طُعم الممانعة وشبكة الاحتلال.. عن الهُدنة المُرجَأة وعودة غزة من حروب الآخرين

عادت الأنظار إلى غزة من جديد. انتهت مُغامرة أعالى الإقليم، وانتقلت بؤرة الضوء من الرأس إلى القدم، كما جرت العادة بوتيرة واحدة ومتكررة منذ فاتحة المأساة. كُتلة النار تتركّز فى القطاع، والشَّرَر يتطاير بين لبنان وسوريا واليمن ثم يرتدّ إليه.
أنهت الحرائقُ مهمَّاتها عند التخوم القريبة والبعيدة، ويُفترض أن تنقضى مواسم العناد والتشغيب على جهود الإطفائيين؛ لأنه لا مزيد من الحطب لإطعام النار المتأججة على مدى أكثر من عشرين شهرًا، ولا بديل عن إخماد ألسنة اللهب.
مُنِحَ طرفُ الخيط لنتنياهو فى المكان والأوان غير المُناسِبَين على الإطلاق. وبعدما كان يعانى داخليًّا، وجد زمام المبادرة بين يديه، وحُكِّمَ فى مصير خصومه بهفوةٍ غير محسوبة. بدا منذ اللحظة الأولى أنه لن يُفوّت الفرصة المثالية لاستدراك ما فاته، وتصفية خصوماته السياسية مع معارضيه، واستدراج أعداء الخارج واحدًا بعد الآخر.
ولأجل أن تكتمل الغاية؛ كان لِزامًا عليه أن يستبقى الذريعة الكُبرى فعّالة ومُتجدّدة، وأن يُبَعِّد هامش النصر المطلوب إلى أقصى مدىً مُمكن؛ لا لشىءٍ إلَّا أن يظلَّ قادرًا على الزحف البطىء والتقافز بين الخرائط، وتجهيز وليمته بأناةٍ طَبقًا بعد طَبَق.
كانت صفعة "الطوفان" قاسيةً من دون شك؛ لكنه حتى بحسابات الثأر أو الردع، استوفَى ما يُشبِعُ نهمَه فى شهوره الأُولى. بحلول نهاية العام كان قد أردى ما يزيد على 22 ألفًا، وأصاب أضعافهم ماديًّا ونفسيًّا، ودمّر كثيرًا من مُقدَّرات الغزِّيين وفرص عيشهم.
أمّا التمسُّك بالإجهاز على حماس؛ فكان ستارًا لنوايا أكبر، وليس هدفًا موضوعيًّا يتساند إلى المنطق أو الاعتبارات العملانية. فالحركة، بقَصدٍ أو بالمصادفة، انزلقت إلى مُغامرة كاملة الأوصاف، لها طابع انتحارى، ووَعَت مُبكِّرًا أنها استنفدت فرصَ البقاء السياسى والتنفيذى فى بيئتها وأهم معاقلها.
ما يعنى أن مسألة العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر لم تكن واردةً أصلاً؛ ولو ظلَّت حلمًا فى أذهان القادة، أو وُضِعَت على الطاولة لتحسين شروط التفاوض.
ربما لم تكن الجبهات مشبوكةً ببعضها منذ الرصاصة الافتتاحية. سبقَ الإعداد والتشاور مع الحلفاء والرعاة؛ لكنَّ السنوار استبدّ بقرار تحديد شكل العملية وساعة الصفر، وصدم الشُّركاءَ بقَدر ما فاجأ الأعداء.
وعليه؛ فقد بُنِى الرهانُ على اصطياد الاحتلال فى ماء الغلاف، وأن يتجرَّأ الصيَّادون على الهوامش بإلقاء شِباكِهم حالما يستشعرون مُواتاة الظرف؛ لكنَّ الائتلاف اليمينى الحاكم كان يُطلّ برأسه مُسبَقًا خشيةَ الغرق فى لُججه المحلية، ما أعانه على النجاة من الموج العالى، وسمح له لاحقًا بقلب اللعبة على أصحابها، وبدلاً من أن يكون فريسةً سهلة، صار مُفترِسًا، والآخرون بلا استثناء فى جُملة الطرائد والأهداف المرصودة.
المُبادَأة لم تُحقِّق هدف الإرباك كما يُفتَرَض بها؛ بل أربكت القائمين عليها عندما تضخَّمت الهجمة ميدانيًّا، وانفلتت الخطّةُ بأثر الانكشاف وسهولة الوصول.
