من تاريخ الخوارج «6»

ما زلنا مع الحديث عن تاريخ الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة.
رفض والى الشام معاوية مبايعة الخليفة على بن أبى طالب، وأشار إليه بإصبع الاتهام أنه يضم إلى جانبه قتلة الخليفة السابق عثمان بن عفان، وطالب بتسليمهم له، أو أن يقتص الخليفة منهم، والحقيقة أن هذا الاتهام، وواقع أن قتلة عثمان كانوا بالفعل فى جيش الإمام على، يثيران سؤالا: لماذا لم يبادر الإمام على بالتخلص من هؤلاء القوم والتبرؤ منهم حتى يغلق هذا الباب أمام معاوية؟
السبب هنا هو أنه لم يكن من اتفاق على تحديد مفهوم «قتلة عثمان»، فبينما كان على يرى أن خطورة الاتهام والإدانة تتطلب تحقيقا دقيقا بحرص شديد، كيلا يتعرض أحد للظلم، فالخطأ فى التبرئة أو العفو خير من الخطأ فى توقيع العقوبة، ولم يكن من الحكمة أن ينتشر بين الناس أن «على ينقلب على أتباعه»، فالخبر الذى كان سيصل لأطراف دولة الخلافة كان سيتحول من «على اقتص من قتلة عثمان» إلى «على استعان بالقوم لبلوغ الخلافة ثم غدر بهم»، وفى نفس الوقت كان معاوية يرى أن كل من أعلن عداوته لعثمان هو قاتل له مستحق للقتل، وهو أمر يوسع دائرة الاتهام بشكل مخيف.
وربما كان من الأرجح رأيا أن يحاول الخليفة تحييد فئة القراء، لإغلاق الباب أمام أية احتمالية لتدخلهم فى الأحداث، كما جرى بالفعل، حتى يحل مشكلته مع معاوية ويتفقا على حل وسط، ولكن حالة الفوضى وارتفاع الضجيج حالا دون أن يتخلى كلا من الطرفان، على ومعاوية، عن إصراره على موقفه.
خرج القراء فى جيش الخليفة والذى تواجه مع جيش معاوية فى منطقة صفين بالشام، قرب الرقة فى سوريا الشقيقة حاليا، ودارت معركة ضارية كاد معها الفريقان أن يتفانيا، فقرر معاوية اللجوء لحيلة لوقف القتال وهى رفع المصاحف على أسنة الرماح والمطالبة بتحكيم كتاب الله بين الطرفين.
رفض الخليفة ذلك العرض الذى رأى فيه مراوغة من معاوية، إلا أن القراء فاجأوه بأن أحاطوا به وهم فى الدروع والسلاح، وقالوها بشكل صريح ومباشر وفج: «عليك أن تقبل بالتحكيم وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان».
هنا الأمر محير، فالقراء يفترض أنهم يخشون من انتصار معاوية لعلمهم أنه لو ظفر بهم فلن يرفع عنهم السيف، فكيف يطلبون من الخليفة الإذعان لأمر يخدم معاوية؟
الأرجح أنهم بطبيعة الحال لم يقبلوا بفكرة التحكيم نفسها، ولكنهم رأوا فيها إطالة للصراع القائم، وعقدة جديدة تضاف للوضع المعقد بالفعل.. والدليل هو ما جرى منهم بعد التحكيم.
اضطر الخليفة على للقبول بالتحكيم وأمر بإيقاف القتال، وبدأ كل طرف يختار ممثله بحيث يجتمع الحكمان ويتناقشان، ثم يعلنا حكمهما على رؤوس الأشهاد.
عبثا حاول الإمام على أن يجعل ممثله فى التحكيم هو ابن عمومته الصحابى عبدالله بن عباس، وابن عباس كان معروفا بالدهاء الشديد والفطنة وسرعة البديهة، فكان ليكون الاختيار الأمثل لتلك المهمة، لكن القراء عادوا يتدخلون فى الأمر ويشحنون أنصار الإمام على ليضغطوا عليه لتعيين الصحابى أبوموسى الأشعرى ممثلا عنه فى التحكيم، وأبوموسى إن كان رجلا تقيا وصادقا وأمينا، إلا أنه لم يكن ندا فى الدهاء لعمرو بن العاص الذى كان يمثل معاوية.
أذعن الخليفة للضغط وأرسل أبوموسى الأشعرى حكما عنه، والتقى كل من الأشعرى وابن العاص وتداولا الأمر حتى اتفقا أن يعلن كلا منهما خلع صاحبه على أن يرد الأمر على الناس لاختيار الخليفة من جديد، لكن عمرو بن العاص خدع أبوموسى وأعلن خلعه على وتثبيته معاوية، فعاد الوضع للانفجار من جديد.
كان رأى الإمام على أن يقبل نتيجة التحكيم أو على الأقل أن يجمد الوضع حقنا للدماء، وبالفعل تجمد الوضع بحيث إن الخليفة صار يحكم الجزيرة العربية والعراق وفارس، ومعاوية صار يحكم الشام ثم مصر التى انتزعها من على، وقامت بين الطرفين ما يمكن وصفها بـ«الحرب الإعلامية» بتبادل الدعاء واللعنات من فوق المنابر، على من عاصمته الجديدة الكوفة ومعاوية من عاصمته دمشق.
ذلك السكون لم يكن ليرضى القراء، فالسكون مع الوقت قد يؤدى للاستقرار، والاستقرار يعنى الهدوء اللازم للخليفة لفتح التحقيق فى مقتل عثمان ولتطهير صفوف جيشه من المتورطين فى تلك الجريمة.. فكان لا بد من مشكلة جديدة تزيد الصف انشقاقا وتضيف أزمة ينشغل بها رأس الدولة.
لم تكن تلك المشكلة سوى التحكيم نفسه، فالقراء الذين أجبروا الخليفة على قبول التحكيم، راحوا يتهمونه فى دينه لأنه، على حد قولهم، «حَكَّم الرجال فى كتاب الله»، وبالتالى فقد وما زلنا مع قولهم «أخضع شرع الله للأهواء»، إذن: فقد كفر الخليفة بكتاب الله!
الخليفة على بن أبى طالب، الذى ربما كان يمثل يوما ثلث أو ربع تعداد المسلمين، ربيب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فى نظر القراء «كافر».. كانت هذه هى الخطوة التالية فى «تطور» فكرهم بعد استباحتهم دم الخليفة عثمان، وهكذا وُلِدَ أول منهج تكفيرى فى تاريخ الإسلام.
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم من هذه السلسلة.

Trending Plus