عن الهوية وطابورها الخامس.. 30 يونيو كمفصل تاريخى وشُعلة لا تنطفئ ولا تتقادَم

عندما دوّت الرصاصة فى أحد شوارع مصر الجديدة، لم تقطع المسافة بين سلاح القاتل وصدر الضحية فحسب؛ بل قطعت شهورًا بين إصدار الحُكم بالإعدام وتنفيذه، وسنواتٍ طويلةً من الخصومة الفكرية والتحريض المادى، وأطول منها بين إظهار التجمُّل وإضمار القُبح.
قُتِلَ فرج فودة بعد مُنازلةٍ غير شريفة مع مُرشد الإخوان الأسبق مأمون الهضيبى، وشيطانَيْن آخرَيْن من الطينة نفسها؛ وإن زعما الاعتدال وصفاء الطويّة.
تحلُّ ذكرى المُفكّر الراحل فى يونيو، وخلال الشهر الجارى يكون قد أتمَّ ثلاثًا وثلاثين سنةً إلى جوار ربّه. بدأت مأساته من ندوةٍ بمعرض الكتاب عن الدولة الدينية والمدنية فى يناير السابق على الاستشهاد، اعترف فيها «الهضيبى» علنًا بالجناح المُسلّح للجماعة، وقال إنهم «يتعبّدون إلى الله بأعماله» الدنيئة.
حرّضوا عليه بكلِّ الصُّوَر، أغرَوا به سُفهاءهم، وكُتِبَت فيه مقالاتُ تكفيرٍ صريحة، وبعد مقتله تطوّع أحدُ الثلاثة المٌشار إليه آنفًا بالدفاع عن الَقَتلَة، والشهادة لتبرئتهم أمام القضاء، وعلى صفحات الجرائد.
المُؤكَّد أنَّ «فودة» تألَّم فى منامه الأخير عندما صعد الإخوان لقمّة هرم السلطة أواخر يونيو 2012، وكان أسعد الناس على الإطلاق بإطاحتهم بعدها بسنةٍ واحدة فقط.
كأنَّ الله أمهلهم وأملى لهم وعجّل بأمره فيهم خلال الشهر نفسه؛ لتكون أيّام نحسِهم مخلوطةً بتواريخ سعدهم، ولا تبقى لهم ذكرى ولا وقفة احتفال.
ولعلَّ المغدور محلّ حديثنا استشعر أنّه كان طرفًا فى الثأريّة العمومية، وأنَّ المصريين جميعًا اقتصّوا له، حتى الذين لا يعرفونه أو انطلت دعاياتُ المُتطرّفين عليهم؛ لأنَّ الجماعة تكفّلت بإظهار وجهها الحقيقى، وتعرّت على ملأ من الشعب، وباتت التهمة ثابتةً فى حقّهم جميعًا؛ بالقصد والأمر والمُمارسة ومُحاربة البلد كاملاً.
يتلازم الدم مع جماعة الإخوان كتفا بكتف، ويُحوّط مسيرتها منذ التأسيس، خطابًا وسلوكا؛ فلم يكُن طارئًا عليها ولا عثرة عابرة وقتما تبدَّد الحلم من يدها، واستيقظت على صدمة أنها تهوى من حالقٍ، ويتبدّد على مرأى عينها ما عاشت تتمنّاه عقودًا، وتُعبِّد الطريق إليه بالتقيّة والاحتيال، وبالسياسة حينًا وابتذال الدين فى غالب الأحيان.
لم أعُد مشغولاً بما أتته عصابة البنا بعد صدامها مع الشارع فى 30 يونيو. انتهت الصدمة بانقضاء مفاعيلها الصاخبة، وعادت الأمور إلى نصابها لدى شخصٍ يعرف التنظيم من قُرب، واطّلع على سيرته لسنوات طويلة سابقة على اللوثة العُصابية التى ضربته، وتسلّطت على أدمغة قادته المخابيل.