تعمّق إحساس القسَّاميِّين بالنصر فأوغلوا، وارتبك داعموهم الإقليميون فلم يشتبكوا ولم يُحجموا عن الاشتباك. دفعوا بحزب الله ليلتحق بالجبهة دون ترتيبٍ تحت عنوان "الإسناد والمُشاغَلة"، ثم بفاصل طويل نسبيًّا حلَّ الحوثيون من مسافةٍ تتخطَّى 1200 كيلو متر، ووقف الباقون على خطِّ الملعب يُراقبون الجولة بافتقاد واضح للخيارات.
وهكذا فقدت المفاجأةُ وهجَها وفاعليتها، وتعثرت فى نجاحها المُبكِّر ورخاوتها اللاحقة. فلا تحقَّقت "وحدةُ الساحات" بإغلاق طوق النار حوالىّ العدو، ولا اختُزِلَت المواجهة فى زاويةٍ بعَينها، تُجنّب بقيَّة الزوايا كُلفة المغامرة.
تساوى الإقدامُ بالإحجام، واتَّخذ الهلالُ المُمانِع وتعرُّجاته صورةَ قوسٍ من القش والبارود، مع صلاحية كاملة للصهاينة بالإشعال والإطفاء حسبما يريدون.
حتى ربيع العام التالى كانت الأمور قيد السيطرة نسبيًّا، حال النظر من جهة الشيعية المُسلَّحة وأهدافها وما يحيق بها من مخاطر. والقصد هنا ليس التكافؤ، أو إمكانية العبور من الحقول المُلتهبة دون أن تتأذَّى أو تحترق أطرافها؛ بل انفتاح ثغرة جانبية يُحتمَلُ معها التوصُّل إلى مُقاربةٍ تُرشِّد الخسائر، وتحتمل الطعنة فى جبهة دون المساس ببقية الجبهات.
لكن المحور المُمانِعَ وقع تحت ضغطٍ مُركَّب: نكبة غزة وحماوة رؤوس القابضين على خناقها، وعدم الرغبة فى توسعة الحرب دون معرفة الطريق لذلك أو قابلية تقديم التنازلات.
وبين الخوف الذى يكبح العقل ويشلُّ الأذرُع، والفتنة التى تُمنِّى المفتونين بإضعاف الغريم واستنزافه فى مستنقع القطاع، سارت الدراما على حرفٍ من التراجيديا والملهاة، وسقط المُمانِعون فى جحيمها كما تسقط الفراشات فى المحرقة؛ غرامًا بالدفء والضوء.
حُوفِظَ على إيقاع صاخبٍ فى غزَّة، ومُتدرَّجٍ مع غيرها. وكانت النبرة تعلو خارج المسرح الأصلىِّ فلا يستشعر المتفرجون والمشاركون عُلوَّها. من التصعيد المحسوب مع الحزب قفزًا على قواعد الاشتباك المحسوب، إلى التحرُّش بالأُصول الإيرانية فى الشام مُباشرةً كما فى حادثة القنصلية، وإلهاب ذريعة الحوثيين حتى تشكَّل تحالفٌ دولىٌّ لمُجابهتهم، وضُغِطَ على المفاصل العراقية لإلزام الميليشيات الولائية بالحد الأدنى من المُخاتلة والإحماء.
وبهذا؛ تأمّن لغُول النازية الصهيونية أن يخرُج فى غاراته الجزئية، ثمَّ يعود لميدانه الأصيل مع منكوبى القطاع، يُنعش شهوته للدم ويُجدِّدُ الذرائع، قبل أن ينطلق فى رحلة قنصٍ ثانية تُقرّبه خطوةً من الهدف الأسمى.
حماس كانت طُعمَ المُمانَعة للاحتلال، فصارت شَبكةَ نتنياهو لاصطياد الجمهورية الإسلامية رأسًا للمرَّة الأُولى، ومن دون ألاعيب الوكالة وجولات حروب الظل.
هُدنةُ غزّة الأُولى فى نوفمبر قبل الماضى كانت فاصلاً للاستكشاف وترتيب الأوراق. ومن بعدها لاحت عديدُ الفرص لإنجاز اتِّفاقٍ يُجدِّدها، ويُرشِّدُ فواتير الدم ووحشية إبادة الحياة والأحياء فى القطاع.
