أخبار الزمان.. ما يقوله المسعودى عن عجائب عالم البحار

المعرفة ليست مضرة، وليس من الضروري أن نصدق كل ما نعرفه، لكنه بصورة ما يفيدنا ذلك في فهم طرق التفكير، لذا أحب العودة لقراءة كتب التراث وتأمل ما فيها، خاصة كتب التاريخ، التي تلقى الضوء على الحياة قبل وجود الإنسان، وما يتعلق بالكائنات التي سبقتنا على الأرض، ومن هذا المنطلق نقرأ معا ما كتبه المسعودي في كتابه أخبار الزمان:
يقول المسعودي تحت عنوان "ذكر البحر المحيط وما فيه من العجائب":
يقال إن فيه عرش إبليس لعنه الله فوق البحر المظلم يتشبه بالباري عز وجل، ويحمله نفر من الأبالسة والعفاريت العظام لحمله، ويحيط به عفاريت من الجن الذين هم في طاعته فمنهم من في لججه لا يفارقه، ومنهم من يتصرف عن أمره، وإنه لا يزول مرتبته إلا إلى من يطمع في فتنته أو عبد صالح يريد كيده، والباقون من أعوانه الذين يسعون إلى الناس ويضلونهم، وسجنه في جزيرة منه يحبس فيه من خالفه من الجن والشياطين.
وفيه هيكل سليمان النبي عليه السلام، وفيه جسده وهو قصر عجيب في جزيرة، وفيه مواضع لا تزال على مر الزمان ترمي ناراً ترتفع على مائة ذراع وفيه أسماك طول الحوت مدة أيام، وكل صورة عجيبة مختلفات الأشكال والصفات الملونة في كل لون من الألوان.
وفيه مدائن تطفو على الماء وتغيب عنهم، وفيه الثلاثة أصنام التي عملها أبرهة أحدها أصفر يومئ بيده كأنه يخاطب من جاوزه، ويأمره بالرجوع.
والصنم الثاني أخضر رافع يديه باسط لهما كأنه يريد إلى أين تذهب، والصنم الثالث أسود يومئ بأصبعه إلى البحر: من جاز هذا المكان غرق، مكتوب على صدره " هذا ما صنع أبرهة ذو المنار الحميري لسيده الشمس تقرباً إليه ".
وحكي أن فيه كالحصون ترتفع على الماء، ويظهر منها الصور الكثيرة وتغيب في الماء.
ويقال إن عمق هذا البحر يختلف، فمنه مالا يلحق قعره ولا يدري، ومنه ما يكون سبعة آلاف باع وأكثر وأقل، ومنه ما يكون فيه شجر كالمرجان وأما البحر الأسود الزفتي وهو متصل به وهو شديد النتن، وليس فيه غير القلعة الفضية، قيل إنها معمولة، وقيل إنها خلقة.
ويخرج من هذا البحر بحر الصين أوله من بلاد الغرب، بحر فارس إلى بلاد الصين، وهو بحر ضيق فيه مغايص اللؤلؤ.
وقيل إن فيه اثني عشرة ألف جزيرة، وثمانمائة جزيرة.
وفيه الدردور موضوع يدور فيه الماء فاذا سقط فيه مركب لم يزل يدور فيه حتى يتلف، وفيه كسير وعوير وهما جبلان.
وفي هذا البحر عجائب كثيرة وصور شتى وحيتان ملونة، منها ما يكون طوله مائة ذراع ومائتي باع وأقل وأكثر يأكل بعضها بعضاً.
وفيه جزائر تنبت الذهب وبها معادن الجوهر، وفيه ثلاثمائة جزيرة عامرة مسكونة فيها ملوك عدة، ويقال إن في هذا البحر قصراً من البلور، على قلعة تضئ طول الدهر بقناديل فيه لا تنطفئ.
وبعد هذا بحر لا يدرك عمقه، ولا يضبط عرضه، تقطعه المراكب بالريح الطيبة في شهرين وأكثر، وليس في البحر المحيط أكبر منه ولا أشد هولا، وفيه من جميع المعادن من الزمرد ومنابت القنا والخيزران، وفيه أيضاً كل سمكة يكون طولها أربعمائة ذراع وأقل وأكثر، وسمكة صغيرة بقدر الذراع فإذا طغت هذه السمكة وبغت وآذت سمك البحر ومراكبه سلطت عليها هذه السمكة الصغيرة فصارت في أذن هذه الكبيرة فلا تفارقها حتى تقتلها، وربما لم تقرب الكبيرة ذلك الموضع خوفاً من الصغيرة.
وفيه سمكة يحكي وجهها وجه الإنسان تظهر في الماء، وفيه أسماك طيارة تطير ليلاً وترعى الندا، فإذا كان قبل طلوع الشمس رجعت إلى البحر.
