دروس الاحتلال فى فلسطين.. عن القافزين فوق الخرائط والناظرين تحت الأقدام

كان الحلمُ مُكتملاً فى خيال هرتزل مبكّرًا جدًّا، وسعى إليه بدأبٍ لم يفتر، وعبر خطواتٍ محسوبة ومتدرّجة. سيرةُ المُؤتمرات الصهيونية والأنشطة والوكالات المُتولّدة عنها معروفة للجميع، ومُتخمةٌ بالتفاصيل، وفيها حكايات نستشهد نحن بها على خلاف ما كان يُرَاد منها وقتها.
نُردِّدُ مثلاً أن الأطماع توجّهت أوّلاً إلى أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، قبل أن تستقر على فلسطين فى أقصى أطراف آسيا. غير أنّ المشروع كان ينصرف منذ البداية إلى وجهته النهائية التى نعرفها اليوم، ونعانى من جموحها المُشتمل على كلّ صنوف البطش والترويع والإبادة. يضرب الصهاينةُ فى ناحيةٍ طوال الوقت؛ فيما يتحضّرون بحماسةٍ ويقين للحصاد على جبهةٍ مُغايرة تمامًا.
لا شىء مجّانيًّا أو بالمصادفة. على الأقل منذ إعلان الأب المُباشر للمشروع فى مؤتمره الأوّل عن ضرورة العمل على إنشاء الوطن القومى لليهود فى غضون خمسين سنة؛ ليتحقّق الهدف قبل موعده بثلاثة أشهر مع صدور قرار التقسيم نوفمبر 1947، أو قبلها بثلاثة عقود تقريبًا؛ لو نظرنا لوعد بلفور وإعلان الانتداب البريطانى على فلسطين.
وإذ لم يستفِد الصحفىُّ النمساوى من مردود جهوده بأثر الرحيل المبكر؛ فإنه يظلُّ حجرًا ركينًا فى معمار الدولة المُلفّقة، ومدخلاً ذهبيًّا لا لفهم نشأتها فحسب؛ بل للوقوع على منطقها ومُحرّكاتها وآليات عملها.
لم يكن الهدفُ قطعةَ أرض والسلام؛ وإلا كانوا اكتفوا بدويلة الحكم الذاتى المعروفة باسم بيروبيجان فى إقليم أوبلاست، والمُتحقّقة فعليًّا فى الجغرافيا الأوراسية منذ العام 1934. الطموح كان محصورًا فيما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وعندما كانت العيونُ بصيرةً والأيدى قصيرة، طُرِحَت الأفكارُ ستارًا، وحائلاً دون انكشاف الغايات.
وبالآلية ذاتِها يُدَار العمل من يومها حتى الساعة، ولا مُرَاد لهم إلا أن يُجسّدوا الصورة التاريخية الموهومة، ويستعيدوا ما مرّ على أذهان الآباء فى قرون الشتات، وما تجمّعت خيوطه كاملةً، ومنسوجةً فى قماشة واضحة، منذ أواخر القرن التاسع عشر.
لم يأتِ الصهاينةُ إلينا ليكونوا مُواطنين فى دولة مَدنيّة جامعة، ولا ليقتسموا الجغرافيا مع آخرين. إنه حضورٌ بنِيّة الحلول الكامل، وعلى قاعدةٍ من إلغاء الآخر تمهيدا لإزاحته. وكطبيعة قارّة فى نمط الاستيطان الإحلالى؛ فإنه يبدأ ناعمًا ثم تخشوشن لمسته، ويهمس حتى يمتلك العدّة اللازمة للصخب.
بُؤَر محدودةٌ؛ فكيبوتسات واسعة. وبنادق فردية تندمج فى عصابات، ثم تنبتُ الدولةُ من العدم، وتتوسّع على حساب المُلّاك الأُصلاء. خطابُ مظلوميّةٍ يحرثُ الأرضَ، ثم وحشيّة تنتزعها وتحرسها من غضب أصحابها. مساع لاستخلاص قرار التقسيم بإرادةٍ دولية، ثم إنكار مصحوب بانفلات، واشتغال على الاعتراف من مُنطلقاتٍ ومراكز مادية ومعنوية مُستحدَثة وطارئة.