يُمكن تعداد المحاولات من جولتى باريس، ثم ورقة القاهرة، ومُقترح الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن؛ لكنها جميعًا كانت تسقط فى الأمتار الأخيرة، لأسبابٍ معلومة حينًا وغامضة فى أغلب الأحيان. ويمكن الجزم بأنه لم يكُن التوقُّف وقتَها فى مصلحة الغُزاة ولا بين أولويّاتهم، وأنهم المسؤول الأول والأكبر عن تضييع المحطات.
لكنَّ الفحص من نطاقٍ قريب، وبعقل باردٍ تمامًا، لا يعفى حماس مُطلَقًا؛ ليس لأنها مُفجّرة الحدث أو المَعنيّة بشروط التهدئة المطلوبة؛ بل لوَصْل خطوطها منذ البداية بباقة أهدافٍ تفوق قُدراتها، وتتخطَّى مجالها الحيوىَّ، وفلسطين بكاملها من النهر للبحر، وتلضُم الحركىَّ فى الأيديولوجى بانفصالٍ كامل عن الوطنى، وعمَّا يُحيط به من أوضاعٍ وتحكمُه من توازنات.
ولا مجال هُنا لرفاهيةٍ وتعامٍ يسمحان بالتعالى على حقيقة أنَّ الانقسام أصاب المشروع التحرُّرىَّ فى صميم قلبه، قبل أن يُعَرِّض به الطوفان، أو تتمكَّن منه آلةُ الصهيونية المتوحشة.
ذهب الحماسيِّون إلى مُنازلة وجودية دون غطاء شعبى، وبعيدًا من التفاهم الداخلى والإجماع المطلوب. اكتفوا براية القسَّام عن عَلَم الدولة الضائعة، وبالحُلفاء الخارجيين عن الأشقاء والأصدقاء.
وبهذا بدا أن الحركة حدَّدت مجال الصراع، واختزلت التسخين والتبريد فى الفرع لا الأصل، بحيث لم تعُد فلسطين بمجموعها الجغرافى والشعبى موضوعًا للحظة الراهنة بكلِّ تداعياتها، بل مُجرّد مُتَّكئ يتساند إليه التنظيم للعب أدوارٍ عابرة للحدود، وفوق الجغرافيا والتاريخ معًا.
فظلّت تتلقَّى الضربات هُنا، وتعقِدُ آمالَها الورديّة على القبضة الرخوة هناك، فيما تتوهّم أن كلَّ تطوُّرٍ فى الساحات الرديفة سيصُبُّ فى صالحها، ويُعزِّز حتمًا من مراكزها المتداعية.
دفعَها الوهمُ إلى مزيدٍ من التشدُّد، وأغرقها فى طوفاناتٍ عديدة لاحقة، كانت تأتيها من الاتجاه المعاكس: تحييد الحزب وتصفية قادته، إسقاط نظام بشَّار وكَسر الهلال الشيعى من خاصرته، صفقة الحوثى مع الأمريكيين دون الإسناد وفوق حدِّ الإعفاء من كُلفة النَّزَق اليَمنِىّ، ترويض الحشد الشعبى وتأطيره ضمن برواز مُشبَّع بالخطابة ومُستأنَس فى الميدان، وأخيرًا إطاحة الورقة الإيرانية نفسها عن الطاولة، والنيل من العاصمة والملجأ الأخير بأسوأ الصُّوَر المُمكنة والمُزعجة لغزَّة قبل غيرها من الجبهات المفتوحة.
صحيحٌ أنَّ المُقدِّمات العديدة السالفة لا تحمل أيّة إشارة إلى رغبة التوراتيِّين والقوميين الصهاينة فى التهدئة، وما أسوقه شخصيًّا يُرجِّحُ فكرة أن نتنياهو لم يكُن فى وارد تصفية عدوانه على القطاع ضمن أية مُقاربة طُرِحَت سابقًا؛ إلَّا أن فلسفة الحركة فى إدارة الاشتباك السياسى لم تكُن خاليةً من تأثيرات جنرالات الأنفاق، وربما إملاءات مَروحةٍ خارجية واسعة، تمتدُّ من طهران إلى بعض عواصم المحور الإخوانى.
وبهذا السلوك؛ وفّرت ذرائع سهلة لاستدامة المَقتَلة بأقلِّ قدر من الضغوط والأعباء، وحتى مع القبول بالصفقة المطروحة فى يناير الماضى، كان النزول عن الشجرة اضطراريًّا، وعلى معنى الارتداع أمام وعيد ترامب وتهديداته الساخنة.
