السعادة قرار رغم الألم.. استشارى نفسي يعالج مرضاه فى دول أخرى من داخل خيمة بغزة.. عبد الرحمن الرنتيسي لـ"اليوم السابع": آلة الحرب ونقص الغذاء والطاقة يؤثرون على عملي.. ونزحت 7 مرات وأتعاطى مع الواقع بسرور

** أنصح أبنائي بالنفس العميق وتناول أعشاب مهدئة وإثارة الحديث المصاحب للمرح لتجاوز الخوف والقلق

**  نادرا ما أجد مواطن في غزة يطلب دعما نفسيا رغم العدوان

**  الناس فى غزة يحلمون بالبقاء على قيد الحياة 

** النزوح من مكان إلى مكان أخر يشبه خروج الروح من الجسد

وسط الركام والقصف وحياة الخيام الصعبة، مشاهد تناثر الأشلاء والمجازر التي يشاهدها بعينيه يوميا، رغم ذلك لم يتوقف الدكتور عبد الرحمن الرنتيسي، استشارى الطب النفسي الفلسطيني عن توجيه إرشاداته ونصائحه ليس لسكان القطاع المكلومين فقط بل أيضا لمواطنين يعيشون في دول مستقرة وذات رفاهية، يضع روشتات علاج نفسي لمشكلاتهم وطرق تخطي العقبات التي تواجههم، بينما يواجه هو الموت في كل لحظة ويعيش كما يعيش أقرانه في غزة حالة الخوف والتوتر مع استمرار العدوان  الإسرائيلي.

من وسط الدمار والحصار والركام، يعالج "الرنتيسي" كما هو معروف بين عائلته وجيرانه، أشخاص من دول تعيش حالة أمن وازدهار نفسيا، غير عابء بأصوات القصف التي تسمعها أذنه عشرات المرات في الساعة الواحدة، ولعل هذا أكبر دليل على أن السعادة قرار، خاصة أن الاستقرار النفسي ليس متعلقا بالأسباب المادية بل بالسلام الروحي، ورغم قسوة الحرب وتداعياتها الخطيرة على الأسرة والعائلة، وتكرار النزوح إلا أن هذا لم يجعله يتوقف عن تقديم رسالته في دعم المرضى نفسيا.

خلال موقعه الإلكتروني يعرف الرنتيسي نفسه بأنه خبير تغذية علاجية ولايف كوتش معتمد، إنسان حر، حيث يقول :"أحيا بشغف وأقترب كل يوم من ذاتي خطوة، أتحدث في السعادة، تطوير الذات، التغذية العلاجية، وأي موضوع يساعدنا على أن نكون أشخاصاً أفضل لنحيا بشكل أفضل وأجمل ونستمتع بـ الحياة لأبعد حد".

اقرأ أيضا:

الجيش الإسرائيلي: اعترضنا صاروخًا أُطلق من غزة باتجاه عسقلان

ويعدد الدكتور عبد الرحمن الرنتيسي الخبرات التي يتمتع بها وعلى رأسها لايف كوتش معتمد عالمي وممارس برمجة لغوية عصبية، وحاصل على ماجستير في الصحة النفسية والارشاد النفسي، وصاحب خبرة طويلة أكثر من 7 سنوات في مجال الاستشارات والدعم والتدريبات الفردية والجماعية، وشغوف في مجال الكوتشينج لدي خبرة احترافية في مجال كوتشينج العلاقات والأفراد، ولديه القدرة على تحسين حياة الأفراد و رفع مستوى جودة حياتهم، ومتخصص في علوم تطوير الذات كمدرب حياة.

كان لنا حوارا مع هذا النموذج الفريد الذي يبعث بالأمل في مكان يحيط به الموت في كل شبر ولحظة، إلا هذا لم يمنعه من تقديم رسالته في تحسين نفسية مرضاه وتوجيه النصائح النفسية لهم، في الوقت الذي يحتاج هو نفسه وعائلته من يطبب جراحهم ويخفف آلام التشرد والفراق، ويهون مشاهد القتل اليومي والمجاعة التي تزداد وطأتها بشكل يومي داخل القطاع وإلى نص الحوار..