القانون جسرٌ انتحالىّ مؤقّت نحو تغييبه تمامًا، الدعاية أداةُ احتيال تُثبّته القذائف، والأهداف الكُبرى تُجزّأ بحسب الحاجة وطبيعة المراحل، وإن تيسّرت الظروفُ فلا مانعَ من إخراجها للعَلَن دفعةً واحدة، والتشدُّد فى تطبيقها بمبدأ أنه «ما يستعصى على القوّة، يُتَوصَّلُ إليه بمزيدٍ من القوّة».
صعد نتنياهو على أنقاض حلِّ الدولتين، ولم يُضبَط مُتلبّسًا فى صدر تجربته السياسية بالحديث عنه أو الترحيب به. كان دمويًّا مكشوف الوجه منذ انطلاقته، ولم يستشعر غضاضةً أو حرجًا من السباحة فى بِركة الدم، اليهودى قبل الفلسطينى.
حرّض على «رابين» ليُسقطَه مع أوسلو برصاصةٍ واحدة. بدت صراحتُه الفجّة فى أشد حالاتها تعرّيًا ضمن كتابه المُؤسِّس لمَسلكِه «مكان بين الأُمَم» الصادر بالإنجليزية، أو «مكان تحت الشمس» بحسب ترجمته العِبريّة المنقولة للعربية لاحقًا.
طرح فيه رُؤاه اليمينيّة المُغلّظة فى تشدُّدها وإنكارها للآخر الفلسطينى، بل والعربى عمومًا؛ لكنّ تلك المبدئيّة الصلبة لم تمنعه من الرجوع خطوتين للوراء، بالتزامُن مع زيارة أوباما للمنطقة وخطابه الشهير فى جامعة القاهرة؛ فتخلّى الذئبُ عن غريزة النهش والافتراس مؤقّتًا، وأدرج خيارَ الدولتين ضمن هامشٍ ضيّق للحوار، أو بالأحرى للكلام الذى لا يُفضى إلى شىء.
وباستثناء تجربة السلام الاضطرارية مع مصر، وآثارها التى امتدّت لآخر جيلٍ من تيَّار اليسار المُؤسِّس فى جولات مدريد وأوسلو، وما تأتّى عنهما من فائض وعودٍ وتوافقاتٍ هشّة؛ فلم تكُن التسوية السياسية ومساعى التعايش والمساكنة الهادئة أصلاً راسخًا فى المُعتَقَد الصهيونى.
الفكرةُ إلغائيَّةٌ من منشأها، وتقوم على مزج العرق بالدين، واستلاب الأرض وفقَ مرجعيَّةٍ تاريخيّة مشكوكٍ فيها، وحتى فى حال صحتها؛ فقد طمرتها القرون. وقابليَّة العرب ندًّا أو شريكًا مُكافئًا لا تعنى سوى الاعتراف بحجّيَّة التاريخ على الجغرافيا، وإسقاط المشروعية المُتخيَّلَة بقوَّة الواقع والحقائق الدامغة.
وعليه؛ فلم تكُن مُجاراة الأُطروحات الإقليمية والدولية سوى استهلاكٍ للوقت والطاقة، وهامشٍ للاشتغال التَّحتِىِّ على بدائل من خارج أُفق الاعتدال والتوازُنات القائمة، ولهدفٍ وحيدٍ يتلخَّص فى إرباك المُعادلات، وتغييرها من داخلها ببطء، أو خلخلتها بعُمقٍ من الخارج، وعلى ضوء التقلُّبات وزحزحة الصفائح التكتونيَّة الجيوسياسية على امتداد المنطقة.