فُجِعنا لأننا رسمنا له صورةً غير دقيقة، أو تعامينا عمَّا نعرفه بالفعل من حقيقته السوداء؛ أما الجوهر فكان على حاله دائما، ما تبدّل فى حرف، ولا انحرف قيد أُنملة عمّا خطّه المؤسس وتغيّاه من التجربة.
تعرّفت مصر إلى ذاتها ببطء وتدرّج منذ فاتحة الاحتلال الإنجليزى، واستوت على سُوقها بعد قرابة أربعة عقود تقريبا، ومن ثورة 1919 بدا أن مُعمارًا وطنيًّا يتشكَّلُ بملامح واضحة، وينهض بواجب الذود عن البلاد والعباد، وطلب الاستقلال والدخول فى مصاف الأمم الحيّة.
أنجزت الهبّة الشعبيّة ما تسمح به اللحظة التاريخية؛ فصاغت دستورًا كان بمثابة القفزة الواسعة من الجحيم إلى الفردوس، واختبرت أن تُحكَم بولاية شعبية على أمرها، ومندوبين تُرقّيهم الأصوات وإرادة الناخبين.
لم تكن التجربة مثاليّة قطعًا، وخالطتها مؤاخذات عدّة من أوّل تضييق قنوات العبور، وإلى هيمنة القصر ومن فوق رأسه المُحتلّ؛ إلا أنها أسفرت عن نبتةٍ غضّة تصلح للإثمار، وكانت تبشّر بالمزيد.
تزامن مع القيامة الوطنية انحدار ما تبقّى من إرث العصور الوسطى، وتهاوى الإمبراطورية العثمانية بعد كل ما أشاعته من فساد وتوهين للإقليم وقوميّاته المُتعدّدة.
كان المصريون يستكشفون أنفسهم بالتجربة والخطأ، والرجعية الذابلة تُلملم بقايا أوراقها الجافة مُتأهّبة للرحيل، وفى سياق التجاوز والاستنهاض هذا بزغت الفكرة كأنها «مسجد ضِرار»، وكأن صاحبها من الباكين على الأطلال، أو المُتشبثين بأذيال الأزمنة الغابرة.
لا أوّل للشُّبهات المُحلّقة فى فضائه ولا آخر. من التلميح لأصولٍ يهودية مغاربية كما قال عنه العقاد، إلى الائتمار بإرادة الإنجليز من جهة وكلائهم الاستخباريين كما يُرجّح آخرون، وحتى تلقّى الرّشى من الخصوم والسُّرّاق فى صورة الشركة الأجنبية المُشغّلة لقناة السويس؛ بحسب ما أورد حسن البنا نفسه فى مذكراته، وأثبتها عليها المؤرّخون من حظيرة التنظيم قبل مُناوئيه.
ومُجدّدًا أقول إننى من غير المَعنيِّين إطلاقًا بحدود الاتصال والانفصال عن المشاريع الوافدة، أو الساعين من ورائها لاختراق البيئة الناشئة والفَتّ فى عضدها.
صحيح أن ثبوت التهمة يُقيم حُجّة ابتدائية مُلازمة للجماعة ما طال عمرها، ويصنّفها وجوبيًّا على لائحة الطابور الخامس والأجسام الوظيفية الموجّهة؛ إنما الأهم ما كان من سلوكها فعلاً، ولا يصلح معه الإنكار والتبرّؤ وادّعاء المظلمة والاستهداف.
وحتى لو كان الرجل شريفًا وسار فيما سار إليه بإرادته الخاصة؛ فالنتاج الأخير لم يكن مُختلفًا فى شىء عن أقصى ما يمكن أن يأتيه العملاء، وقدّم للأعداء جميعًا فوق كل ما كانوا يتمنّونه أو يطمحون إليه.
وليس عابرًا أن يقفز ابن البحيرة على بيئته؛ ثم يتخطّى القاهرة التى تعلّم فيها وقضى أخصب سنوات شبيبته، ليُؤسِّس جماعته على شطّ القناة فى الإسماعيلية، بما لها من طابع ريفى محدود الحيِّز، وصلة وثيقة بالإنجليز والفرنسيين فى نطاق المجرى الملاحى، وفرصة يسيرة لاختراق عقول الناس من زاوية الدين، وخارج دوائر الضوء وحصار الرقابة الرسمية والمُجتمعية.
