عم عطية والست صفاء.. قصة حب وكفاح فى مهنة صناعة كراسى قش البردى.. امتهنا الحرفة بشبابهما وكافحا سويا لتوفير حياة كريمة لبناتهن: فن يدوى بنشقى فيه عشان لقمة العيش ونفسنا نجوز البنت الأخيرة ونطلع عمرة (فيديو)

في ظلِّ ورشةٍ صغيرة، يجلس رجل وزوجته نسجتهما الشمس من التعب كأنهما فصلان من حكاية قديمة، يعملان كتفًا إلى كتف في صمتٍ ودأب كأغنيتين قديمتين لا تنطفئان، تتشابك أيديهما فوق الخيوط النباتية كما تشابكت أرواحهما منذ سنوات، وجهيهما تكسوهما ملامح الرضا، وتلوح في نظراتهما لمعة عشق عتيق، ليس فقط لبعضهما، بل لهذا الفن النادر، الذي توارثاه عن الأجداد.

عم عطية والست صفاء
بأيدٍ خشنة رسمها الزمن، وأرواحٍ مملوءة بالإصرار، يصنع "عم عطية والست صفاء" الكراسي من ورق البردي، قطعة قطعة، كما لو أنهما يحيكان مستقبلهما بالخيوط النباتية. لا يعرفان الراحة إلا لحظة النظر إلى ما صنعت أيديهما من قطع فنية تنبض بالجمال، ولا يلتفتان لضيق الحال، فالحب بينهما قوت يومهما، والصبر حرفتهما الأجمل، وكل عقدة يربطانها وينسجانها تحمل شيئًا من كفاحهما المشترك، وشيئًا من الحب الذي يجمعهما كما تجمعهما هذه المهنة التي أصبحت امتدادًا لروحيهما.

قصة كفاح عم عطية والست صفاء
وبينما كانت تجمعهما كل ضحكة صامتة بين لحظة وأخرى وسط أنين التعب، وأمامهما كومة من القش وأدوات بسيطة تشبه أدوات النسيج البدائي. المشهد يبدو عاديًا للعين العابرة، لكنه يحمل في تفاصيله حكاية عمر بأكمله، تحدثت صفاء صابر صاحبة الـ60 عامًا بصوت هادئ لكنه لا يخلو من صلابة الأيام عن حكايتهما مع الحرفة: "مهنتي اسمها قش بردي كراسي.. بيتعمل منها ترابيزات كبيرة وكراسي للمطاعم والكافيهات.. وشغلنا بيسافر شرم الشيخ والغردقة".

مراحل تصنيع كرسي من قش البردي

صناعة كراسي قش البردي في القاهرة
في زحام الحياة، كان اللقاء الأول مع المهنة لقاء حب، لا إجبار. تتحدث صفاء عن بدايتها مع المهنة وكأنها بداية قصة حب بينها وبين زوجها: "اتجوزت وجوزي علّمني، وكنت عايزة أتعلم عشان حبيتها". فلم يكن الأمر مجرد دعم أو مشاركة، بل ارتباط وثيق: "بقالي في المهنة 40 سنة تقريبًا".

خطوات تصنيع الكراسي من قش البردي
في كل مرة تبلل القش اليابس بالماء، تنتظر تخمره بهدوء. بعدها تبدأ في شرخه بالسكين وفلقه نصفين، ثم تبدأ رحلة الجدل الدقيقة، حيث كل حركة محسوبة وكل زاوية لها قياسها: "ممكن الكرسي ياخد شغل في حدود 4 ساعات، ومش كل الكراسي زي بعضها.. في صغير، في كبير، وهكذا".

إتقان الست صفاء في صناعة الكرسي
تتحدث صفاء عن المهنة بلهجة فنان يعرف قيمة ما يصنع: "الشغلانة دي فن.. بتعملي حاجة محدش بيعرف يعملها، حواليكي ناس كتير بتحاول ومبتعرفش تظبطها في نهايتها.. الشغلانة دي صعبة جداً". فالفن هنا ليس ترفًا، بل شقاء ممتلئ بالصبر، تعلمته من زوجها: "كان بيقعد يشرحلي.. علمني إزاي أجيب أكل عيشي".

الست صفاء أثناء عملها

سعي بالحلال من أجل لقمة العيش
تحت وهج الشمس الحارقة، لا تشتكي صفاء من التعب، بل ترى في المهنة ما هو أبعد من مجرد مصدر رزق: "وأنا بشتغل بكون مستريحة نفسيًا، لأني حابة الشغل، وبيجبلي دخل كويس الحمد لله". فهي لا تملك وظيفة أو معاش، لكن تملك ما هو أثمن، حرفة تبني بها مستقبلها ومستقبل أبنائها.

تفاصيل صناعة الكراسي من قش البردي
يختلط الحلم بالصبر، والرضا بالمقاومة، في حديث صفاء: "نفسي أجوز بنتي الأخيرة، وبعدها أعمل عمرة.. ده هدفي في الحياة". ثم تنظر إلى زوجها نظرة شراكة عمر، وتقول جملة تلخص سنوات من الوقوف جنبًا إلى جنب: "أنا محتاجاه، وهو محتاج لي.. بنكمل بعض".