عبد الرحمن الرنتيسي

أنت تعيش في أخطر بقعة في العالم الآن.. كيف تقدم الاستشارات النفسية لعملائك خارج غزة رغم ما تعانيه من قسوة الحرب؟

المعرفة هى سبب مهم ومباشر من أسباب السلام النفسى والقدرة على إدارة الذات وإدارة العلاقات مع الأخرين، وبما أن المعرفة ليست محتكرة على إنسان دون آخر بل متاحة لمن شاء أن يرتقى فى سلم الانسانية وينعم بالسلام النفس، وبالتالى هى ليست حكرا على من يعيشون فى دول مستقرة فقط، بل ربما أخذها وتلقاها من هم فى بلد قد استعر فيه القتل والدمار.

كيف تستطيع أن تشعر الآخرين بالسلام النفسي وأنت مهدد في كل لحظة بالقتل بصواريخ إسرائيل؟

من أخذ بالسلام النفسي حتى لو كان فى دار حرب وامتلأ سلاما داخليا وإن كان الخارج تملؤه الفوضى ولم يعير تلك المعرفة اهتماما ولا بالا، فقد حرم نفسه من تلك السعادة النفسية، وصار ما فى داخله فوضويا مملوء بالقلق والضجر وإن كان خارجه أمن وأمان، لأن السعادة قرار شخصى ذاتى داخلى محض.

ما هي أبرز النصائح التي توجهها لعملائك؟

دائما ما أشدد على ضرورة التأكيد الدائم والتركيز على كل ايجابية فى حياتنا مهما كانت صغيرة، وذكرها ولو لزم الأمر كتابتها، وحديثنا مع أنفسنا ينبغي أن يكون إيجابيا باستمرار، بمعنى أن نجعل تفكيرنا إيجابيا ونبتعد كل البعد عن أي فكرة سلبية، ثم التصالح مع ذواتنا وذلك بتقبل أنفسنا بدون شروط والسعي باستمرار للتطور بالعلم والعمل، وتحفيز النفس ودعمها المستمر مع شدة التفاؤل بمستقبل زاهر وزاخر بالإنجازات، وعدم مقارنة أنفسنا بالآخرين والحذر من إرهاق النفس حتى تكون فى القمة، فهذا الهدف له أخطار كبيرة والأفضل أن نقارن انفسنا مع أنفسنا ذاتها والسعى فى الارتقاء بذاتى اليوم لتكون أفضل من ذاتى بالأمس ولو بالقليل من الترقى وذلك فى جميع النواحى، وأن انتبه بأننى مهما كان مستواي العلمى أو العملى أو المعيشى فإننى أعيش فى أحلام كثيرة بل ملايين من البشر والشعور بالامتنان.

موقع عبد الرحمن الرنتيسي

كيف تستطيع أن تخفف من آلامك وقلقك وأنت تعطي مشوراتك النفسية لعملائك؟

دائما ما أرى أن على الإنسان أن ينظر للحياة نظرة عامة مطلقة وليست نظرة دنيوية فقط قاصرة بمعنى أنه ينبغى على كل عاقل أن يجمع دنياه وآخرته ويقارنها بدنيا غيره وآخرته، لأن حياة كل إنسان على وجه الأرض تشمل حمله فى بطن أمه وحياته على وجه الأرض وهو يعمرها وحياته فى البرزخ ثم البعث والنشور حتى ينتهى به المطاف إلى أن يحط رحاله فى جنات النعيم.

ما هي أكثر البلدان التى يتواصل مواطنيها معك للحصول على مشوراتك ونصائحك النفسية؟

يتواصل معى أناس من دول شتى، منهم الموظفون فى الوظائف الحكومية العامة ومنهم من يعملون فى القطاع الخاص، ومنهم مهندسون ومهندسات وكان أغلب من يطلب الاستشارات أو العلاج من دول عربية مثل السعودية ودولة الإمارات.

كيف هي معاناتك في ظل استمرار الحرب على القطاع؟

نحن فى غزة نعيش الويلات تلو الويلات حقيقة، وعن نفسى وعائلتى نزحنا بسبب الحرب الدائرة حتى الآن أكثر من سبع مرات.

الخيمة التى يعيش فيها الدكتور عبد الرحمن الرنتيسي

صف لى تجربة النزوح المتكررة داخل القطاع؟

النزوح من مكان إلى مكان أخر يشبه خروج الروح من الجسد، هو أمر صعب للغاية على أي إنسان.