وبالفعل؛ فقد أسس حلقته الضيّقة على أكتاف عدد من الأُميِّين والعُمّال، وشكّل نواته التنظيمية وهيكلية السمع والطاعة فى عُهدة الجهل الخُلّص، ما جعل التتابع من بعدها سهلاً ومحكومًا بالتجربة والعُرف القائم، وغيّب فضيلة العقل والمُساءلة بحجيّة النموذج والأُمثولة الإيمانية المُستنبَتة فى تُربة الاتّباع والمُطاوعة العمياء.
وفيما قدّم بضاعته وزجّاها للزبائن والمُستهدَفين تحت عباءة الإصلاح، وإقامة الدين لأجل عمارة الدنيا، كان يتحضّر من طرفٍ خفىٍّ لإعلاء المُخطَّط المُكتمل فى ذهنه مِدماكًا فوق آخر. اتّساع للنواة؛ فانفجار يتشظّى خلايا ومجموعات، وانتشار من محافظة لأخرى.
مساجد وجمعيات وتبرّعات ومطابع وصحائف وأنشطة فى كل اتّجاه، مُتضادّة ومتضاربة أحيانًا، أُصولية خشنة فى المحراب وليونة مُدّعاة فى الحياة؛ حتى أنهم خاضوا تجربة تأسيس فرقة مسرح، واستحوذوا على عقول فنّانين ومُبدعين؛ وخطّأوا الأحزاب لكنهم نافسوها، وللنكاية فى الوفد هتفوا زورًا وتأليًّا: «الله مع الملك».
خاض حسن البنا تجربة الانتخابات وأخفق، ولهم مُرشّحون آخرون كرّروا المحاولة فى الفيوم وبعد مناطق الدلتا والصعيد. لم تكن جماعة ربّانية مُطلقًا، ولا انحصر طموحها فى هداية الناس وردِّهم إلى ربِّهم دًّا جميلاً.
مُبكِّرًا، أسس مُرشدها الأوّل لأقسام الأشبال والفتيات والأخوات، ونظّم مُعسكرات للتدريب على المهارات القتالية تحت عناوين كشفيّة، وطوّرها فى غضون سنوات إلى كتائب مُسلّحة بمُسمَّى «النظام الخاص».
ما بدأ دعويًّا وأفصح عن تطلّعاته السياسية، انتقل بأسرع مِمًّا تخيل الجميع إلى حالة ميليشياوية كاملة. رسائل البنا مليئة بالعُنف البواح، وبأفكار لا تقل دموية عن البنادق والرصاص.
والده، المدعو عبد الرحمن الساعاتى، نشر فى إحدى مطبوعاته الدورية دعوة لأعضاء الجماعة أن يتأهّبوا لمهمتهم النورانية، ويمتلكوا أسباب القوّة، ويكونوا جاهزين لتجريع الدواء للمرضى (قاصدا عموم الناس) بالقوّة الغاشمة.
هكذا كان طبيعيًّا أن يتورّط الإخوان فى أعمال عُنف واغتيالات، وأن يقع الصدام الأوّل مع الدولة بعد نحو عشرين سنة فقط من البزوغ الشيطانى المُريب.
كما كان مُتوقَّعا ألا تكون صدمة اغتيال النقراشى وحل الجماعة آخر الاشتباكات، وأن تتجدَّد المواجهات على فواصل من الزمن.
ما حدث بالفعل فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وما بعدها، وصولاً إلى الواقعة الكُبرى قبل اثنتى عشرة سنة من اليوم.
كانت 30 يونيو تظهيرًا لحقائق ماثلة، وإنعاشًا لذاكرة يعتريها النسيان سريعًا، أو لعلّ الإخوان أتقنوا مهارات خداعها والالتفاف عليها، وأعانهم على هذا شىء من التلوّن وثيق الصلة بتركيبتهم وهياكلهم، وأشياء من خِفّة القوى المُحيطة بهم أو انتهازيّة بعضها، وربما رخاوة الدولة فى كثير من المحطّات الفاصلة.