والنظرةُ السابقة إن كانت تقطَعُ بمآلات المشروع، وتدمَغُ كلَّ مُحاولات احتوائه أو التعاطى معه بالفشل المُسبَق؛ فإنها تُؤسِّسُ لتصوُّرٍ آخر عن آليَّة التخاصُم والمُنازعة مع أجندة حارقةٍ بتلك الصورة. لا على معنى الرضوخ والارتضاء بالقليل المُتاح؛ بل استيعاب حدود الظاهرة وتشابُكاتها العميقة، والاشتباك معها بمنطقٍ لا يُستَلَب لجهة الإفراط أو التفريط.
أى أنْ يتحلّى الطرفُ المُقاوم بطُول النَّفَس أيضًا، وقُدرات المُناورة، وبفُسحةٍ موضوعيَّة للرِّهان على الزمن وحسابات القوَّة والمَقدرة. بحيث لا يكون النضالُ التحرُّرىُّ انتحاريًّا، ولا مُحفِّزًا للمُضمَر من مُفردات البرنامج العدائىِّ الساعى لابتلاع الغريم وتذويبه فى تيّاره الجارف، أو الاحتيال عليه وتحييده، كبديلٍ مرحلىٍّ عن شَطبه الكامل والنهائىِّ من المُعادلة.
والباعثُ لدىَّ على مُقاربة تلك المسألة؛ إنما يعودُ لواقعةٍ ماديَّة تكرَّرت بحذافيرها فى غضونِ أسبوع، وأُدِيرَت بآليَّاتٍ عسكرية ودعائية مُختلفة فى الحالين: والأُولى عندما أطلقَ الاحتلالُ النارَ على المُتجمِّعين فى نطاق أحد مراكز توزيع المُساعدات عند أطراف رفح؛ فأردَى العشرات وأصاب المئات، لكنَّ مُتحدِّثَ الجيش سارع بإصدار بيانٍ بالنفى، استتبعه باستصدار آخر من «مُؤسَّسة غزّة الإنسانية» المُتحالفة معه، والمَبنيّة بنكهةٍ أمنيّة مُتَّفَق علها مع واشنطن.
وأمسِ، تعرَّض الغزِّيون لهجومٍ مُطابِق شكلاً وأثرًا؛ إنما كان السلوك مُختلفًا من جهة أفيخاى أدرعى، إذ بادر بالاعتراف بالحادث، ومنحَه تفسيراتٍ هيوليَّةً ذات أبعاد أمنيَّة، من دون التطرُّق إلى الموقف السابق، أو التقاطُع مع الآليَّة الإغاثية المُستجدَّة، وما صارت تُمثِّله من فخاخٍ وكمائنَ لاصطياد المدنيِّين.
والغالبُ أنَّ الإقرارَ الأخير لا يتأتَّى من شجاعةٍ أو شفافيَّةٍ تتوخَّى المُكاشفة؛ بل لرغبةٍ فى تحقيق الأثر المُزدَوَج من العدوان المُتكرِّر؛ فقد أرعبَ العوَّام الجائعين كما أراد، مُحقِّقًا التخويف والرَّدع النفسى،ّ فى طيَّات رسالته الصريحة بأنه لا يُوفِّر هدفًا مرصودًا أو مقصودًا تحت أىِّ ظرفٍ من الظروف.
ثم من وراء ذلك؛ يُجَيّر السلوكَ غير الإنسانىِّ لحساب المَوثوقيَّة مرّتين: إحداهما أنه يُبادِرُ بإثبات ما لم يكُن مُضطرًّا للاعتراف السهل به، ويُمكنه التهرُّب منه والتشغيبُ فيه؛ استغلالا لتنازُع المعلومات وغياب المُواكَبة الإعلاميَّة المُحايدة، والثانية أنه يُضفى قَدرًا من الوجاهة على خطاب إنكاره للواقعة السابقة، أو هكذا يتصوَّر.
