وتتراكم على القضية والمنكوبين.
لم تعترف حماس بخطيئة "الطوفان" فمَضَت فيها كالمُنَوّم، وعَدَّ قادتُها الخسائر على لائحة التكتيك لا الاستراتيجية، فواصلوا المسير نحو الهاوية بيقينٍ سِيزيفىّ لا يُحسَدون عليه.
والضلالة ليست ناشئةً هُنا عن معرفةٍ عميقة بالحال والمآل، ولا لأوراقٍ يُخبّئونها وراء ظهورهم؛ بل من مَوعدةٍ غيبيّة يُنتجونها ويستهلكونها بمعزلٍ عن الحياة والناس، ويرون وحدهم أنها تستحق المُقامرة بالمُتاح على طاولة المأمول.
مُعضلةُ سرديّة النصر أنها تُعَمِّى العيون، وتربط عصابةً سوداء على الأدمغة والأفهام. لا تُتيح مُتّسعًا لاستقراء الشواهد واستيعابها، واستخلاص ما يعفى من تكرار المزالق والانتكاسات، أو إعادة بناء القوّة على منطقٍ واحد ومُتساوقٍ مع كواشف الظرف وتوازنات القوّة.
وأخطر ما فيها الشعور الزائف بالبأس والاقتدار، والزُهد المجّانى فى الاحتياج للتمدّد على سرير الطبّ، أو دخول مُختبرات الفحص والعلاج.
المُطمئِنُّ لا يتحسّبُ ولا يهجس بمخاوفه، والمُتلَفِّت لا يصلُ غالبًا، وتعريف المحنة بالمنحة التفاتٌ عن الأصل إلى الفرع، وإغراق فى الخيال بدلاً من النزول إلى طين الواقع ومُستنقعاته الآسنة.
إن صدّقت إيران أنها انتصرت فعلاً؛ فقد لا تجد فى نفسها حرجًا من المُواصلة بالكيفية والإيقاع ذاتيهما، ولا حاجةً إلى فضيلة المُراجعة وفريضة التصويب.
لن تلحظ حماوة البركان الذى يعتمِلُ داخلها، ولا فوّهته المُتّسعة على مروحة من الاختلالات العميقة، أوّلها الرخاوة وتقادُم الخطاب وتأثيرات الزمن وعواديه على الوعى والعافية، وأعمقها الخيانة والاختراق من الداخل وصولاً للأعماق الحصينة، أو التى كان يُتوَهَّم أنها حصينةٌ ومُتعالية الأسوار.
وإذ تستنزف الجمهوريّةُ الإسلاميّة ما تبقّى من طاقتها مُطارِدةً للفرح فى غير أوانه ولا مكانه؛ فإن العدوّ على المقلب الآخر يُردِّد الدعائيَّةَ نفسها، لكنه لا يستكين لها ولا يرتاح تحت ظلالها الوارفة.
يُسوِّق الانتصار لأغراضٍ سياسية وشخصانيّة؛ إنما لن يتوقّف عن رؤية الحشرة الصغيرة على وجه الكعكة المُزيّنة، ولا دراسة الجولة واستخلاص نتائجها برُشد وأناة، وستشتغل أجهزته على المهمّة بكلٍّ يقظةٍ واستعجال؛ ناهيك عن أنه بدأ وانتهى من نقطةٍ مُتقدّمة أصلاً، وله سَبقٌ على الغريم بالفاعلية والأثر فى الميدان والسياسة على السواء.
إنْ استقرّ اتفاق وقف إطلاق النار فى مُقبل الأيام؛ فسيكون انتقالاً من حروب العَلَن إلى معارك الظلال، أو بالأحرى عودةً إليها من جديد.
الخلافات العميقة ما تزال على حالها، لم تُحسَم، كما لا سبيل لتخطّيها والقفز على رواسبها المُتكلّسة. ما يجعل التوقُّفَ الراهن مُجرَّد هُدنةٍ اضطراريّة ظرفيّة، قد تُجرِّدُ المُقاتلين من ذخائرهم أو تُحيّدهم عن الاشتباك؛ لكنها ستنتدب من ورائهم طيفًا واسعًا من الوسائل والتكتيكات، وقد عاين الإيرانيون ملمحًا منها فى مواكب العُملاء وتطيير المُسيَّرات من بين بناياتهم ومرافقهم، ولا يعرفون على وجه الدقّة حجم نفاذيّة الموساد أو مداها، وإلى أية قلعة حصينة وصلت من قلاع النظام العتيد.
