حسين عبد البصير يكتب: "بحر البلدة الصغيرة".. كتابة الحنين فى زمن الغياب

الدكتور حسين عبد البصير
الدكتور حسين عبد البصير

ليست "بحر البلدة الصغيرة" رواية عائلية بالمعنى التقليدي، وليست مجرد رسالة من طفل إلى وكيل أدبي في لندن، إنها عمل روائي متكامل البناء، استثنائي النبرة، رقيق الحزن، وعميق في توغله داخل النفس الإنسانية، تنتمي الرواية إلى أدب "الرسالة"، لكنها تتجاوزه وتُحطِّم حدوده، إذ تستبدل الصوت الواحد بأصوات مضمنة، والفضاء الضيق للرسالة بامتداد البحر، بما يحمله من رموز وتحوّلات.

الكاتب الهندي المولود عام 1970 في ڨاركالا بولاية كيرالا، لا يكتب بالإنجليزية بوصفها لغة أجنبية، بل يستخدمها كأداة تواصل كوني تنقل ملامح محلية بروح إنسانية خالصة، وقد أثبت نفسه بجدارة في المشهد الأدبي الهندي والعالمي، وفازت أعماله بعدة جوائز مرموقة، منها هذه الرواية الصادرة عام 2017، التي أحرزت جائزة أتا جالاتا، وبلغت القائمة القصيرة لجائزة "الهندو" المرموقة.

بنية الحكي.. الطفل كراوٍ للعالم

تتمثل الجرأة السردية الأولى في اختيار الراوي صبي في الثالثة عشرة من عمره، يكتب رسالة طويلة، عقب وفاة والده، في لحظة اهتزاز داخلي كبير. يستخدم أنيس سالم هذه الرسالة ليُدخل القارئ إلى "متحف داخلي" مليء بالدهشة والفقد، حيث يتشكل وعي الطفل وينمو في قلب الحزن.

الراوي لا يسرد الوقائع فحسب، بل يُعيد ترتيب الحياة كما أحسّها، تمتزج الواقعية بالخيال، والتذكر بالاختراع، ويغدو السرد فعل نجاة من الانهيار، يغيبُ ذكر الأسماء، وتُشار الشخصيات بالألقاب العائلية، وتتجسد المشاعر لا في التصريح، بل في التفاصيل الدقيقة والتلميحات.

 

البحر.. بطل روائي أم استعارة وجودية؟

البحر ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو الشخصية الأكثر حضورًا، رغم صمتها، منذ قرار الأب - الكاتب المحتضر - بالعودة إلى بلدته الصغيرة ليموت قرب البحر، يتبدّل مسار الرواية. البحر يصبح رمزًا للسكينة، للحقيقة العارية، للتصالح مع النهاية، وربما يمثل الأب ذاته بعد زواله الجسدي.

يتحول البحر تدريجيًا إلى صديق للطفل، إلى سرٍّ مشترك بينه وبين والده، إلى عالَم سري لا يعرفه سواهما، يُضفي البحر على الرواية طابعًا روحيًا، عميقًا، يُثري ثنائية الاغتراب والفقد، ويوسّعها من سياق عائلي محدود إلى أفق إنساني واسع.

 

الاغتراب.. ليس خيارًا بل قدرًا

لا أحد يختار الرحيل في هذه الرواية، الأب يُختطف بالموت، الأم تُجبر على الزواج من جديد، المدينة تبتلعها مشاريع لم تكتمل، حتى الطفولة تغترب عن نفسها. كل شيء يتحرك، يتبدل، يتآكل بصمت.

الراوي الصغير يعاني اغترابًا مركّبًا عن أمه، عن أصدقائه، عن صورته في المرآة، وعن صوته الداخلي. لكنه يُقاوم، ليس بالصراخ أو الثورة، بل بالتشبث بالتفاصيل الصغيرة: انعكاس صورته في نظارة خاله، أذان صديقه اليتيم، حنان الأم، خطاب عابر أسعد أباه.

 

لغة التفاصيل.. شاعرية الطفولة

يكتب أنيس سالم بلغة مشبعة بالشاعرية والرهافة. لا يوظف اللغة لنقل الحدث فحسب، بل ليُشكّل به عالَمًا مرهفًا. التفاصيل الحسية تملأ الرواية: الرمل، الأصداف، الموج، الزهور، الأصوات، النظرات، الحركات. العالم هنا يُرى بعينين متسعتين، مشدوهتين، هما عينَا طفل يتشكل داخله معنى العالم.