وإزاء ما ينطوى عليه حَدَثَا التعمية والتصريح من مُخاتلةٍ؛ فإنَّ استعادة سُلوك الآلة الدعائية الصهيونية وماكينات «الهاسبراه» منذ بداية العدوان على غزَّة، يكشفُ عن وقائع شبيهةٍ مُتكرِّرة ومتوالية وذات مضامين مُطابقة.
تضخيمٌ مُبالَغ فيه لأحداث الطوفان، مُقابل التنصُّل من الجرائم المُوثَّقَة بالصوت والصورة فى أرجاء القطاع، وأشدّها فجاجةً كان فى واقعة قصف المستشفى الأهلى «المعمدانى» أكتوبر قبل الماضى، ومحاولة إلصاقها بحركة الجهاد الإسلامى، من جهة أنها «نيرانٌ صديقةٌ» تولَّدَت عن صاروخٍ طائش.
وإذا كانت تقنيَّاتُ التضليل والخداع لا تنطَلِى على الجميع، هُنا وفى أنحاء العالم، وفائضُ الارتكابات يتعذّر معه أىُّ تبريرٍ أو دجل دعائىّ؛ فإنَّ إثارةَ الغُبار تظلُّ كافيةً على الأقل لتمرير بعض السرديَّات المُضادَّة، وتغذية الماكينات المُنحازة أو المُتلَطِّية وراء دعاوى الحياد، فضلاً على إفساح مجالٍ للجدل والأخذ والردِّ والمُناكفات، وهذا آخر ما تحتاجه البيئاتُ المنكوبة فى أزمنة نكبتها السوداء.
وحتى نقفَ على حجم الأثر وتداعياته المُركَّبة والمُربكة؛ فعلينا أن ننظُرَ للمشهد من زاوية أوسع، ونأخذه بالقياس لغيره من الوقائع، من جِهَتَى المُعتدين والضحايا.
لقد جاهرت حماس بأفعالها فى هجمة الغلاف صبيحة السابع من أكتوبر، وتطوّعت بإظهار بعض المواد المُصوّرة، بل إنَّ إعلامَ الحركة وداعميه أفرطوا فى الحديث المُتفاخِر دون عقلٍ وحصافة، وبغيرِ أىِّ تحسُّبٍ لِمَا يترتَّب على ذلك من أعباء ماديَّة ومعنويَّة.
وبهذا؛ توفّرت لإسرائيل منصَّة المظلوميَّة التى سمحت بإغراق الفصائل بالوَصْم والإدانة، وسيَّدَت خطاب «حقّ الدفاع عن النفس» لفترةٍ طويلة، سمحت بتمرير كلِّ الجرائم وأعمال الإبادة والتطهير لأمدٍ غير قصير.
بدأ المُقاومون حربَهم خاسرين بالفعل، واحتاج الأمرُ شهورًا وآلافَ القتلى لإعادة مُوازنة الصورة، وتعديل ما حُرِّفَ برعونةٍ فى المشاهد الافتتاحية.
والمَأخَذُ نفسُه ينطبقُ على ما جرى فى صفقات التبادُل. فبينما كان الصهاينةُ يُهينون أسرَاهم ويُنكِّلون بهم فى السجون الخَفيّة، عَمَدوا لإخراجهم فى سياقٍ من الضغوط والمُمارسات المُعتادة، لا يخلو طبعًا من التضييق والتعقيدات؛ لكنه لا ينطوى على إشاراتٍ ظاهرة إلى الإساءة وتعمُّد الإهانة والاستعراض على الأبدان.