لم يُعرَف عن الجماعة أنها تصدّت للاحتلال؛ بقدر ما اختصمت الدولة وسَعَت لإرهاقها وإرباك أمنها. وإن برّرت اغتيال النقراشى والخازندار وأحمد ماهر وغيرهم بمُعاداتها أو مُحاكمة مُجرميها؛ فإن إحراق دور السينما وحارة اليهود وجلب المُتفجّرات لم يكن عملاً نضاليًّا على الإطلاق.
محاولة اغتيال عبد الناصر فى الخمسينيات، ثم السعى لتفجير القناطر الخيرية وإغراق الدلتا مع تنظيم سيد قطب بالستينيات، وتفريخ الجهاد والجماعة الإسلامية وغيرهما، والشراكة الصريحة أو الضمنية فى قتل السادات وموجة الإرهاب بالثمانينيات والتسعينيات، وصولاً إلى فوضى 2011 وما بعدها، كلها من أعمال لوجه التنظيم، ولا علاقة لها بالوطن إلا من جهة الاستهداف والتقويض.
آخر المُلتحقين بأى عمل جاد، وأوّل مُتخطّفيه والطامعين إلى التربّح منه. وبعيدًا من اختلاف رؤانا بشأن ثورة يناير؛ فقد أعلنت الجماعة عدم مشاركتها فيها، وأكدت موقفها فى اجتماعات تنسيقية سابقة على التظاهرات، وبيانات علنية مواكبة لها. لكنها تحيّنت الظروف، وعندما استشعرت أنها مُواتية أطلقت هجمةً شرسة على خواصر بعينها، لم تكن فى مجال نظر الغاضبين من الأساس.
عبرت مجموعات من حركة حماس خطّ الحدود، واقتحمت بعض السجون وأخرجت عناصر الجماعة وآخرين ينتمون لجماعات أُصولية صديقة أو شريكة. وطبيعة العملية ودقّتها لا تقول إنها جاءت عرضًا، أو استغلالا لانكشاف الساحة وغياب الأجهزة الأمنية فجأة مع غروب شمس الثامن والعشرين من يناير.
وبهذا؛ يمكن النظر لكل سلوكياتها، حينما تكون كامنةً ظاهرًا، لكنها على أهبّة الاستعداد، ومُخطّطاتها مُفعّلة فى انتظار القرار أو الإملاء.
لم يكن عارضًا على الإطلاق أن يحتشد آلاف المُسلّحين فى إشارة رابعة العدوية قبل أيامٍ من دعوات التظاهر، وبينهم جهاديون وعناصر يُفترَض ألا تكون على وفاق مع خطاب الإخوان المُعتدل كما يزعمون.
وكذلك الحال فى ميدان نهضة مصر بالجيزة، وموجة العُنف والقتل وإحراق الكنائس واقتحام بعض الأقسام ليست انفعالاً لحظيًّا، ولا من فِعل الغضب الذى يضغط أعصاب الناس فيصرخون أو يتصافعون.
إنها أنشطة مُعدَّة مُسبَقًا، واستُكملت حاجاتها من اللوجستيات والأفراد المُدربين، ووضِعَت فى سياق مُتدرّج يبدأ من المركز ويمتد إلى الأطراف، ولديه وفرة فى العدّة والعديد لأن يواصل مُغامرته لأيام وأسابيع، ويُديمها ويتدرّج بها صعودًا، ويُناور ويُخفى أسلحة ومُسلّحين ويُحرّكهم بين الأماكن المُستهدفة.
ما حدث فى 30 يونيو لم يُعَرِّ أدبيّات التنظيم وينزع عنها قشرة السلميّة المُدّعاة فحسب؛ بل كشف عن برنامج كامل لاستبدال مرافق وفعاليات تنظيمية بالدولة وأجهزتها، وإرساء ركائز حاملة لتجربة الجماعة ومشروعها للحُكم على صيغة أبديّة.
