"وصية محمد رفعت".. والبحث عن أرشيف الإذاعة

لولا زكريا باشا مهران ابن القوصية بأسيوط ورجل المال والاقتصاد وعضو مجلس الشيوخ المصرى فى الثلاثينيات والأربعينيات لما عاش صوت الشيخ محمد رفعت نستمع اليه ونستمتع به حتى الآن.

هذا العاشق لصوت قيثارة السماء منذ انطلاق الإذاعة المصرية الرسمية فى 31 مايو عام 1934 كان هو الشخص أو المستمع الوحيد الذى قام بتسجيل قراءة الشيخ رفعت للقرآن الكريم على أسطوانات، وعلى حسابه الشخصى، فى وقت لم يكن لدى الإذاعة إمكانات كبيرة للتسجيل.
الباشا الصعيدى الذى تزوج زينب هانم مبارك حفيدة على باشا مبارك (1823-1893م) الذى اقترن اسمه فى تاريخ مصر الحديث بالجانب العملى للنهضة والعمران، اشترى من أوروبا أو ألمانيا تحديدا- كما تشير بعض المصادر الدراسات- جهازين جرامافون لتسجيل  تلاوات الشيخ رفعت، سواء فى الإذاعة أو فى مسجد مصطفى باشا فاضل (أطلق عليه بعد ذلك مسجد الشيخ رفعت) وسلم جزءا من هذه الأسطوانات إلى رئيس الاذاعة محمد بك قاسم الذى تولى الرئاسة بعد سعيد باشا لطفى فى الفترة من ديسمبر 1974 الى أغسطس عام 50 مقابل أن تخصص الاذاعة معاشا شهريا للشيخ رفعت الذى أقعده المرض فى بيته فى بداية الأربعينات وحتى وفاته فى 9 مايو عام 1950 ولم تتحقق أمنية " الباشا" فى صرف المعاش للشيخ..!

توفى زكريا باشا مهران قبل الشيخ رفعت بعام وشهرين تقريبا- توفى فى فبراير 1949- وظل تراث الإذاعة فى إذاعة القرآن بصوت الشيخ رفعت عبارة عن الأسطوانات التى سلمها الباشا مهران لرئيس الإذاعة..!

المفاجأة المدهشة الكبرى وبعد 75 عاما من وفاة قيثارة السماء وسيد القراء، أن يعثر أحفاد زكريا مهران على " كنز" ضخم تركه الباشا فى صندوق خشبى عبارة عن عشرات الأسطوانات- حوالى 100 أسطوانة -بحالة جيدة للغاية للشيخ رفعت لم يستمع اليها أحد من قبلها وقررت أسرة الباشا تسليمها الى أسرة الشيخ محمد رفعت.

هذا الكنزأو الاكتشاف المبهر أزاح عنه الغطاء وكشف عنه الفيلم الوثائقى "الوصية...دراسة وثائقية عن أسطورة التلاوة الشيخ محمد رفعت" من انتاج ميدياتوبيا والذى عرض فى "ساقية الصاوى مساء الأحد الماضى بحضورالدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف وأسرة الشيخ رفعت وزكريا باشا مهران . والفيلم دراما وثائقية من تأليف وإخراج الصديق الاعلامى الدكتور محمد سعيد محفوظ، وبطولة الفنان الجميل محمد فهيم( الذى قام بدور الشيخ رفعت باتقان وبمهارة كبيرة)، وأمانى محفوظ، زينب مبارك، محمد فوزى الريس، يحيى علاء، هبة محمد، الموسيقار الدكتورمحمد حسني.

يقدم الفيلم قصة حياة شيخ المقرئين، على لسان علاء أبو النجا، الابن الروحى لزكريا باشا مهران، كما يكشف الفيلم (الذى تبلغ مدته 30 دقيقة) عن العثور على تراث جديد يتمثل فى 100 اسطوانة نادرة لم تسمع من قبل للشيخ رفعت، تم نسخها رقمياً فى استوديوهات ميدياتوبيا، ويتم ترميمها الآن فى مدينة الإنتاج الإعلامي.

