الاقتصاد الأخضر.. تطبيقات مصرية (ج2)

تصاعدت في القرن الحالي حدة الاختلالات المناخية وتسارع وتيرة استنزاف الموارد الطبيعية، وبرز الاقتصاد الأخضر كنهج تنموي بديل يسعى لتحقيق التنمية المتوازنة، من خلال المواءمة بين النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، ويعد هذا التوجه تحولًا جوهريًا في فلسفة التنمية، إذ يستند إلى منظومة قيمية تعيد الاعتبار للأخلاق والمسؤولية وتؤكد على دمج الإنسان في قلب السياسات، بعيدًا عن النماذج التقليدية التي قامت على الاستهلاك الجائر والتهميش الاجتماعي، ليغدو الاقتصاد أداة للارتقاء لا وسيلة للإقصاء أو الاستنزاف.
وقد حققت مصر خلال السنوات الأخيرة تقدمًا ملموسًا في تبني الاقتصاد الأخضر، مستندة إلى استنادًا إلى ما نص عليه الدستور في مادته الثانية والثلاثين من ضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية وحقوق الأجيال القادمة، مدفوعة برؤية تنموية طموحة (رؤية مصر 2030)، التي توازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، وهذا الالتزام قد عكس توجهات القيادة السياسية الرشيدة.
وترجمت هذه الرؤية إلى مشروعات واقعية كبرى، أبرزها مشروع بنبان للطاقة الشمسية بأسوان، الذي يعد أحد أكبر مشروعات الطاقة الشمسية في العالم، ويعد نموذجًا ناجحًا للشراكة في التحول نحو الطاقة النظيفة ودعم ريادة الأعمال الخضراء بين الشباب، ورفع الوعي البيئي، وأكد أن المناطق النائية قادرة على أن تصبح مراكز إنتاج مستدامة متى توفرت الرؤية، والإرادة، والتعليم الواعي، والهادف.
وتعد مبادرة حياة كريمة من أبرز المبادرات التي تعكس اندماج الاقتصاد الأخضر في السياسات العامة؛ حيث تهتم بتحسين البنية التحتية والخدمات في القرى والمناطق المهمشة، وإعادة هيكلة النموذج التنموي وتوفير مشروعات سكنية آمنة وتطوير البني التحتية، وتنمية المهارات الحرفية والبيئية لدى الشباب والنساء، وتشجيع إنشاء مشروعات صغيرة خضراء، وتنمية الوعي البيئي لدى السكان المحليين، مما يجعلها نموذجًا عمليًا لتحويل التنمية من مجرد تدخلات خدمية إلى عملية شمولية تعيد الاعتبار للإنسان والبيئة، وتبرز الدور المحوري للدولة في صياغة سياسات تُمكن المجتمعات الريفية من الانتقال نحو اقتصاد أخضر عادل وشامل، يؤسس للصمود الاجتماعي، ويُرسخ أسس العدالة المناخية والمكانية.
وأطلقت مصر برنامج نُوفي الوطني ضمن استراتيجيتها لتغير المناخ 2050، بهدف ربط مشروعات المياه والغذاء والطاقة بمنظومة تمويل تنموية ميسرة، تجمع بين التمويل الدولي والاستثمار الخاص، ويركز البرنامج على تنفيذ عدد من المشروعات ذات أولوية بحلول 2030، تتضمن تحلية المياه بالطاقة المتجددة، أنظمة الري بالطاقة الشمسية، وتحسين كفاءة الموارد، ويُعد برنامجًا مبتكرًا للانتقال العادل نحو الاقتصاد الأخضر، من خلال تمويل مختلط يدمج بين الدعم الحكومي والمساندة الدولية ومشاركة القطاع الخاص، ويعكس التزام مصر بالعدالة البيئية، والتكامل بين التنمية المستدامة والعمل المناخي، والتمكين المجتمعي.
وشكلت قمة المناخ COP27 محطة دولية فارقة في مسار العمل المناخي، لأنها سلطت الضوء على دور الدول النامية خاصة في إفريقيا، وقيادتها لجهود التحول الأخضر، وتأكيد حقها في التنمية العادلة والمستدامة، وعرضت مصر عددًا من المبادرات والمشروعات الخضراء، أظهرت مصر من خلالها قدرتها على قيادة حوار دولي متوازن يجمع بين التحديات البيئية العالمية وخصوصية السياقات المحلية، وأسهمت في طرح ملفات حيوية كالخسائر والأضرار التي تتكبدها الدول الفقيرة جراء التغير المناخي، والتمويل المناخي العادل، ودور التعليم والتكنولوجيا في بناء مجتمعات قادرة على التكيّف والاستجابة، ومن ثم شكلت قمة COP27 منصة دولية لتعزيز الدبلوماسية المناخية المصرية والعربية.