كيف تحملت كل هذا النزوح مع عائلتك والسير لمسافات طويلة للغاية مشيا على الأقدام؟

تحملنا على مدار عام ونصف ما لا يتحمله بشر والإرهاق والتعب المصاحب لكل نزوح لا يمكن وصفه إلا كخروج الروح من الجسد هناك هرمون يسمى بهرمون الخوف من الأسد ويفرز فيه جسم الإنسان مادتى الأدرينالين والكورتيزون وهو هرمون الرعب والحمد لله على كل حال.

هل تؤثر هذه الويلات التي تعيشها في غزة على طبيعة مشوراتك النفسية للعملاء أم أنها تعطيك خبرة في توجيه النصائح؟

نحن بفضل من الله ثم للمعرفة والعلوم الانسانية التى تعلمناها كنا نستطيع تجاوز كل هذه المحن والصعوبات بالثبات ورباطة الجأش والصبر والاحتساب ولعلمنا أن ما اصابنا لم يكن ليخطانا، ولقدرتنا على إدارة أنفسنا من داخلنا، وهذه الحرب والحروب التي سبقتها في القطاع أعطنا خبرة كبيرة في كيف نعيش حياة سعيدة رغم هذا العدوان.

كيف ذلك؟

خلال الحروب السابقة وهذه الحرب كنا نتعاطى مع كل واقع تم فرضه علينا بإيجابية وسرور رغم شدة التعب، فكان السعى منا بكل جد واجتهاد لتوفير المسكن الذي تسمح به الظروف ونتكيف معه، ثم السعى فى إيجاد سبيل للطاقة الكهربائية بأى ثمن وكذلك الإنترنت مع شدة صعوبة الحصول عليهما وكان التوفيق من الله حليفا لنا لعلمنا ان الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا زلنا حتى الآن وانا أجرى معك هذا الحديث الشيق نعانى الأمرين فى كل شيء.

مجمع الخيم الذي يعيش فيها أسرة الدكتور عبد الرحمن الرنتيسي

ما أبرز ما يؤثر على عملك في غزة خلال تلك الفترة مع استمرار الحرب؟

عوامل كثيرة تؤثر على عملى على رأسها النقص الشديد في المياه والغذاء والطاقة والإنترنت، والأصعب من ذلك كله رؤية ما تسببه آلة الحرب من قتل وإزهاق للأنفس ودمار وصوت الانفجارات الذي اسمعه وأنا أتحدث معك الآن.

لكنك ذكرت أنه رغم ذلك تستطيع أن تبحث في روحك السعادة فكيف ذلك؟

رغم كل ما ذكرت أشعر ببعض السرور وأنا أحقق النجاح تلو النجاح فى إنجاز تلك المهام والقدرة على التغلب على المعوقات والتحديات، لأن إدارة الموارد مهما كانت شحيحة إدارة سليمة تمكنك من الاستمرار فى الحياة براحة وشغف، فيما لو كان الإنسان يمتلك كل شى ولكن بدون إدارة جيدة فلن يكون مسرورا ولا مستمرا.

هل تقدم استشارات نفسية لسكان غزة لتخطى هذه الحرب ونتائجها؟

ربما لمن يطلب ذلك  مع أنه نادرا ما يطلب أحد منا ذلك فى القطاع.

لماذا نادرا رغم ما يعانونه من أوضاع كارثية؟

الناس فى غزة بحسب هرم ماسلو يفتقرون إلى الأساسيات من الغذاء والماء، لكن رغم نفسيتهم المدمرة بسبب الفقد والنزوح لا يحتاجون لدعم نفسي لأن كل منهم مشغول إلى أبعد مما تتخيل بتوفير المسكن المتنقل وتوفير الاحتياجات الضرورية للغاية، فالإنسان يصلح بالضغط اليومى لتحصيل احتياجاته اليومية ويفسد ويصيبه القلق والاكتئاب كلما كان الفراغ يشغل وقته.

بحكم خبرتك في علم النفس.. ما أقصى أمنيات أهل غزة الآن؟

ربما تصيب البعض الدهشة من هذه الأوضاع والحرب، فالناس فى غزة يحلمون بالبقاء على قيد الحياة فمجرد بقاؤهم أحياء يجعلهم يشعرون بالامتنان الشديد والشعور بالامتنان هو أحد أقوى الأمور التى تجعل الإنسان سعيدا فما بالنا وهو ينجح فى توفير العيش لأبنائه وأهله وتوفير المياه اللازمة للغسل وللشرب بعد توفير مأوى لهم ينامون فيه ولو كان من قماش.