كما لم يُستَثمَر فى سياق التوصُّل لتخريجةٍ نهائية، تعرفُ الحركة قبل غيرها أنها ستكون الخيار الأخير، والوحيد على الطاولة، ولن تنطوى ساعتئذٍ على أىِّ هامش للوجود السياسى والإدارى، ولا لاستبقاء ما تبقَّى من السلاح وطَلَل القُدرات العسكرية حُرًّا وقادرا على الاضطلاع بما عجز عنه سابقًا، وعندما كان فى أَوْج الاكتمال والعنفوان.
كان نتنياهو يكسب مزيدًا من الأرض كلَّ يوم؛ فيما يخسر المنكوبون ما لا طاقة لهم به، ويُحَمَّل مستقبلُهم باعتلالاتٍ سيحتاجون عقودًا مُقبلة للتعافى من آثارها الثقيلة.
يقنص العارورى وفؤاد شكر وإسماعيل هنيَّة؛ فتتأجَّج شهوته وتتعاظَم طموحاتُه، بينما يتشبّث ذوو الضحايا بالقليل الباقى، فيُغذّون أطماعَه فى المزيد.
يُسقط عمامة حسن نصر الله ويُحَيِّد الحزب، ويتمدَّدُ فى الجولان وما بعدها على إيقاع السَّقطة الأسدية، فيتطاوَس أكثر ويتجهَّز لاقتحام القلعة الحصينة، بينما الجميع نيامٌ أو مشدوهون بحصان طروادة الجميل، وقد أخذ يتعملقُ يومًا تلو الآخر، ويتَّسع بطنُه لخططٍ وقذائف وأهداف، ربما لم تَرِد على الخاطر، أو كانت فى عِداد المستحيل قبل زمنٍ غير بعيد.
بالحسبة الميدانية، حقَّق المُعتدِى غايتَه الكاملة من جبهة غزة. ولا معنى لتُرهّات أنه لم يقضِ على حماس تمامًا؛ لأنه على الأرجح كان عارفًا باستحالة الفكرة عمليًّا، وقبض عليها بمنطق أنها الحدُّ الأقصى الذى يقوده إلى ما وراء القطاع.
وبعدما توصّل إلى تكسيح الميليشيا اللبنانية، وإعادة بناء أُفقٍ سياسىٍّ مُضاد للشيعيَّة المُسلَّحة فى سوريا، ثم المساس بإيران نفسها بالأصالة وفى عُقر دارها، فلم تعُد لديه حاجة الآن إلى الذريعة القديمة وقد استنفدت أغراضها.
والباب مفتوح الآن لمُقاربة مُغايرةٍ نسبيًّا؛ لا سيَّما أنه رمَّمَ جانبًا من شعبيّته المُهدَرَة، ونحّى الطوفان جانبًا لصالح عملية "الأسد الصاعد" فى جبال فارس، ويحوز دعمًا أمريكيًّا غير مسبوقٍ بالكيفية والأثر، خصوصًا بعدما تدخَّل ترامب للدفاع عنه، وتجرّأ على اللعب فى البيئة الداخلية لحليف صغير، يتحسَّس دومًا من كلِّ سلوكٍ يُبرز ضآلته ويمسُّ شعوره بالاستقلال والأهلية الكاملة.
وقد تفجّر غضبٌ عارم فى إسرائيل من دعوته لوقف محاكمة زعيم الليكود، أو منحِه عفوًا عامًّا، ناهيك عن اعتباره بطلاً عظيمًا ومُحاربًا لا مثيل له، وتوصيف مُساءلته القضائية عن وقائع الفساد باعتبارها "مُطاردة سَحَرة"، فى أعلى صور الذَّمِّ المُمكنة للدولة ونظامها وسُلطاتها القضائية.
يتردَّد أنَّ الرجلين اتّفقا على وقف العمليات الجارية داخل غزّة فى غضون أسبوعين، وأنَّ تفاهماتهما تنطوى على نزع سلاح حماس وإخراج بعض قادتها، وتأهيل إدارة مدنيَّة غير فصائلية بمُواكبة أمنية خارجية، قد تكون إقليمية أو دولية.
وبعيدا من التفاصيل غير المكتملة، وما سيقع منها بالضرورة فى عُهدة الاختلاف، ورفض الداخل الفلسطينى أو عدم قبول الحزام العربى اللصيق؛ فالجوهر أنَّ البقاء دون أُفقٍ سياسى لم يعُد مقبولاً من جانب البيت الأبيض، ولا مفيدًا للائتلاف الحاكم نفسه، بغض النظر عن صخب الوزيرين المتطرفين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن جفير.
نشوة الانتصار على إيران، بعيدًا من النزاع فى تعريفه ودرجته وفق المقاييس الحربية، تسمح اليوم بتحقيق اختراق على جبهة غزة. والورطة الأمنية والانكشاف المفتوح يُعزِّزان الحاجة إلى صفقة لا تُعمِّق المحنة ولا تُبدِّدُ مفاعيل الغزوة الفارسية.
قبل أيام تعرض الاحتلال لضربة موجعة فى خان يونس، أسفرت عن مقتل ضابط و6 جنود نتيجة تراخٍ فى الاحتياطات واستخدام مُعَدَّات مُتقادمة، ومع وجود أربعة فرقٍ نشطة فى القطاع، بجانب ألوية نوعية عدّة، فالمشهد أقرب إلى قطيع أفيالٍ يُطارد جيشًا من النمل، ربما يسحق آلافًا منهم تحت الأقدام؛ لكنه سيظل مُعرَّضًا للإزعاج والإنهاك دون طائل ملموس.
وبحسبة عمليَّة؛ ستأخُذ اللعبة القائمة بأكثر مِمَّا تُعطى، ولن تُضيف لجردة العمليات ولا ما تحقَّق على صعيد تقطيع الأذرُع أو تحييدها، وإنهاء فاعلية المحور المُمانِع على كلِّ الجبهات، ولفُسحةٍ زمنية لن تكون قصيرة.
لدى «بيبى» رصيد صالحٌ للصرف الآن، وقد لا يظلُّ طويلاً، وكلُّ يوم أو حادثة على الجبهة الجنوبية ستأكلُ منه المزيد. وإذا كان أحوج من غيره إلى صفقة الآن؛ فإن هذا لا يضع حماس فى موقع المنتصر، ولا يمنحها يدًا عُليا على مسار التفاوض، وينبغى ألَّا يتورَّط قادتها فى النظر للمشهد من تلك الزاوية المُضلّلة.
مُفاضلة العدو بين الجيد والسيئ؛ لكن خيار الفصائل الوحيد للأسف بين السيئ والأسوأ، وإذا كان الحزب الأقوى لم يصمد فى المواجهة، وأُزيحت طهران من الصورة بقسوة وتبجح؛ فليس فى مقدور الحركة اليومَ إلَّا استنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإفساح مجال للمجموع الوطنى ومَنْ يُواكبونه بتعقُّلٍ وصفاءٍ نَفْسٍ من الحواضن الإقليمية، لأجل التماس مَخرجٍ من الفخ، بدلاً من مُواصلة الحَفر وتعميق المحنة دون عائدٍ مُباشر راهنًا، وبتكاليف مُضاعَفة فى كلِّ محطّةٍ تالية كما جَرَت العادة، وأكَّدت الوقائع السابقة كلها بلا استثناء وحيد.
ضغوط إسرائيل تتوزّع على الصعوبات العملية بعد أكثر من 630 يومَ قتالٍ، والحوادث الميدانية وتباطؤ الأداء وافتقاد الفاعلية، مع إرهاق المقاتلين وتراجع حيويتهم. عملية "عربات جدعون" لم تترك أثرًا ملموسًا غير الحادث بالفعل، وتجربة الإغاثة من خلال "مُؤسَّسة غزة الإنسانية" حققت فشلاً ذريعًا وأضافت مزيدًا من الإدانة والشقوق لصورة إسرائيل المتداعية أصلاً.
كل هذا جميل ويُمكن أن يكون مثمرًا؛ غير أن الهامش المتاح على الجانب الآخر ضاق لدرجة الاختناق، وبات محصورًا بين الموت العميم والحياة المُعطَّلَة، ولا هامش للتداوى المُعجَّل، ناهيك عن أوهام الاستدراك والرجوع إلى ما قبل الطوفان.
تحتاج الوحوش للتوقف؛ لكنها قادرة على استكمال المطاردة، فيما لا بديل للفرائس عن وضع النقطة فى آخر الحكاية المأساوية بأسرع ما يكون، واحتمال التضحيات الممكنة الآن؛ لأن سوابق الفصول تقطع دومًا بأن الأسوأ لم يأت بعد.
تبدّدت خيارات حماس للأسف، ويعود هذا فى الجانب الأكبر لوحشية المحتل، وفى بعضِه لنَزَق المقاوم أو من يستبدُّ بقراره ويرهَنُ مصيرَه لحساباتٍ فوق فلسطينية. حتى هامش الاستنزاف تقلّص بشدّة، ولم يعد مُوجِعًا أو قادرًا على استعادة الحدود الدنيا من الردع.
وإذا كان العدو مُتقدِّمًا منذ اللحظة الأولى؛ فقد بات أكثر تقدُّمًا بعدما نال من ثلاث أو أربع جبهاتٍ كان يُعَوَّل عليها فى الإنقاذ أو التصعيد، وبالتالى لم تعُد بين أوراق المُفاوضين الحماسيين أيّةُ قصاصةٍ تُتيح المُراهنة على طفراتٍ طارئة أو تحوُّلاتٍ مُستجَدَّة من الخارج.
وما زال الصراع محتدما فى تل أبيب، بين غياب الأُفق السياسى وتمسُّك المتطرفين بعدم تقديم ما يعدونها تنازلات، فيما يجهل نتنياهو حتى اللحظة نقطة التوفيق بين ما يريده للقطاع وما يمكن إنجازه فعلاً؛ ومِن هُنا تتعاظَم أهمية اليقظة واتقاد الذهن، ومحاولة اغتنام الفرصة المثالية بين استراحة بيبى النسبية من الجنون، واحتياج ترامب لإنجاز سياسى يُعزِّز صورته كصانع سلام، خصوصًا أنَّ ضربة المنشآت النووية وحدها لا تطمئنه إلى استحقاق جائزة نوبل.
شعور إسرائيل بنتائج حربها مع إيران سيُترجَم فى غزّة، خاليًا من المُناكفة وألاعيب الدعاية. التوقف الأخير على الأرجح مُجرّد هُدنة بين جولتين، وسيواصل الطرفان الاستعداد، وبعدما فُتِحَت جبهتهما المباشرة لا حاجة للأذرع وذرائعها.
إن كان نتنياهو يحسُّ بالنصر فقد يُقدِمُ على إغلاق الصفحة الجنوبية، وإن تغلّب عليه حِسُّ الهزيمة فربما يتشدّد، وفى الحالين يجب ألَّا تكون العقبة من جهة خليل الحيّة وفريقه، ولا أن يمنحوه هدّية مجّانية مُجدَّدًا، تُغَلِّب الانحياز فى نفس ترامب على رغبة تصفية المواجهة واستحلاب حالة الزهوّ بفكرة الأب واليد الباطشة.
ضبابية المشهد بين تل أبيب وطهران سمحت للطرفين بالاحتفال؛ لكن التجربة غير قابلة للتكرار فى غزّة. الفوارق واضحة، والأضرار أكبر من الحصر. العدو اللصيق غير البعيد، وما يُقبَل هناك لن يُسمَح بتمريره هُنا.
وإذا كانت تصفية اللغط المُمانِع فى أنحاء الإقليم أعادت الضوء لفلسطين؛ فيجب ألا تكون الحركة عقبة فى طريق إبراز المعاناة واستحصال المردود الطبيعى عنها، وفتح كوّة صغيرة يعبر منها الضوء للمنكوبين أوّلا، وتُؤازر المسار السياسى هُنا والآن، وبعد بُرهة فى مؤتمر "حل الدولتين" الذى أُرجئ بأثر اشتباك الصهاينة والملالى.
الهُدنة على مرمى حجر، وبعيدة مثلما كانت دائمًا. ما تزال الإرادات متضادّة ومتصارعة، والأوزان على وضوحها تغيم فى أذهان البعض. الفصائل مدعوّة إلى مُعايرة أوراقها على بيّنة من التعقُّل وإعلاء الوطنى فوق الحركى والأيديولوجى.
لا يصح الارتياح إلى أن غزّة خسرت ماء عينيها، ولا ضرر فى أن تخسر المزيد من دماء أبريائها. كانت الجولة خاسرة بالإجمال، وما حرّكت القضية ولا أبقتها على حالها، وأضعفت السلاح والسياسة بالتساوى.
مُغادرة الوهم لم تعُد رفاهية مُتّصلة بمصلحة آنية أو مُرجأة؛ بل شرط وجود وكينونة وحفاظ على الطلل والردم، وعلى ما تبقّى ويحوّطه الإفناء من كل جانب.
هُزِمَت المُمانَعة، وما تزال لدى فلسطين فرصة؛ والواجب ألا تُستخلَص كُلفة الهزيمة كاملة من الطرف الأضعف فى المحور، والذى لم تكن له الخيرة فى الأمر من الأساس.

Trending Plus