لُعبة خداعيّة مكشوفة للغاية، تقبل بالصناديق لمرّة واحدة، وتصعد على سلالمها إلى العرش ثمّ تُطوّح بها بعيدًا، أو تقول لها «باى باى» على طريقة على بلحاج وزملائه فى جبهة الإنقاذ قبل عشرية الجزائر السوداء.
ما طفا على السطح وطفح فى وجوه المصريين لم يكن فائض الغضب والكبت والإحساس بالمظلومية، بل الطبخة المسمومة سابقة التجهيز، ومُفردات القوّة الحركيّة التى كان المصريون على موعدٍ مع الاصطدام بها لاحقًا.
وقد اتُّخِذ قرار عُلوىٌّ من لدن المُرشد ونائبه الأوّل وحُلفائهما الإقليميين والدوليين بتأبيد سلطة الجماعة، وأن تكون مصر مُنطلقًا لمشروع الأستاذية التى خطّ البنّا ملامحه قبل ثمانية عقود، ويحتاج للدخول فى عباءة الدولة لامتلاك شرط الخروج عليها لاحقا، وتوظيفها ضد نفسها والآخرين.
باختصار؛ عملت الجماعة فى السرّ والعلن على إبقاء ذراعها الخشنة. تضاحك الناس فى العام 2006 عندما تفجّرت قضية «ميليشيات جامعة الأزهر»، وقد نفّذ شباب الجماعة عرضا شبه عسكرى داخل الحَرم الجامعى.
وللأسف، ظلّ كثيرون على اعتقادهم بالترصُّد والتلفيق فى الواقعة وغيرها، وما كان يتردَّد عن أنشطة غير قانونية ظلّت حاضرةً طوال الوقت، واشتملت فى جُملة خروقاتها على تصدير المُقاتلين واستيرادهم، وتأهيل خطّ إنتاجٍ للغِلاظ الشِّداد، تقاطروا على الشيشان وأفغانستان والسودان والعراق وصولا إلى سوريا بعد الربيع العربى المشؤوم.
يناير داهمت الجميع إلا هم؛ لأنهم كانوا مُستعدين من الأساس. استعرضوا قوّتهم على الجميع منذ الساعات الأولى، هيمنوا على أمورٍ بعينها فى الميدان، ومارسوا العُنف لفظا وجسدًا ضد المُختلفين.
الإيقاع كان مُختلفًا وخافتًا؛ فلم نرَ ما عملوا عليه بدأب منذ البداية إلا فى شناعة الوقائع التالية: حصار مدينة الإنتاج الإعلامى، وتطويق المحكمة الدستورية، والاعتداء على مُعتصمى الاتحادية، وقتل المُتظاهرين أمام مكتب الإرشاد؛ حتى عُمِّمَ الجنونُ على الجميع فى أنحاء مصر، ولم يُستَثن أحدٌ تقريبًا، المُحايد قبل المُنحاز، والمدنى قبل النظامىّ.
كان يونيو تفّاحة الجماعة وصار لعنتهم الدائمة. أسَّسوا فيه حزب الحرية والعدالة، ولفّقوا الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور وهيمنوا عليها، وفيه تسنّم محمد مرسى مقعد الرئاسة، وكيلاً عن الشاطر وبديع والأسرة الإخوانية.
لكنهم عاينوا فيه أيضًا حلَّ مجلس النواب، الذى انتزعوه من الثورة وقُواها السياسية وعموم المصريين بالخداع والدعايات الدينية، وأُطيحوا من الحُكم وداستهم الأقدام، وكان شاهدًا على إعلانهم الحرب ضد البلد بكامله، ومُباهاة محمد البلتاجى، وكان يُزعَم أنه أحد حمائهم، بالإمساك بزمام الإرهاب فى سيناء، ومساومة الدولة والشعب عليه. بينما كان صقرُهم المخبوء، محمد كمال، يُنظِّم الميليشيات المُسلّحة ويُحدِّد لها المهام والتكليفات.