فيما كان الحماسيِّون يفعلون العكسَ تمامًا؛ فيَعتنون بالرهائن أضعافَ عنايتهم بالغزِّيين المَنكوبين؛ يُطعمونهم ويُداوون مَرضاهم ويُحرصون كلَّ الحرص على سلامتهم؛ لكنهم عندما أطلقوا سراحهم اختاروا مظهرًا شعبويًّا ساذجًا، غايتُه الدعاية الرخيصة للتنظيم، وتثبيت هياكله المُتداعية بحفلاتٍ لا تتجاوز زمنَها ومكانَ انعقادها؛ إنما تمتدُّ تأثيراتُها السلبية لِمَا هو أبعد كثيرًا.
وكانت معانيه أشدَّ جلاءً فى واقعة تسليم توابيت القَتلَى؛ لا سيَّما أنها كانت تحتضنُ أُمًّا مع أطفالها، وبينهم رضيعٌ خُطِف فى شهوره الأُولى؛ والغرب رقيقٌ وتؤلمه تلك المشاهد كما نعرف بالطبع.
وبعيدًا من تلك التفاصيل الصغيرة حجمًا، الكبيرة مَردودًا وتبعاتٍ، والغائصة لآخرها فى أعماق المأساة وضغوطها، وما تتسبَّبت فيه من ارتباك وعدم اتِّزان؛ فقد كان «طوفان السنوار» نفسُه دليلاً شديد الوضح على أننا لم نتعلَّم من العدوِّ شيئًا، وقد نستسهلُ تحت ضغط الخصومة أن نُهاديه مجّانًا بما ينفعه ويضرُّنا.
اختارت حماس أن تتحلَّل من المَظلَمة لتُظهِرَ البأس والاقتدار أمام المحتل، على غير الحقيقة ودون مُخطِّط مُكتمل لاستثمار ذلك؛ فبدأت من نقطةِ الذروة سلوكًا، وأرفقته بخطابٍ إعلامىٍّ يُغْلِظُ فى رسالة الحرب الشاملة بغَرَض التحرير؛ مع ما تَدُلُّ عليه أو تسمح به لإسرائيل من تأويلٍ لدعائية الإلغاء، وشعارات استخلاص الأرض من النهر للبحر وإلقاء الصهاينة جميعًا فى مياه المتوسط.
وبتلك النزوة العاطفيّة؛ أعادت لُحمةَ المُجتمع العِبرىّ الذى كان يتشقَّق وينقسمُ على ذاتِه تجاه مشروع نتنياهو للإصلاح القضائى، ووحَّدته تحت مظلَّة الإجماع إزاء الخطر الوجودى، ومنحته ترخيصًا شعبيًّا وغَربيًّا بالقتل المفتوح، لحين أن تتَّضح الحقائق وتنجلى، أو يعتدل ميزان العالم المائل.
والمُواجهة غير المتكافئة لم تُدمّر غزّة فحسب؛ بل فتحت الباب عريضًا للتلاعُب بالخرائط الجيوسياسية للمنطقة، وتغيير توازُناتها القديمة دون جاهزيَّةٍ أو استعداد لإرساء بديل جديد.
أمَّا الأخطر؛ فكان زحزحة حكومة الليكود عن رماديَّتها المُتحيِّنة للفُرَص، إلى يمينيَّةٍ توراتيّة وقوميّة سافرةٍ صاخبة، أخرجت ملفًّ التهجير من الأدراج، ولم تعُد تقبلُ تعويضًا عن إنفاذه إلَّا تصحيح خطيئة «فكّ الارتباط» قبل عقدين، والسيطرة الكاملة على القطاع، تزامُنًا مع تنشيط الاستيطان وتسريع إيقاعه فى الضفَّة الغربية.
أُدخِلَ الغزِّيون فى النار من زاويةٍ مُظلِمة، وعندما أضاء احتراقُهم عيونَ العالم المطموسة زمنًا، كانت المأساة قد تحرّكت بعيدًا، وخسرت القضيَّةُ ما يفوقُ طاقةَ احتمالها، وما لا تستطيع تعويضه فى هامشٍ قريب.
