مرثية منظومة القيم فى مصر

فى مصر وفى جيلى والأجيال السابقة على جيلى كانت منظومة القيم تمثل قاعدة راسخة تؤمن استقرار المجتمع وثباته، لكن فى السنوات الأخيرة اهتزت هذه المنظومة بقوة، فصارت أرضا بور لا زرع فيها ولا ماء، وهذا مرجعه إلى عدة أسباب أولها ما تبثه السينما والمسلسلات من أفكار ضد القيم بوصفها شيئا باليا لا قيمة له يعوق تقدم المجتمع، فضلا عن ترسيخ الفهلوة كطريق للصعود يصاحبها ألفاظ نابية كنا حين نسمعها نعتبرها خروجا عن الآداب العامة.
كان العريس حين يتقدم لخطبة عروس يقيم بصلاته وخلقه فصار يقيم بالمال والثروة والجاه، صار الابن يجرى التفاخر بالألفاظ النابية التى يصدرها بوصفها أداة لإثبات قدرته على الدفاع عن نفسه، صار الحرفى المصرى الذى كان يعرف بدقته وأمانته يتلذذ بالنصب على المواطن المسكين بل ويعتبر سرقته حلال، صار الجشع عنوان التجار والرغبة فى المكسب بلا حدود هدفا يجرى السعى إليه، انهار التعليم وصارت الوزارة التى كانت تقوم عليه تحت اسم (التربية والتعليم ) شيئا من زمن فات، فالتلاميذ يغيبون عن الدراسة دون محاسبة، وأهين المدرس فى المدرسة بعد أن غابت التربية عن المدارس، بل صار آلاف التلاميذ لا يعرفون كتابة اسمهم، وصار الغش شائعا فى الامتحانات، فى حين أن هذا الأب الذى يعانى الأمرين من أجل أولاده لا يقدر بسبب عجزه عن تلبية متطلبات الأسرة فى ظل غلاء فاحش، وكأن هذا الأب تسقط هيبته فى هذا الزمن الغريب والذى نعيش فيه كالغرباء، صار الكذب شائعا ومقبولا طالما أننا نضحك على أنفسنا ونسميه كذب أبيض لكى نمرر الكذب فى حياتنا، صارت الأمانة فعلا لا يقوم به إلا السذج من المصريين، غاب القانون وغاب احترامه، فصار العنف هو طريق الحصول على الحقوق.
كل ما سبق لا بد أنه يستحق التأمل والتفكير، وإلا فنحن أمام مجتمع يتظاهر بالمثالية وباطنه مهترئ، نحن أمام منظومة القيم التى توارثناها عن أجدادنا صرنا كمن يطلق الحكمة على لسانه فى ذات الوقت تكون أفعاله ضاره بالآخر بلا ورع ولا خشية من الله سبحانه وتعالى.
علينا أن ندرك أن آفة مجتمعنا هى الازدواجية فى كل شيء، هذا يصلى ولا يخشى الله حين يخدع الآخرين، وذلك يرى فيمن يصلى أنه منافق، وهذا يشجع ابنه على الغش ولا يدرك أن ابنه من الممكن أن يغشه هو ذاته، بل وصلت الأمور إلى تخيل أننا لن نتحمل صعوبات الحياة، فأم تقتل أطفالها لأنها لا تستطيع أن تدفع مصاريف مدارس دولية، وأب يقتل أطفاله يأسا من عدم قدرته على الصرف عليهم، ومسئول يقول إن لدينا نظاما تعليميا جادا وهو يعلم أن هناك خللا كبيرا فى منظومة التعليم، ومسئول يخالف ضميره لكى لا يغضب من يملك القرار باستمراره، ونسينا أنه لسنوات كان هناك مسئولون قالوا ما يرضى ضمائرهم، فالدكتور حلمى مراد واجه الرئيس جمال عبد الناصر ولم يخف، والوزير إسماعيل فهمى تقدم باستقالته متمسكا بما رآه الصواب، وما سبق من علامات الصحة فى أى مجتمع، وفى مصر يتصدر التافهون المشهد ويتوارى العظماء، ففى زمن سابق قُدم فاروق الباز كنموذج يقتدى به، وكُرم الدكتور أحمد زويل ونجيب محفوظ لحصولهما على جائزة نوبل، الآن نحن فى أمس الحاجة إلى قدوة نقدمها للأجيال الجديدة قدوة نصنعها لو تطلب الأمر ونقدمها حتى يكون لدى الأجيال الجديدة أمل فى الوطن، وللأمانة هناك عشرات من العلماء الشباب الذين يكافحون من أجل المستقبل، بل يحاربون فى صمت بعيدا عن الأعلام، هؤلاء لا بد أن نبحث عنهم ونعرف بهم، وبعضهم حقق نجاحات على الصعيد الدولى، هنا لابد أن نقرر أن العديد من النماذج فى كافة المجالات موجودة ولكنها تخاف من الظهور، وهؤلاء أراهم فى الجامعات وخارج الجامعات، يعملون فى صمت يجتهدون، لذا فعلينا أن نستكشف أفاق المستقبل وأن نرى فى هذا المستقبل الأمل الذى يفجر الطاقات الكامنة فى هذا البلد، فالمستقبل يتطلب روحا جديدة تبعث فينا الأمل.

Trending Plus