أحرقوا فيه وفجَّروا وقتلوا المئات من 2013، وصولاً إلى المستشار هشام بركات فى 2015 وآخرين من بعده، ولست فى وارد تعداد جرائمهم؛ لأنها تفوق الحصر، ولأنَّ الخُلاصة بشأنها تتحدَّد بالقليل مثل الكثير، وتُقيم الحجَّة عليهم من ساعتها إلى الآن، لا سيّما أنهم ما زالوا على عهدهم بالحرف والفاصلة، لا تابوا ولا بدَّلوا تبديلاً عن الغىّ والضلال.
سنواتٌ يُجدّفون فيها عكس التيار العام. تلطّوا وراء الشرعية؛ بينما كانت أصوات الملايين تهدرُ فى الميادين، وما استفاقوا حتى بعدما صوَّت على الدستور الجديد والرئاسة البديلة أضعافُ مَن اقترعوا لهم بتزييف الإرادة، أو بمنطق «عَصر الليمون» واختيار أهون الضررين، كما تراءى لهم وقتها.
لا مُراجعةَ ولا اعتراف أو اعتذار؛ لا لشىءٍ إلَّا أنهم مُصرّون على مبدأ العداوة وسرديَّة الاستحقاق، وعلى تقابُليَّة الحُكم والقتل فى ثُنائيّة حدّية مُغلقة، ولأنهم مُخلصون للتنظيم أكثر من الوطن، ولذواتهم أكثر من فكرة الانتماء والإقرار بالخطأ.
الثورة كانت مطيّةً والسياسةُ أداةً فحسب؛ أمَّا الجوهر الدائم لديهم كحال الأُصوليَّات كلها: أنا ومِن بعدى الطوفان، وإن لم يتفجّر من تلقاء نفسه؛ فسأصنعه بيدى.
لم يكن الخلافُ معهم على مشروع هُنا أو طموحٍ يومىٍّ هناك؛ بل كان فى الهُويَّة والعقد الاجتماعى، وميثاقية العيش فى ظلِّ المُواطَنة الكاملة والمُتكافئة.
وعليه؛ فالمسألة ليست مُفاضلةً فى الأرقام والأداء، حتى مع إخفاقهم الثابت، بقَدر ما تقعُ فى المساحة الفاصلة بين الوجود والعدم، وأن نظلَّ دولةً مَدنيَّةً تقومُ وتتعثَّر، أو نتحوَّل إلى عصابة مُغلقةٍ على أعضائها، لحين أن يتيسّر الانتقال لحالةٍ ثيوقراطيَّةٍ كاملة.
وأيضًا لحين استنساخ تجربة المُرشِد الآخر على الجانب المُقابل من الجغرافيا والعِرق والمذهب والإرث الحضارى، هناك بين جبال فارس وعتبات قُم، وقد تتابَعت شواهدُ عِدَّة بالفعل على أنهم استعانوا بالخبرة الإيرانية، وسَعَوا إلى إنتاج حالة ميليشياوية شبيهة بالحرس الثورى، الذى ابتكره الخمينى أواخر السبعينيات، وتنوءُ الجمهورية الإسلامية بأثقاله اليوم.
ثمّة مفارقة عابرة فى الشهر نفسه؛ إذ شهد اشتباكًا مُباشرًا للمرة الأولى بين طهران وتل أبيب. تقطّعت الأذرُع وأُهين القلب، ويحتفل الأُصوليّون بالنصر على إيقاع الإبادة المفتوحة فى غزة.
وبعيدًا من مُسبّبات الحرب العلنية الأولى بين العاصمتين واستخلاصاتها؛ فإنها كانت من تداعيات خطاب المُمانَعة، ورَبط المحاور والجبهات، ووضع الأيديولوجيا فوق الجغرافيا والدولة الوطنية.
وكان مُقرَّرًا لنا على الأرجح أن نكون فى ذات الدائرة، رُعاةً لحماس أو رعايا تحت طَوع الملالى وأغوات العثمانية الجديدة؛ لولا أنَّ ضربة الشارع كانت أعجل من خُطَط الخارج، ومؤامرات مكتب الإرشاد من الداخل.