أخذت فلسطينُ تعاطفًا بطيئًا ومُتعثِّرًا حتى الساعة، مَوّلته بأرواح ودماء وإعاقات ما يُقارب 10 % من سكان غزة؛ لكنها فى أحسن التصوُّرات وأكثرها تفاؤلاً، أُعِيْدَت تقريبًا إلى نقطة الصفر: النكبة الأُولى.
كان العالمُ يومَها أقلَّ اختلالاً مِمَّا هو عليه الآن، ولم يَمنَع هذا من تقتيل وكَنْس مئات الآلاف، واقتطاع ما يفوقُ نصفَ الممنوح لإسرائيل فى قرار التقسيم، ويزيدُ على عشرين ضعف القطاع المُختَلَف فى مصيره حاليًا.
والحال؛ أنَّ مع الضحايا عاطفةٌ وحماسٌ/ الصِّفَة لا الاسم، وانتُزِعَت منهم الأرض عَمليًّا، ويقبضون على «كتاب المَوتى» مُحبّرًا بدم الأبرياء، ودموع المُشفقين عَديمى الحِيلة.
والخوفُ من أن تدور الساقية على لحم ثيرانها الجُدد، كما دارت فى كلِّ السوابق على الآباء السابقين فى مَواكب القرابين التى تتبدَّد ذكراها سريعًا، بانقضاء طقوس التضحية.
تألَّمَتْ الإنسانيَّةُ الطيِّبة من النكبة الافتتاحيَّة، وبَكَت على الضحايا، وأهدَتْ ورثتَهم وكالةً أُمَميَّة لغَوث اللاجئين وضمان عودتهم لبيوتهم. تَوجّعوا طويلاً من البطش والقهر، ومن عدوان يونيو 1967 وإحراق الأقصى، وفى الانتفاضتين الأُولى والثانية، وفاجعة نَحر محمد الدُّرّة بين ذِراعَى أبيه، وأربع حروبٍ سابقة على الغزِّيين؛ إنما دائمًا كانت الشفقةُ تأخُذُ مَدَاها وتنطفئ، ويُعاد ترميم صورة إسرائيل وأمثولتها الحضارية المُتفوِّقة على محيطٍ هادرٍ بالبداوة والعداء؛ لتُفتَتَح الجولةُ التالية من محطَّة التكافؤ أو ما يُشبهه، وبما يُوحى بمُقاربة الأزمة الدائمة بوعىٍ سيّالٍ وذاكرةٍ بيضاء.
وليس هذا لأفضليَّةٍ صهيونيَّةٍ قطعًا، ولا لنقيصةٍ فى عدالة القضية؛ بل لأنَّ العدوَّ ينتمى عائليًّا ومَعرفيًّا لحُكَّام الملعب ومُنظّميه الدوليِّين الكبار، وحاضنته تتلكَّك أصلاً لإسناده، وتغفر له جُلَّ الذنوب استباقيًّا، وما يتبقَّى منها فوق الغفران تسترُه بالسياسة حينًا، وبالدوران فى حلقاتٍ مُفرَّغة أحيانًا، وكلٌّ منها تمسحُ سابقتَها، وتُزيلُ كلَّ أثرٍ لها فى نفوس العالم الأوَّل المُتحضّر.
وقد لا تكونُ الحالُ تلك المرَّة كسوابقها، والكارثة أكبر من الطَّمْر والإخفاء، ووجيعة الضمير عميقةً وصارخة؛ لكنهم لا يعدمون الحِيَل، وخبراءٌ فيما لا خبرةَ لخصومِهم به مع الدعاية ومُخاطبة العالم من خواصره الهَشَّة، عبر مراكز الفكر وجماعات الضغط ومصانع الساسة وأصحاب القرار.