وتُعد إدارة الموارد المائية تحديًا أساسيًا في ظل التغيرات المناخية، وفي مصر تمثل الموارد المائية مسؤولية بيئية واقتصادية وأخلاقية، وللحفاظ عليها والاستثمار بها تم تنفيذ مشروعات مثل تبطين الترع ومحطة معالجة مياه مصرف بحر البقر، لترشيد استهلاك المياه وتقليل الفاقد الناتج عن التسرب والبخر، وتحسين كفاءة الري، بما يدعم الفلاحين والأمن الغذائي ويسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والبيئي.
وتمثل محطة معالجة مياه بحر البقر نقلة نوعية في الرؤية التنموية، حيث تتحول المياه المهدرة إلى موردٍ منتج، يتم استخدامه في استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة في شمال ووسط سيناء، وهو ما يجسد فلسفة الاقتصاد الدائري، التي تقوم على إعادة الاستخدام وتقليل الفاقد وتعظيم الكفاءة، وتقليل التلوث وتنشيط التنمية المتكاملة، وتوفير فرص العمل.
وتتبنى مصر رؤية استراتيجية للدمج بين البيئة والتخطيط الحضري، من خلال التوسع في النقل الجماعي المستدام كمترو الأنفاق والقطار الكهربائي، واستبدال المركبات القديمة، وتوطين صناعة السيارات الكهربائية، مما يؤسس للابتكار الأخضر والتصنيع المحلي، كما توسعت الدولة في مشاريع الربط الكهربائي مع دول الجوار، وزادت من اعتمادها على الطاقة المتجددة، وفعلت التعاون مع صندوق المناخ الأخضر لتمويل مشروعات التكيف والتخفيف، في تأكيد على التزامها المؤسسي بتحقيق التحول الأخضر.
كما أطلقت أول سندات خضراء سيادية في المنطقة لتمويل المشروعات البيئية، وأعدت استراتيجية وطنية لإنتاج الهيدروجين الأخضر، مستفيدة من مقوماتها لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة النظيفة، كما دشنت أول ميناء جاف بمدينة 6 أكتوبر ضمن مسار التعافي الأخضر، بما يحقق ريادتها في الاقتصاد الأخضر والعيش المستدام، وفي هذا الصدد تقوم وزارة البيئة في مصر بدور محوري يجمع بين الرقابة والتنظيم والدعم الفني، مع تعزيز الوعي البيئي والابتكار، بهدف ترسيخ ثقافة الاستدامة، وضمان الالتزام بالاتفاقيات الدولية، ودعم تنفيذ رؤية مصر 2030 في إطار من العدالة والتوازن.
وتبدو آفاق المستقبل في مجال الاقتصاد الأخضر واعدة، حيث تمضي مصر بخطى واثقة نحو توسيع آليات التمويل الأخضر وتبني أدوات اقتصادية مبتكرة، مستلهمة من التجارب الدولية الرائدة، ويعكس هذا التوجه وعيًا متزايدًا بأهمية تمويل التحول البيئي كدعامة رئيسة للتنمية الشاملة والعادلة، وهنا يتجلى الاقتصاد الأخضر كأفق حضاري وإنساني يعيد للبيئة اعتبارها كشريك حي في دورة الحياة، ويؤسس لفلسفة تنموية تُعلي من شأن العدالة البيئية والمناخية بوصفها ركائز أي مشروع مستقبلي منصف ومستدام، ومن ثم يصبح الاستثمار في الاقتصاد الأخضر استثمارًا في نجاة البشرية وازدهارها، ورسالة أخلاقية تتوارثها الأجيال، تُجسد التزامًا عميقًا تجاه الكوكب وتجاه الإنسان، من أجل استمرار الحياة، وضمان جودتها، وبناء مجتمعات أكثر توازنًا وتضامنًا.... وللحديث باقية من زاوية أخري.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر
Trending Plus