مجمع خيام غزة

ما أبرز ما استوقفك خلال تلك الحرب؟

زيادة أصحاب الأخلاق النبيلة نبلا فى أخلاقهم، وزيادة أصحاب الاخلاق السيئة والوضيعة سوءا ووضاعة وهذا إن دل فيدل على أن الانسان هو من يقود نفسه سواء بالنجاح أو الفشل.

ما هي أبرز مظاهر الأخلاق التى تراها داخل غزة في ظل استمرار الحرب؟

أبرزها التعفف عن طلب المعونات والمساعدات والاقتتال عليها، والعفة عن السرقات وعن ممتلكات الغير وقد أصبحت فى الشوارع، وكذلك مد يد العون من كل ميسور الحال لجيرانه ومعارفه وأصدقائه وذلك بمساعدتهم بكل ما يملك وهناك أيضا من التجار من فتح أبواب محلاته ومخازنه للناس حبا وكرما.

في المقابل ما هي أكثر الأخلاق السيئة التي شهدها عند البعض؟

على النقيض رأينا التجار المحتكرين ورأينا السارقين وغيرهم لذلك لا الحرب تؤثر فى الجميع نفس التأثير ولا الرفاهية كذلك.

هل استفد من تخصصك في التعامل مع ما تشهده يوميا من مجازر؟

بالطبع استفدت جدا واستفادت عائلتى، وكل من يعرفنى.

ما الذي تنصحه لأسرتك لتخطي تلك عقوبات الأوضاع الكارثية التي تعيشونها في غزة؟

نصائحى باستمرار بالرضا والتسليم لله فى أقداره، وأن الخوف والقلق والضجر سيسبب لنا الأمراض ويزيد الطين بلة، ومع قلة الدواء والأطباء لا أقل من الحديث النفسى الإيجابى للحد من الأمراض.

هل تلمس الخوف يوميا في قلوب اطفالك عندما يسمعون صوت القصف ويرون مشاهد الشهداء؟

نعم بالطبع.

كيف تسيطر على خوفهم؟

نعمل على التنفس العميق وتناول أنواع الأعشاب المهدئة، وإثارة الحديث الذى يصاحبه المرح والضحك وعدم نسيان شرب المياه بوفرة وإثارة الحديث عن الإيجابيات مهما كانت صغيرة قبل النوم ونعمل منها توكيدات إيجابية وزيادة الامتنان مما يسهل علينا النوم، وهذا فى حد ذاته علاج، وكنت أحرص على فعل ذلك فى أول أيام مع الحرب.

هل لم يعد أصوات الانفجارات تخيفكم مثل ما كان يحدث لكم مع بداية العدوان؟

الأن اعتدنا واعتاد الأطفال على صوت القصف ومشاهد القتل والمجازر اليومية، ولم تعد تؤثر فينا ولا فيهم كالسابق وهذا لا يمنع الخوف الفطرى اللحظى الطبيعى، بل للعلم أنه منذ أن أجريت معى هذه المقابلة أكثر من 30 صوتا شديدا لانفجارات.

رغم حديثك عن الخوف اليومي لك ولعائلتك إلا أنك تؤكد أنك مستمرا في الحصول على المعرفة فكيف تنجح في ذلك؟

غالب سكان غزة يعيشون قهرا وموتا حقيقيا ورعبا لا يقارن بأى رعب، ولكن أعلم جيدا أن السعيد من اسعفته المعرفة والعلوم ومن فقدها مات مئات المرات فى يومه، فالتوقف عن المعرفة أصعب من الموت لذلك دائما ما أسعى لها خلال عيشي في خيمتنا عبر الكتب التي معي وحال الحصول على الإنترنت لا اتوقف عن هذا.

هل تعرضت للفقد خلال تلك الحرب ؟

نعم.. فقدت أقارب وجيران  وبيتى وممتلكاتى.

ما هي رسالتك الأخيرة للعالم؟ 

رسالتى للإنسانية ولكل حر أن يزداد معرفة،  فبالمعرفة يحقق السلام الداخلى وأن يملأ قلبه رحمة لاخيه الإنسان، فنحن كبشر ينبغى أن نشجع بعضنا البعض على الرحمة والتسامح وإعادة الحقوق لأصحابها والتعايش بأمن وآمان وسلامة وسلام.