ويصحُّ القَّول إنَّ جيلاً جديدًا من شباب الأرض ينشأ اليومَ على سرديَّةٍ مُفارقة؛ لكنها تظلُّ فرضيَّةً فى حاجةٍ للاختبار والتدليل، وتلك التجربةُ ستمتدُّ عقودًا؛ لحين أن يشبّ الصغار عن الطوق، ويُمسكوا بزمام الأمور فى دُوَلِهم ومُجتمعاتهم؛ مع احتماليَّة إخضاعهم وفقَ آليات الاجتذاب والتطويع القائمة، التى لن تتوقَّف عن الديناميكية وتطوير أدوات عملها، وتقنيَّاتها فى الاستقطاب والترويض والترهيب والترغيب.
وحتى مع التعويل على امتداد خطوطِها الحاليَّة على استقامتها؛ فستأكُل سنواتٍ طوالاً من عُمر القضيَّة ونضالاتها، وتركيبة بيئتها الداخلية؛ فيما لا يُؤمَنُ جانب المُخطَّطات الصهيونية الهائجة ضدّ سياقٍ وطنىٍّ فلسطينىٍّ مُهَلهَلٍ أصلاً، ولا تقلُّ عن ذلك كُلفةُ الانقسام والتشظِّى، ومُنازعة الأُصوليَّة والمَحاور فيما يعود للفسطينيين حصرًّا، ويُنَحّون عنه من جهة الفصائل، بقَدر ما يُنَحّيهم الاحتلال.
لم تُجاهر إسرائيلُ الرسمية بإبادة الفلسطينيين؛ لكنها تفعلها عمليًّا. وفيما تعجز الفصائل عن النصر أو مجرد الصمود المُثمر والفعّال فى ميدان المعركة؛ فإنها تدّعى بأسًا غير حقيقى ولا دليل عليه، وتستهلك خطابًا يفوق طاقتها ولا تسمح به ظروف الداخل والخارج.
تنويع الوسائل والرسائل حصافةٌ وديناميكية ومُداراة، وليس نفاقًا أو تهافُتًا يمسّ الاستقامة المبدئية والتمسك بالأصول الراسخة. الانحناء أمام العاصفة لا يُحمَل على الضعف؛ إلّا لو كان مفهوم القوّة خاطئًا من الأساس، ويستمد معناه من الإشباع العاطفى بدلا عن الأثر المادى وأولوية النجاة والبقاء.
مقاومة فلسطين فى حاجةٍ ماسّة لإعادة الهيكلة، دون إعلاءٍ لخيار أو تغافُل عن آخر، وخطابها أيضًا يتوجّب إخراجه من المُنازعة الأيديولوجية والفصائلية، وتوحيده تحت مظلّةٍ جامعة وعقلٍ ناضج لا تستلبه الشعبوية والمراهقة.
تجذيرُ النضال الوطنى بنسيجه الواسع ومتعدد التلاوين أولوية عُليا، والدولة مهما كانت باهتةَ الملامح ضرورةٌ لا غنى عنها لضمان الوجود الدائم، ولا مانع من بقاء الأهداف الحدّية التى يتجاوزها الراهن؛ إنما على شرط أن تبقى دون سقف الأولويات، ولا تُوظَّف خنجرًا فى خاصرة القضية، وألَّا يتوالى التصعيدُ فى الأهداف إلا بعد الوقوف على سابقتها فى أرض صلبة.
يُعانى الفلسطينيون من الصهاينة، وربما يكون عليهم الانتفاع بما يُسدّدون أثمانه بالفعل، عبر التمسُّك بالذاكرة والتراكُم، والاعتراف بالأخطاء وتصويبها، وتحسين كفاءة الاشتغال على المأمول باغتنام الممكن، وضمان الإفادة من تلك المعاناة فائدة عملية مُنتجة، على معنى استيعاب أدوات العدو وآليات عمله، ومُجاراته والتفوّق عليه فيها كلما أمكن؛ لأنه ما لم تكن قادرا على حصار الخصم ومفاجأته قد لا تربح المباراة، والأخطر أنك مع التكرار قد تُدمن الهزائم، فيما تتراكم النقاط على الجانب المضاد.

Trending Plus