وفيه سمكة تكتب مرارتها الكتابة فتقرأ بالليل، وفيه سمكة خضراء دسمة من أكل منها اعتصم عن الطعام أياماً كثيرة لا يريد ذوقه وفيه سمكة لها قرنان كأنهما قرنا السرطان، يرميان بالليل نارا وفيه سمكة مدورة يقال لها المصح فوق ظهرها كالعمود، مستحد الرأس لا تقوم لها سمكة في البحر، لأنها تلقاهن بهذا القرن فتقتلهن، وربما نقبت به المراكب، وقرنها أصفر كالذهب مجزع، يقال إنه ضرب من الحوت وفيه سمكة يقال لها هفس من صدرها إلى رأسها مثل الترس يطيف به عيون تنظر بها ورأسها طويل مثل الحية في طول عشرين ذراعا بأرجل كثيرة مثل أسنان المنشار من صدرها الى آخر الذنب، فليس تتصل بشئ إلا أتلفته ولا ينطوي ذنبها على أحد إلا أهلكته، يقال إن لحمها يشفي من كل الأوصاب، وقليل ما يوجد وفيه عنبر وبحر آخر يقال هركند فيه جزائر كثيرة وفيه سمك ربما ينبت على ظهره الحشيش والصدف، وربما أرسا عليها أصحاب المراكب فيعتقدون أنه جزيرة فإذا فطنوا به أقلعوا عنها وربما نشر هذا السمك أحد جناحيه الذي في صلبه، فيكون كالجبل العظيم، وإذا رفع رأسه من الماء فيكون كالجبل عظماً، وربما إذا رفع أذنيه فيكون مثل المنارة العظيمة، فإذا سكن البحر جر السمك بذنبه ثم فتح فمه فينزل السمك الى حلقه كأنه ينزل إلى بئر، ويقال له العنبر طوله ثلاثمائة ذراع.
وأهل المراكب يخافون منه، فهم يضربون بالليل بالنواقيس مخافة إن يتكئ على المركب فيغرقه.
وفيه حيات عظام تخرج إلى البر فتبتلع الفيلة، وتلتف على صخور في البر فتتكسر في أجوافها ويسمع لها صوت هائل، وفيه حية يقال لها الملكة لا تظهر إلا مرة واحدة، وربما احتال فيها ملوك الزنج فأخذوها وتطبخ حتى يخرج ودكها ويدهن به الملك فتزيد في قوته ونشاطه ويستعمل من جلود هذه الحية - وهي منمرة - فرش إذا جلس عليها صاحب السل ذهب عنه السل ومن جلس عليه أمن السل أن يصيبه أبدا.
وريح هذا البحر من قعره، ربما ألقى عند اضطرابه ناراً لها ضوء شديد والبحر الرابع يقال له دوانحد وبينه وبين بحر هر كند جزائر كثيرة، يقال (إنها) ألف وتسعمائة جزيرة، ويقع بين هذه الجزائر عنبر كثير وهذا العنبر ينبت في قعر البحر نباتاً، فإذا اشتد هيجان البحر قذفه من قعره فيرتفع مثل الرمل والحمأة، وهو عنبر دسم وقرأت في كتاب الطيب الذي ألفه إبراهيم بن المهدي، أن أحمد بن حفص العطار قال كنت في مجلس أبي اسحق وهو يصفي عنبراً قد أذابه، وقد أخرج ماكان فيه من الحشيش الذي على خلقه مناقير الطير، فسألني فقلت هذه مناقير الطير الذي يأكل العنبر إذا راثته دوابه، فضحك أبو اسحق وقال هذا قول تقوله العامة.
ما خلق الله دابة تروث العنبر، وما العنبر إلا شئ يكون في قعر البحر، ولقد عني الرشيد بالمسألة عن العنبر، فأمر حماداً البدوي في البحث بالمسألة، فكتب إليه أن جماعة من أهل عدن أعلموه أنه شئ يخرج من عيون في قعر البحر تقذفه الريح بالأمواج، كما تخرج أرض هتبة القار وهي أرض الروم الزفت الرومي.