أعلنت إسرائيل كثيرًا عن توقيف شبكات جواسيس يعملون لصالح إيران؛ لكنها انحصرت بعمومها فى أفراد حديثى الهجرة أو قليلى التأثير، وكانت المهام المُوكلة إليهم بدائيّةً مُضحكة، من عَيّنة الكتابة على الجُدران أو تتبُّع حركة الساسة والجنرالات المُتقاعدين فى نُزهات التريُّض وجلسات الحدائق العامة.
يُحتَمَل طبعًا أنها استكشافُ ناعمٌ، وبداية لبناء الثقة وتطوير المهام؛ لكنها فى النهاية تنُمّ عن تجربة أوّليّة لا يصحُّ التساند إليها، ولا تُرجَى منها مُوازنة ما تحوزه الدولة العِبريّة فى أعماق الجمهورية الإسلامية.
طبيعة العدوّ تًصعِّب مهمّة التغلغل فى دواخله. نقطةُ ضعفه أمام الصواريخ هى عاملُ قوّته فى مواجهة التجسُّس: الجغرافيا المحدودة والعُمق الاستراتيجى المُؤطَّر، فضلاً على التجانُس الاجتماعى والهُويّاتى، وتقدّم الأجهزة الأمنية وتقنيّات عملها.
أمَّا الناحية المُقابلة فإنها مُشرّعة الأبواب، ومفتوحة على آخرها، بمساحة تتخطّى مليونًا و600 ألف كيلو متر مربع، ومزيجٍ من الأعراق والأديان غير المُتمازجة تمامًا، وتركيبة حُكم عقائدية قوميّة غيّبت الأغلبية لصالح الفُرس والولائية المذهبية.
نظام ضخم ومُترهل هُنا، وصغير ومشدود هناك، ثيوقراطيَّة شائخة فى مواجهة ديمقراطية مُشوّهة؛ لكنها لا تفتقد لمزايا تداول السلطة رغم تشوّهاتها. وأهداف تخصُّ الملالى دون أن تكون محلَّ إجماع؛ فيما يتجمّع الأعداء على حلمٍ ومرويّة واحدة.
الخطر أن تتفرّغ إيران لترميم قواها دون بيئتها، وإعادة تركيز فواعل البطش والاستئساد لدى الملالى والباسيج والحرس الثورى؛ دون استشعار أنَّ حالة الالتفاف الشعبى تحت سقف الأزمة كانت كراهةً فى زيد لا محبّة لعمرو، وتحتاج إلى مُلاقاتها فى مساحةٍ وسيطة، تُعيد اختراع الدولة المُضَيّعة تحت عمامة الولىّ الفقيه، وبناء عقد اجتماعى وسياسى مُحدَّث، لا يحتكر ولا يُخوّن أو يستبعِد، ويعرف أنَّ القوّة الفائقة تتولَّد عن التماسك والإجماعيَّة، لا من قُبّة مفاعل نووى ولا مُحرّك صاروخ باليستى.
والوَهم بقدر ما يُهدِّد بتغييب الأولويَّات المحليّة؛ فإنه ينطوى على فخّ التزوّد مُجدَّدًا من عُدّة الخيال والأحلام الضائعة، وتقديم التطلُّعات الخارجية على غيرها، لناحية استدراك ما ضيّعته الأيام، وإعادة بناء الأذرع ومُكوّنات المحور المُمانِع مرّةً ثانية.
وهذا ما لا يضعها فى صدامٍ مع محيطها العربى القريب فحسب؛ بل يؤلِّب شارعها عليها بأضعاف ما كان غاضبًا فى السابق؛ لأنه وإن فوّت إزاحته إلى الهامش فى زمن التمادى والغرور؛ فرسالة التعالى عليه اليوم أنه لا وزن له ولا قيمة، وللآخرين البُعداء حظوة عليه حتى فى عِزّ انكسارهم واتّضاع سطوتهم، بما يعنى أنه لا أملَ فى التقويم والإصلاح من الداخل أصلاً.
الهزيمة فرصةٌ مثاليّة لتعود إيران دولةً طبيعية، تعرف ذاتها وتتعرّف على غلافها الجغرافى والديموغرافى بانفتاحٍ، ودون افتراضات أو نوايا مُسبَقة.
وإذا كانت دولة الملالى المُفرِطة فى القوّة والتوحُّش خطرًا على جوارها القريب؛ فنسختها الضعيفة والمُتآكلة أكثر خطورة على نفسها والعالم، ويتعيّن على وُلاة أمرِها معرفة أنه لا سبيل للخروج من النفق إلَّا بالعودة من الطريق نفسها؛ وليس بمُواصلة السير فى الظلام وإلى وجهةٍ غير واضحة.
وتتحقّق الغاية هُنا من الإيمان بانقضاء أزمنة التوهّم وطموحات تصدير الثورة، والعجز عن قضم البلاد وابتلاعها، مع شديد الحاجة إلى إعادة الهيكلة وتغيير تركيبة الحُكم.
وليس شرطًا أن يكون ذلك باستبدال البناء والشخوص؛ بقدر ما يتوجَّب أن يُفتَتَح بالنظر فى السردية والخطاب، والتوقُّف عن الارتياب من الآخرين أو إثارة ريبتهم، وأنها فى سباق مع واشنطن بين محطّتى الاحتواء أو الطرد؛ وفيما تُوازن الأخيرة بين مزايا استيعاب النظام أو إطاحته؛ فعلى النظام نفسه أن يُوازن بين إمكانات الاستمراء والتزامات البقاء.
ليس من مصلحة أحد أن ترتدّ إيران مُنكسرةً ذابلة، ولا من مصلحتها هى نفسها أن تستجمع المُتبقّى من فائض القوّة لتُوجّه نيرانه نحو الذات أو البيئة الحاضنة.
لديها من طاقة الغضب والثأر ما يكفى لتحويلها إلى عامل تعطيل أو ماكينة مُدمّرة، وما يصلح أيضًا لحَرفها نحو المسار السليم، واستثمار إمكاناتها وشظايا هزيمتها فى إعادة البناء، وإطلاق مشروع وطنىّ قادر على مُناطحة الأعداء بمادة غير الحرب والنار، وفى ميادين أخرى سوى ميدان القتال.
التصالح مع النفس فاتحة لاحتضانها ومعرفة مواطن صلابتها من نقاط هشاشتها، والاعتراف بالهزيمة يمكن أن يكون رافعة للقفز عليها، والخروج من حبائلها؛ بدلاً من الركون إلى سجن اللحظة واجترار المعانى بتمثُّلات وتأويلات مُضللة، ومُنتجة لحلقات التردّى بلا هوادة ولا ملل.
ربما يكون النظام قويًّا ومُسيطرًا، ونجح بالفعل فى تغييب البدائل والقوى المنافسة؛ إنما تظل الفوضى خيارًا مُعلّقًا، وبديلاً يائسًا ينزلق إليه الفوران البشرىّ المكبوت؛ حالما تتعطّل القدرة على استيعابه أو يملأه اليقين بلا جدوى الصمت والاصطبار.
والحق؛ أن النصر والهزيمة ليسا ثنائية حدّية مُتعالقة على طريقة تعريفنا الضميريّة لضدّية الأبيض والأسود. إنهما حدثان رماديّان تماما، وبينهما طيفٌ لا حصر له من الدرجات والتعاريف. كُسِرَت اليابان فى الحرب العالمية الثانية لكنها انتصبت بشجاعة الاعتراف بالهزيمة، وتحتشد اليوم بين زُمرة المُنتصرين، والعكس بالنسبة للامبراطورية الروسية العظيمة، وربما لأوروبا نفسها التى تُمارَس عليها كل صُوَر الهيمنة والإضعاف والاستتباع من جانب الولايات المتحدة.
وعليه؛ يصح أن يحتفل الحُكّام فى تل أبيب وطهران بالانتصار، وأن يسخر منهما الناس فى بيئتيهما وخارجها، والحصيف مَنْ يستحلب حلاوة الدعاية، ولا يُفوّت مرارة الواقع، ويمزجهما ليعجن رغيفه المثالى لمستقبل يجب ألا يكون كماضيه، وأن يُخرجه من سياق لو كان مثاليًّا من الأساس؛ لَمَا أوصله للحال التى هو عليها الآن.
عدم تحقُّق أهداف العدو كاملة لا يعنى أنه الخاسر فى الجولة، ومُجرّد البقاء لا يكفى للاحتفال بالفوز. أمور الدُّوَل ليست مباريات مُلاكمة بين خصمين داخل قفص مُغلق، ولا يُحتَكَم فيها لرؤية المُشجّعين وآرائهم، ولا حتى لرصيد النقاط.
مُباراة هشّة قد تُغرى بك الخصوم لاحقا، وتعادلية اليوم قد تكون مدخلاً إلى ضربة قاضية فى الغد. والصهاينة من طينة الأصوليّة نفسها، ولديهم غايات لن ينزلوا عنها، والأرجح أن نتنياهو سيمضى فى إنجاز رؤيته بكل السُّبل الممكنة، وبمعزَل عن إرادة ترامب وتفضيلاته، ولا عاصم إلا الاستعداد للجولة المقبلة من الآن، ولا جدّية فى التجهُّز إلا باستكشاف مواطن العوار والوقوف عليها بتجرُّد وشجاعة.
لم يتهدّم نظام الملالى؛ لكنه ليس على الحال التى انخرط بها فى المواجهة. مُسَّت كرامته من نقطة حرجة، وضُغِطَ بقسوةٍ على أعصابه العارية. القادة أكثر هشاشة من أسلافهم، وهاجس الانكشاف يُشيع الشك والتخوين بين طبقات السلطة، وبين كل طبقة على حِدَة.
ستكون الأفكار مُقيَّدةً بالنازلة الثقيلة، والقرار بطيئا، وسيتكفل بهجة المُنتصرين بمزيد من التقييد والإبطاء. وباختصار؛ طهران فى حاجة للاعتراف الأمين مع نفسها بالهزيمة، لأجل التحرُّر من القيود ومُغادرة لحظة التعرّى الجارحة.
الدُعامة الخُمينية فى حاجة إلى اختبار صلابة، وإلى ترميم وإعادة تأهيل. الشارع ما يزال غاضبًا، ويُدين الصهاينة لكنه لا يُبرّئ الملالى. الأقليّات مطعونة فى وجودها، وثقتها مُهتزّة بفكرة الوطن الجامع والمواطنة المُستاوية.
وإذا نتنياهو أسقط القنابل على رؤوسهم؛ فالسيد خامنئى بطش بهم وأفقرهم وغيّب أصواتهم لعقودٍ طويلة. رصيد الثبات أمام الغُزاة لا يُصرف إطلاقًا على جبهة الخصومة البينيّة، والإحن القديمة واجتراراتها المتواصلة.
وحصيلة الجولة لا تتيح هامشًا واسعًا لتكييف المشروع بعافية أكبر فحسب؛ بل للتقهقُر احترامًا للناس، من دون أن يظهر ذلك على صورة الرخاوة والاهتزاز، ومع مُسوِّغ لتسويقه تحت عنوان التضحية والتضامن وردّ الجميل مثلاً.
خرج نتنياهو من المواجهة أقوى للأسف. الأغلبية كانت وراء عدوانه البعيد فى فارس، والشعبية أُعيد ترميمها لدرجة أنه يُفكّر اليوم فى استثمارها بالدعوة إلى انتخابات مُبكرة. والمهم أنه اخترق جدار الردع؛ وكسّر المُعادلات العتيقة، وسيكون هو أو أى خلفٍ له أكثر جرأة على تكرار المحاولة.
فيما خرج خامنئى أضعف، ليس على جبهة الحرب وحدها؛ بل أمام مُعاونيه وجنرالاته وبيئته الولائية قبل مُعارضيها، وقد تهاوى مشروع التمدُّد وانطفأ وهج النووى والباليستى كمُبرِّر للشمولية والإفقار، ورهان يستحق كل ما قُدِّم فى سبيله من تضحيات وإهدار للمُقدّرات.
ودعائية النصر تُضيف للغريم لا للذات؛ لأنها تؤكد لجمهوره صوابيّة وجهته واستمرار الحاجة إلى الاستعداد، فيما التراجع قليلاً يُنهى فاعليّة التجارة بالخطر الوجودىّ، ويسلبه إمكانية التلطّى وراء الذريعة نفسها لسنوات مُقبلة.
والأهم أنها تُبصِّر المُتعثّر بعثرته، وتصلبُ عودَه، وتُعينه على ضبط خطواته أو استدراك الطريق. عملت إيران ضد نفسها بالميليشيات وشعار تصدير الثورة؛ ويجب ألا تواصل افتتانها بالنيران الصديقة تحت ستار الوهم، وازدراد طبخة الانتصار الزائف؛ بكل ما فيها من مكوّنات مُتضادّة ومقادير مُختلّة، وما يطفح على وجهها من شظايا وأشلاء ودماء، ومن خرائط مُفكّكة وعمائم ساقطة.
Trending Plus