المشاعر تتقاطع وتتضاد: الحب والغيرة، الدهشة والخوف، الدونية والتوق إلى البطولة. وكلها تُعاش بصدق، وتُكتب بحذر، في جمل مُقطّرة، مشحونة بالانفعال.

 

الكتابة.. ميراث الأب وسر البقاء

الكتابة هي المحور الخفي للرواية. الأب كاتب والابن يرث هذا الشغف، دون أن يُدرك. الرسالة الطويلة التي يكتبها الطفل تصبح محاولة لإعادة بناء ما تحطم، لا بالكلمات فقط، بل بالحنين، بالألم، بالحب.

وصية الأب بأن يسير الابن وحيدًا ليست مجرد عبارة وداع، بل درس وجودي عميق: الحياة لا تمنحنا الضمانات، كما لا تفعل الكتابة، لكن علينا خوضها، وحيدين، مستندين فقط إلى ما نعرفه عن الجمال والألم.

 

في النهاية.. ماذا يبقى؟

ربما لا يبقى من الحكاية سوى بعض الصور: الأب على الشاطئ، نظرة الأم، انعكاس صورة في النظارات، البحر الهادئ أو الهادر. وربما تبقى هذه الرواية، بوصفها فعل مقاومة صامتة للفقد، ومنارة صغيرة في بحر الأدب العالمي.

"بحر البلدة الصغيرة" ليست فقط عن الهند، أو عن البحر، أو عن عائلة مكلومة. إنها عن كل ما نفقده ولا نعرف كيف نعبّر عنه. عن حيوات نُحبها ثم تبتعد، عن طفولة نغادرها ولا تعود، وعن تلك الومضات التي تخبرنا أن الحياة، مهما بلغت هشاشتها، تستحق أن تُروى.

ترجم هذا العمل الكبير إلى اللغة العربية المترجم المتميز إسحاق بندري، وصدرت الترجمة عن دار نيسان للنشر والتوزيع في القاهرة، في عمل أدبي يستحق أن يُقرأ ويُدرّس ويُحتفى به.

موضوعات متعلقة

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

3 أندية تتنافس على الفوز بصفقة وسام أبو علي من الأهلى.. تعرف عليها

الأهلي يوافق على إعارة أحمد رضا لنادى زد فى الميركاتو الصيفى

مواصفة امتحان اللغة الأجنبية الأولى للثانوية العامة بالنظامين القديم والجديد

الإصابة تنهى مشوار سالم الدوسري مع الهلال في كأس العالم للأندية

الصحة العالمية: كورونا انتشرت عن طريق الخفافيش مباشرة أو من خلال حيوان وسيط


محافظ الجيزة يعتمد غدًا تنسيق القبول بالثانوى العام والفنى

الزمالك يُنهي التعاقد مع المدرب الأجنبي الجديد..والإعلان الرسمي خلال 48 ساعة

فحوص طبية مكثفة لـ مروان عطية من أجل جراحة الفتاق فى إجازة الأهلى

اعرف أماكن استخراج بطاقة الرقم القومى "الفورية" على مستوى الجمهورية

البرازيل والأرجنتين الأكثر تسجيلًا للأهداف في كأس العالم للأندية 2025


قرية أبرق.. جوهرة محمية جبل علبة وأهم قطاعاتها وكنز الجنوب التاريخي والطبيعي.. بها نقوش تدل على آثار الإنسان ما قبل التاريخ.. تحوي بقايا قلعة رومانية قديمة.. وينتشر بها العشب مطلع الربيع والشتاء كل عام.. صور

أوروبا تصفع شركات التكنولوجيا.. تأييد غرامة قياسية لجوجل تتجاوز 4 مليارات يورو.. تغريم تيك توك 350 مليون يورو بسبب تسريب بيانات.. والأوروبيون يهجرون التطبيقات الأمريكية على خلفية التوترات السياسية مع ترامب

رينارد: مواجهة المكسيك ضد السعودية صعبة.. والتأهل للنهائى ليس هدفنا

مصرع 3 من أسرة واحدة فى انقلاب سيارة من أعلى كوبرى قويسنا بالمنوفية

حبس السائق المتسبب فى مصرع 19 شخصا بالمنوفية وإجراء تحليل مخدرات له

مواعيد مباريات اليوم السبت 28-6-2025 والقنوات الناقلة

عرايس الجنة.. كفر السنابسة تبكي بناتها بعد مصرع 19 في حادث المنوفية (فيديو)

توقعات الذكاء الاصطناعي لبطل كأس العالم للأندية 2025

تقارير: زيزو على رادار بشكتاش وفناربخشه فى تركيا

مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: لا أخفيكم سرا أنا جائع "فيديو"

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى