سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 3 يونيو 1899 .. تعيين الشيخ محمد عبده مفتيا للديار المصرية والأستاذ الإمام يجلس مكتئبا فى داره بضاحية عين شمس بعد علمه بفرمان الخديو عباس الثانى

كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يجلس فى داره فى ضاحية عين شمس، حين تلقى فرمان الخديو عباس الثانى بتعيينه مفتيا للديار المصرية، يوم 3 يونيو، مثل هذا اليوم، 1899، حسبما يؤكد تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا فى الجزء الأول من كتابه «تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده».
يذكر «رضا»: «كنت أول من قابل الأستاذ بعد العلم بهذه المسألة، ذهبت إلى داره فى عين شمس فألقيته واجما كئيبا، فلم أهنئه فظن أننى لم أعلم، فسألنى ألم تعلم بما جرى فى الإسكندرية؟ قلت: بلى ومالى أراك واجما؟ قال هذه وظيفة ليس فيها عمل، وذكر لى تفصيل ما حصل من أوله إلى آخره، وأن الخديو قال لمستشار الحقانية: الآن وجدت لك مفتيا تستطيع أن تفهم منه ويفهم منك بلا واسطة ولا ترجمة».
كان الشيخ محمد عبده يبلغ من العمر وقتئذ 50 عاما، «مواليد 1849»، وكان اختياره مفتيا دون مشيخة الأزهر لافتا، حيث جرت العادة من قبل على الجمع بين المنصبين، لكن وحسب رشيد رضا فإن الخديو كلف صديقيه مصطفى باشا فهمى رئيس النظار، وحسن باشا عاصم رئيس التشريفات، بأن يحسنا له القبول، وقال للثانى: «أخبر صديقك بأنه إذا لم يقبل الإفتاء الآن فإننى أعد ذلك منه إيقاعا لى فى صعوبة شخصية مع الاحتلال، وأنا أعترف أنه قليل عليه، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها»، ويذكر الكاتب والمفكر عباس محمود العقاد فى كتابه «الأستاذ»: «الخديو عباس الثانى كان يستبقى محمد عبده للانتفاع بقدرته وشجاعته، بل للاحتماء بمكانته الدينية أحيانا فى وجه السلطة الأجنبية، لكنه يحاذر أن يسلمه زمام التصريف والتدبير فى مركز من مراكز الأزهر المستقلة، فتخطاه فى التعيين لمشيخة الأزهر مرتين، وكان ترشيحه لمنصب الإفتاء فى الواقع حيلة مستورة لإبعاده عن المشيخة، وهو أجدر بها وأقدر على الإصلاح فيها من كل من تولاها على عهد الخديو عباس الثانى، وهو أعرف برجحانه عليهم من سواه».
أحدث فرمان الخديو صدى طيبا، وفقا لتأكيد رشيد رضا، قائلا: «توقع العارفون بفضل الأستاذ الإمام من الخير والإصلاح بتقليده لمنصب الإفتاء العام فوق ما توقعه هو بتواضعه وهضمه لنفسه»، ويستشهد «رضا» بالتهانى الشعرية التى قيلت فرحا، أشهرها تهنئة شاعر النيل حافظ إبراهيم، ويقول فيها: «بلغتك لم أنسب ولم أتغزل/ ولما أقف بين الهوى والتذلل/ ولما أصف كأسا ولم أبك منزلا/ ولم أنتحل فخرا ولم أتنبل/ فلم يبق فى قلبى مديحك موضعا/ تجول به ذكرى حبيب ومنزل/ رأيتك والأبصار حولك خشع/ فقلت أبوحفص ببرديك أم على».
يؤكد الدكتور عثمان أمين أستاذ الفلسفة فى كتابه «رائد الفكر المصرى الإمام محمد عبده»، أن الشيخ الإمام أضفى على منصب الإفتاء مهابة لا عهد للناس بها من قبل، ولم يجعل المنصب مقصورا على الإفتاء فيما يحال إليه من مسائل، على غرار من سبقوه، بل وسع اختصاصه وزاد من نفوذه، وكانت مهمة المفتى قبل محمد عبده المصادقة على أحكام الإعدام التى تصدرها محاكم الجنايات، ولكن الإمام وسع من مجال هذا المنصب حتى شمل إصلاح المحاكم الشرعية وإصلاح الأزهر.
يضيف «عثمان»: «مما يسترعى النظر فى هذا الصدد أن المفتى الأكبر نفسه كان يلقى حينئذ دروسا فى تفسير القرآن، وهى دروس انبعثت فى كل كلمة منها روح عصرية ودعوة إلى التحرير والتجديد الرشيد، وأشهر فتاوى الأستاذ الإمام ثلاث، الأولى، تبيح للمسلمين ادخار أموالهم وأخذ الفوائد والأرباح عليها، والثانية، تبيح لهم أن يأكلوا من ذبائح غير المسلمين، والثالثة تبيح لهم أن يتزيوا بزى غير زيهم التقليدى، وللإمام فتوى أخرى غير مشهورة فى موضوع النزاع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، ومن العسير على الإنسان أن يتخيل اليوم كيف أن تلك البدع- كما كانوا يدعونها إذ ذاك- قد سببت كثيرا من المجادلات الحادة وأثارت سخط الشيوخ المتزمتين، وجلبت على المفتى ضروبا من القدح والتشهير، ولم تكن الدوافع إليها دينية خالصة فى أكثر من الأحيان».
وفقا لسيرة الإمام محمد عبده، يذكر محققها «طاهر الطناحى» فى مقدمته لها: «كان يقف من العدالة وحق الوطن ما أشتهر عنه فى عدة مواقف حتى أصبح العدو الأكبر للخديو عباس»، ويضيف: بعض المنافقين للخديو، والموالين للعائلة الخديوية سنة 1902 دعوا الخديو إلى الاستعداد لإقامة ذكرى جده محمد على بمناسبة مرور مائة عام على حكمه فى مايو 1905، فوجد الأستاذ الإمام فى الاحتفال لهذه الذكرى تقديسا للاستبداد، وكتب مقالا بمجلة المنار عام 1902، هاجم فيه محمد على بشراسة، قائلا: «أخذ يرفع الأسافل ويعليهم فى البلاد والقرى حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة».
Trending Plus