سؤال الانتصار والهزيمة

وهو سؤال مطروح مع كل الحروب، والمعارك، والمناوشات، والصراعات التي تدور بين أكثر من طرف.. بل، أحيانا، في أشكال كثيرة، لا نهاية لها، من الاختلافات الكبيرة أو الصغيرة.
ويستطيع كل منا استدعاء مواقف وتجارب حدثت بين أطراف مختلفة، ثم تباينت وجهات النظر عند الحديث عن مصائرها أو محصلتها الأخيرة، أو عند الكلام عن نتائج نهاياتها: بين وجهة تؤكد انتصار طرف من الأطراف، ووجهة أخرى تؤكد هزيمة هذا الطرف نفسه.
قريبا من "النكتة"، ولكن من خلال واقعة حقيقية، أستطيع أن أستعيد هذا الموقف من زمن بعيد: في المدرسة الثانوية، كان لنا زميل مشاغب اسمه "عيد".. كان لاعب كاراتيه، ويتمتع ببعض الشعبية في المدرسة.. وكان بينه وبين مدير المدرسة (القادم من خلفية منضبطة إلى حد العنف) صراع معلن وخفي.
في أحد طوابير المدرسة الصباحية، الجادة، قام "عيد" بسلوك ما، أثار ضحك بعض الواقفين حوله في طابور الفصل.. لاحظ المدير (الذي يقف أمام طوابير الفصول) هذا الضحك، وطبعا أدرك أن "عيد" هو مصدره، فأمر "عيد" بصوت مرتفع أن يأتي إليه حيث يقف.. وتحرك "عيد"، ومشى بخطوات متأنية وواثقة حتى وصل إلى المدير ووقف أمامه .. ولطمه المدير لطمتين، على خده الأيمن ثم على خده الأيسر.. ولم تتحرك رأس "عيد"، يسارا أو يمينا، مع أي لطمة من اللطمتين.. ظل جامدا ثابتا.... وصرخ فيه المدير: "اتفضل إرجع مكانك".. واستدار "عيد" بحركة مسرحية، ومشى بالخطوات المتأنية الواثقة نفسها، عائدا إلى مكانه الأول في طابور الفصل، وكأن شيئا لم يحدث.. وتوالت التعليقات الضاحكة، وقتها وفيما بعد، من الزملاء.. وكان أشهرها قول أحدهم: "أيوه ياعمّ عيد.. ضربت إيد المدير بخدّك"!
هذا مثال على توصيف رؤية لطمة (من يد على خدين، مسموعة الصوت بوضوح) من وجهة نظر مغايرة، وإعادة تحديد من تلقاها ومن قام بها.. ولعل هذا المثال موصول، بمعنى من المعاني، بسؤال الانتصار والهزيمة.
وبعيدا عن النكتة، أثير هذا السؤال نفسه، على مستويات عديدة، في كتابات متنوعة، أدبية وغير أدبية.. وارتبط السؤال أحيانا بغياب البعد الأخلاقي في بعض الانتصارات، مما يجعلها بذلك تستوي والهزيمة نفسها.. كما ارتبط السؤال أحيانا بتأمل حدود المصداقية، وجوانب العدالة، وأبعاد الإنسانية.. التي تقيم على أساسها الأطراف المتصارعة رؤاها ومواقفها ومن ثم طرق وتوصيف نتائج معاركها.. وفي حالات قليلة، ونادرة، يصل هذا التأمل إلى مستوى التشكك في اليقين حول هذا كله.
في رواية من روايات الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس (لعلها "الإخوة الأعداء") يتذكر أحد الشخوص تجربة مشاركته السابقة في حرب مع الأعداء.. ويقول ما معناه: إننا عندما كنا نمسك ببعض الأسرى من هؤلاء الأعداء، كنا نقطع آذانهم، ونجدع أنوفهم.. وكنا دائما ندعو الله أن يساعدنا في حربنا.. وكأننا كنا نطلب من الله أن يشارك في قطع الآذان وجدع الأنوف!
كازنتزاكيس، في تصوير هذا الموقف الروائي، يطرح سؤال الانتصار والهزيمة مقرونا، ضمنيا، بأسئلة (منطقية) أخرى، تتصل بالتساؤل حول اليقين الذي تنبني عليه وجهات نظر الأطراف المتحاربة.. فضلا عن علاقة هذا كله بـ"الإيمان" الذي يتصور كل طرف من هذه الأطراف أنه صاحبه ومالكه الوحيد (ولعل هذا الموقف الروائي يرتبط بقوانين معاملة الأسرى، وهي قوانين لا يعمل بها المتحاربون في أغلب الأحيان).
سؤال الانتصار والهزيمة، الذي نشهد تمثيلات جديدة له، في حروب قريبة، أصبح محاطا بقدر من الالتباس، جعل الهزيمة نسبية والانتصار نسبيا أيضا. ويتداخل هذا الالتباس مع كثير من الادعاءات فيما تعلنه الأطراف المتصارعة والمتحاربة من نتائج تقول إنها قد حققتها.. لم يعد سؤال الهزيمة والانتصار مشغولا بالأحداث المشهودة والنتائج الواضحة.. بل أصبح قريبا جدا من العمل بمثل شعبي مصري قديم:
"اللي تغلب به.. إلعب به"..
مع تعديل في صياغة ما يقوله هذا المثل.. يضيف إلى "الغلبة" أو "الانتصار" .. الكثير من الزعم الإعلامي ومن التباهي بتحقيقهما!
Trending Plus