وآخر جزائر هذا البحر بسرنديب في بحر هر كند وهي رأس هذه الجزائر كلها، وفي سرنديب أكثر مغايص اللؤلؤ ونبات الجوهر، وببحر سرنديب طرق بين جبال، وهي مسالك لمن أراد بلاد الصين، وفي جبال هذا البحر معادن ذهب فيه أيضاً مغايض اللؤلؤ، وفيها بقر وحشية وخلق مختلفة الصور، ويسلك من هذا البحر إلى بلاد المهراج وربما أظلت السحاب هذا البحر يوماً وليلة، ولا ينقطع عنه المطر ولا تظهر حيتانه ودوابه وتخرج منه إلى بحر الصنف، وفيه يكون شجر العود وليس فيه أحداً يعرفه ورأسه تخرج من قرب الظلمة الشمالية وتمر أيضاً على بلاد الواق وفيه ملك الجزائر الذي يدعى المهراج، وله من الجزائر والأعمال ما لا يحصى كثرة، ولو أراد مركب من مراكب البحران أن يطوف بجزائره في سنين كثيرة لم يقدر أن يطوفها، ولملكه جميع أفاويه الطيب والكافور والقرنفل والصندل والجوزة والبسباسة والقاقلة والعود، وليس لملك من الملوك ما لملك هذا البحر من أصناف الطيب، ويقال إن فيه قصراً أبيض يسير على الماء ويتراءى لأصحاب المراكب في السحر فيتباشرون به إذا هم أبصروه ويكون لهم دليل السلامة والربح والفائدة وفيه جزيرة برطايل، فيها جبال مسكونة يسمع فيها باليل والنهار والعزف والطبول والأصوات المنكرة ووجوه أهلها مثل المجان المطرقة، وهم مخرقو الآذان وأكثر البحريين مجمعون على أن الدجال فيها، ومنها يخرج إذا بلغ منتهاه وفيها يباع القرنفل، ويشترونه التجار من قوم لا يبصرونهم وفيه البراقية (١) وهي مدينة لطيفة من حجر أبيض براق يسمع فيها ضوضاء وأصوات، ولا يرى بها ساكن وربما نزل إليها البحريون وأخذوا من مائها فوجدوه أبيض (٢) زلالا حلو الطعم فيه روائح الكافور
ومنه جزيرة بها مساكن وقباب بيض تلوح وتتزايا للناس فيطمعون فيها وكلما قربوا منها تباعدت منهم فلا يزالون كذلك حتى ييأسوا منها فينصرفوا عنها ويتصل هذا البحر بالواق، ويقول البحريون انهم لا يعرفون منتهاه غير أن أقصاه جبال تتوقد ناراً ليلا ونهاراً يسمع لها قواصف مثل قواصف الرعود من شدة التهابه، وربما سمعوا من تلك النار صوتاً عرفوه يدل على موت ملك من ملوكهم أو كبير من كبرائهم، وهذا الموضع لا يدرك قعره.
وبعد بحر الصنف الذي ذكرناه بحر الصين، وهو بحر خبيث بارد ليس في غيره من البحار مثل برده، ويقال: إن ريحه من قعره، ويقال إنه بحر مسكون له أهل في بطن الماء.
وأخبر الثقة من أصحاب البحر أنهم يرونهم إذا هاج البحر في جوف الليل كهيئة الريح، ويطلعون إلى المراكب: وليس يكون ذلك الا عند هيجان البحر وذكر البحريون انهم لا يعرفون بعد بحر الصين بحرا يسلك، وهو بحر يغلي كما تغلي القماقم، وليس صفة ما به كسائر البحار وفي بحر الصين سمكة مثل الحراقة يرمي بها الماء إلى الساحل، فإذا انجذر الماء بقيت على الطين فلا تزال تضطرب مقدار نصف نهار، ثم تنسلخ في اضطرابها ذلك، فيخرج لها جناح فتستقل به فتطير وزعموا أن عرض بلاد الصين الذي تمر عليه المراكب ألف وخمسمائة فرسخ وفي هذا البحر يرى وجه عظيم على صور الناس إلا أنه أعظم منه، مستدير يشبه لون القمر، يغطي ما بين جبلين وأبواب الصين البحر بين كل جبلين فرجة وقيل إن بمدينة بقمولية وهي القسطنطينية الأولى كنيسة في جوف البحر وربما تنكشف يوماً في السنة فيحج أهل النواحي إليها ويستعدون لها قبل ذلك فيقيمون فيها يومهم ويتفرقون ويهدون إليها بدنهم فإذا كان العصر بدا الماء في الزيادة فينصرفون ويبادرون الخروج عنها ولا يزال الماء يغطيها فتغيب إلى رأس السنة أيضاً.
ويقال إن في بحر الهند حيواناً يشبه السرطان، فإذا خرج من الماء صار حجراً يتخذ منه كحل لبعض علل العين وأما بحر المرجان فهو في بحر الأندلس خاصة، ينبت في قعره مثل الشجر فما بعد منه عن درك الغواصين يحتال في قلعه، بأن يربط بالشرايط في كتان القنب، ويثقل بالرصاص ويدلى حتى يصل إلى الشجر، ثم يحرك المركب بالجذب، وتلك منوطة بهايمنة ويسرة حتى يعلم تشبكها في اغصان المرجان، ثم تقلع الشرايط، فيوجد المرجان قد اتخذ، وله نفاق كثير بالحجاز والهند والصين، وفيه عنبر كثير، وفيه سمك من أكل منه رأى كأنه ينكح، وفيه سمك في صور الناس.
Trending Plus