الفيلم يستحق الإشادة والاهتمام والتقدير لهذا " السبق الاعلامي" النادر ولكنه فى الوقت ذاته يطرح قضية غاية فى الأهمية فى مناسبة عيد الإعلاميين الـ91 بمناسبة انطلاق الاذاعة المصرية الرسمية يوم 31 مايو عام 1934  وهى قضية التراث أو الأرشيف الخاص بالإذاعة المصرية طوال 91 ، هل ما زال موجودا وبالجودة العالية وبالتقنية المطلوبة، أم أننا فى حاجة للبحث عن هذا التراث الأرشيف ونفض عنه غبار الإهمال والتجاهل ونبث فيه الحياة بترميمه من خلال التقنيات الحديثة أو ما يسمى بـ" الرقمنة".
القضية مهمة ومهمة للغاية لأنها تتعلق بتراث مصر وعقلها ووجدانها سواء لسلاطين القراءة فى دولة التلاوة المصرية أو لمفكرين ومثقفين وفنانين وزعماء وسياسيين. الأمر يتطلب إطلاق مبادرة كبرى أو مشروع قومى تتولاه الهيئة الوطنية للاعلام برئاسة الإعلامى الكبير أحمد المسلمانى " حفاظنا على تراثنا" من الضياع والاندثار أو الاختفاء.

هل نتصور أن ما نسمعه من قراءات الشيخ رفعت لا يمثل أقل من 30% من تسجيلاته وهو تقريبا ما منحه زكريا باشا مهران للاذاعة قبل وفاته. وبعد ترميم الاسطوانات الكنز يصبح لدينا ما يقرب من 70% من قراءة الشيخ رفعت للقرآن الكريم.

لم يخطر ببال أحد من المسئولين فى ذلك الزمن أن يقترح أو يدعو الى  تسجيل حفل وقائع اليوم الأول من تدشين الإذاعة واحضار أجهزة تسجيل خاصة أثناء إذعتها مباشرة عبر الأثير. ففى الساعة الخامسة والنصف مساء انطلق صوت المذيع أحمد سالم( كان يبلغ من العمر 24 عاما) مفتتحا الاذاعة " هنا القاهرة" وكان أول صوت عربى ينطلق عبر البث الرسمى لأثير الإذاعة المصرية، هو الشيخ محمد رفعت، عندما قرأ من سورة الفتح: "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا". ثم  انطلق صوت الآنسة أم كلثوم والتى أحيت الافتتاح و تقاضت ٢٥ جنيهًا مقابل إحيائها للافتتاح ، كما غنى أيضًا المطرب صالح عبد الحى ، ثم مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهاب الذى غنى فى هذه المناسبة الهامة قصيدة " آه يا ذكرى الغرام " من نظم شاعر الشباب أحمد رامى و للأسف هذه القصيدة فقدت إلى الابد بصوت عبد الوهاب و لا يوجد لها إلا تسجيلين واحد بصوت المطرب عادل مأمون و الآخر بصوت المطرب جلال حرب.، وشمل برنامج الإذاعة حسين شوقى أفندى الذى ألقى قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى بك، وألقى الشاعر على بك الجارم بصوته قصيدة تحية لملك البلاد فؤاد الأول ملك مصر والسودان، والمونولوجست محمد عبدالقدوس، والموسيقيان مدحت عاصم وسامى الشوا".

حفل الافتتاح أقيم فى ساحة وزارة المواصلات بشارع رمسيس - وهى الوزارة التى كانت تشرف على الاذاعة قبل انتقال الإشراف إلى وزارة الشئون الاجتماعية بعدها بخمس سنوات -  وتم دعوة رجال الدولة  وأعضاء مجلس البرلمان وكبار المثقفين والكتاب والأدباء والصحفيين ، كان وقتها أول بث للإذاعة وتم عن طريق الإذاعة الخارجية وليس من الاستوديو ، وفى حفل الافتتاح تحدث الدكتورعلى باشا إبراهيم – أول مدير مصرى لمستشفى قصر العينى ووزير الصحة الأسبق- رئيس لجنة الإذاعة اللاسلكية المصرية.واستمر إرسال اليوم الأول لمدة ٦ ساعات.