تجميل الكراسي بقش البردي
وعلى الرغم من تعب المهنة، تشعر بأن وجودها في الشارع ليس عيبًا، بل شهادة كرامة: "لما الست تكون شغالة وشقيانة، الناس تفتكرها بالحرفة بتاعتها، وأنا بحس بده في شغلي".
صفاء صابر صاحبة الـ60 عامًا
هكذا، وسط الزحام والضوضاء، تصر صفاء على أن تجعل من القش اليابس حياة ومن الكرسي البسيط سندًا لأحلام أسرة كاملة، تجلس على الرصيف لكنها في الحقيقة واقفة على جبل من الكبرياء والعمل اليدوي الشريف.
بملابس بسيطة، وملامح أكلت الشمس منها بقدر ما رسمت الحياة، يجلس عطية محمود على الرصيف، بين يديه خيوط القش وأمام عينيه تفاصيل دقيقة لا يراها غيره، يداه تتحركان برفق الحب وخبرة السنوات، وكأنهما تُجريان حوارًا صامتًا مع قطعة بردي، في محاولة لصياغة كرسي آخر: "شغال في المهنة دي بقالي 50 سنة.. المهنة دي اسمها قش بردي حر"، هكذا يقدّم نفسه دون مقدمات، بصوتٍ لا يزال يحمل نغمة الفخر والارتباط بما صنعه عمره الطويل.
عم عطية صانع كراسي من قش البردي
منذ أن يبدأ يومه وحتى يسدل الليل ستائره، يتحول القش اليابس بين يديه إلى نسيج مرن.. يتخمر كما العجين، ثم يُشق ويُلف على مهل: "القش بييجي غشيم.. بنبله ميّه عشان يلين معانا، زي العجين الخمران وبيخمر ما ينفعش نشتغل فيه ناشف، يتكسر.. لازم يكون لين عشان يجري في إيدينا".

صناعة كراسي قش البردي
يصف القش كأنه يحكي عن صديق قديم يعرفه جيدًا، يقدر مزاجه ويجيد ترويضه: "بنقطع القش لجزئين، ونبله تاني.. ونقعد نبرمه واحدة واحدة لحد ما الكرسي يخلص.. كله بيدخل في قلب بعضه بصبر وهدوء، وبنشكل منه أشكال هندسية مختلفة، مربعات، ومثلثات، وفيه حاجات غامضة وصعبة بتبقى محتاجة شغل أدق".
عم عطية أثناء صناعة كرسي قش البردي
تعلم عطية هذه الصنعة كما يتعلم أحدهم سرًا قديمًا من كتاب عتيق. البداية كانت تحديًا بينه وبين أخيه، ثم أصبحت مسار حياة: "كنت شغال مع أخويا.. جبنا خشب وعملنا الكرسي، ووقفنا عند مرحلة القش، قولتله أنا هعمل القش، قعدت يوم كامل أعمل في كرسي وبرضو معرفتش، جبنا صنايعي وعلمني.. ومن ساعتها وأنا شغال فيها".
صناعة قش بردي كراسي
يومه بسيط، من العمل للنوم، لكن قلبه ممتلئ بالرضا: "بنروح من الشغل بليل على النوم على طول نتعشى وننام.. اللي مصبرني على الدنيا دي هو حبي للشغلانة". ثم يضيف بنبرة هادئة: "لولا حبي للشغلانة مش هقعد فيها.. بحس براحة نفسية وأنا شغال.. عشان دي شغلة أنا حاببها".
لكن سعادته لا تكتمل إلا بوجود زوجته. يتكئ على ذكرياته معها كما يتكئ على كرسي صنعه بنفسه: "أكتر حاجة بتسعدني مراتي.. في أكتر من كده حلاوة!.. لو مش موجودة معايا يبقى اليوم ملل.. كل حاجة في حياتي مراتي.. ربنا يخليها ليا ويسعدها ويكرمها وتعمل عمرة".

عم عطية
وحين تسأله عن أحلامه، لا يتحدث عن المال أو السفر أو الراحة، بل يتكلم بلسان أب عاش عمره ليُكمل ثلاث زيجات: "نفسي أحج.. هما بيقولوا اللي جوز 3 بنات كأنه حج.. وأنا فاضلي واحدة". ثم يهمس في نهاية الكلام: "ربنا يسعد بناتي، وما يكونش عندهم مشاكل يا رب أبدًا.. ومراتي تعمل عمرة.. ويسعدهم ربنا".
على هذا الرصيف المترب، لا يُصنع كرسي فقط، بل تُحاك قصة حب، تُنسج كرامة، ويُغزل حلم بسيط، بيد رجل لم يُشهر موهبته، لكنه عاشها كل يوم، في صمت، وفخر، وصدق.
Trending Plus