قفزة 30 يونيو لم تكن تحرُّرًا من وصفةٍ بدائية فى الحُكم فقط، ولا من أدمغةٍ مُتصحِّرةٍ لم يُعرَف لها نجاح فى سياسةٍ وإدارةٍ أو اقتصاد، وتختصرُ التنمية فى علاقاتٍ أوّليَّةٍ هَشَّةٍ وذات طابع رِيعى؛ بل كانت انفلاتًا من قَيدٍ أُرِيدت منه قصقصةُ أجنحة الجغرافيا والتاريخ؛ ليكون البلد على مقاس الجماعة، بدلاً من أن تنهض هى وترتقى وتكون على قدر وقيمة الكيان الذى سقطت جوهرته الثمينةُ فى حِجرها بالمكر والخديعة، أو فى غفلة من الزمن.
ولهذا؛ فإنه يومٌ من تلك العَيّنة التى لا تتكرَّر كثيرًا، وتُشكِّلُ فى حُلولِها النادر فاصلاً عظيمًا بين مراحل مُتضادّة تمامًا، وركائز يُؤَرَّخُ بها لِمَا قبلها وما بعدها بمَنطِقَين مُتغايرين بالكُلّية.
إنها، الثورة التى تحلُّ ذكراها اليوم، شعلةٌ لا تنطفئُ ولا تتقادم، ولا يخفُت وهجُها أو يلمع بمقدار ما أحرزته أو تعثَّرت فيه؛ بل تظلُّ قيمتُها قارّةً، مُكتملةً ومُتحقِّقةً فى ذاتها، لأنَّ المِفصليَّات الوجودية لا تُقاس بأثرها المُباشر، إنما بما حيّدته من مخاطر زاعقة، وما أَمّنته من فسحةٍ طبيعية للتجربة والخطأ، والارتباك والتصويب، كما يليقُ بمُجتمعٍ حَىٍّ يتنفَّسُ ويستدرك على انقباضات رئته الواسعة، وليس كبيئةٍ مُصمَتةٍ، ليس لها من الحياة إلَّا ظاهرها البسيط، وتُحكَمُ بالحتميَّة والإذعان والمآلات المُحدَّدة سَلفًا.
قيمة 30 يونيو اليوم أنه وضع النقطة فى مكانها وأوانها؛ ولو تأخرت عن السنة السوداء لربما تعذّر الخلاص من هجمة الرجعية الإخوانية العميلة. وقيمته كحدث أنه كان كاشفًا لصديد ثمانية عقود سابقة، وأشبه بالارتداد فى الزمن لتصويب الحوادث من بداياتها، والإجهاز على فكرةٍ ما كان لها أن تُولَد من الأساس، وأرهقت الوطنيّة المصرية دونما اعتبارٍ لها أو إضافة.
كان الإخوان خنجرًا فى الخاصرة، عاش به المصريون بين ادّعاء وانتحال، وتكبّدوا آلامه مُزايدة وتعاليًا وجرًّا لهم إلى الوراء، وعلى كثرة الحوادث والتقلّبات؛ ما انتزعته إلّا هبّة الثلاثين من يونيو، ولو لم يفعل الغاضبون يومَها غير هذا لكفَاهم، وتظلُّ المُناسبة جديرة بكل احتفاء واحتفال وإجلال وتفاخُر.
إنه ثأر الضحايا منذ العشرينيات إلى الآن، ابتسامة فرج فودة المسروقة غدرًا، ودموع اليُتم على خدود أبنائه وطوابير اليتامى. صفعة مصر للعاقّين من أبنائها، وللخونة مِمَّن لم يحفظوا لها العهد وحُرمة الصلة المُقدّسة. وأوّلاً وأخيرًا فهو العقاب المُستحَقّ عن صحيفة سوابق مُشينة، والعارُ الذى يعرف أصحابَه ويُطوّق هاماتهم مرّةً وللأبد.

Trending Plus