عرفات تكتسى باللون الأبيض.. دموع حجاجنا على جبل الرحمة وفرحة أسر الشهداء بالركن الأعظم.. ضيوف الرحمن يسطرون مشاهد روحانية بالمشاعر المقدسة.. الحج يجمع شمل الأسر وظهور الأطفال بملابس الإحرام.. صور


في مشهد مهيب تفيض منه الروحانيات وتختلط فيه الدموع بالدعاء، وقف مئات الآلاف من حجاج بيت الله الحرام على صعيد عرفات الطاهر، حيث اكتسى جبل الرحمة بثوب أبيض ناصع، صنعته جموع الحجاج الذين زحفوا منذ ساعات الصباح الأولى ليشهدوا الركن الأعظم من أركان الحج.
كان التكبير والتهليل يملأ الأرجاء، يتعالى من القلوب قبل أن يخرج من الحناجر، وأمام هذا المشهد الإيماني العميق، ظهرت ملامح إنسانية صافية لخصت معاني الطهر والخشوع، شيخ مسن غلبته دموعه، لم يتمالك نفسه فرحًا بأن الله أذن له بالوقوف على عرفات بعد سنوات من الانتظار، وفي مكان آخر، سيدة رفعت يديها إلى السماء دون انقطاع، تدعو لأبنائها وتبتهل لله بكل جوارحها، أما الأطفال الصغار، بملابس الإحرام البيضاء وملامح البراءة، فقد خطفوا القلوب قبل العيون، وهم يسيرون بين الحشود في سكينة وسلام.
عرفات هذا العام لم يكن فقط ساحة للعبادة، بل كان أيضًا ملتقى للأحباب، التقت فيه الأسر بعد طول فراق، واصطف الأزواج والأبناء والإخوة لتوثيق هذه اللحظات النادرة بالصورة والفيديو، يحملون معهم أمنيات مؤجلة، ودعوات لا تُقال إلا في تلك البقعة المباركة.
رغم ارتفاع درجات الحرارة، التي تجاوزت الأربعين مئوية، كانت السلطات السعودية على أهبة الاستعداد لضمان راحة الحجاج. انتشرت مراوح الرذاذ التي رطبت الأجواء، إلى جانب المظلات الواقية من الشمس، والمسارات المطاطية المخصصة لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، مما أسهم في تسهيل حركة الحجاج ومنع الإجهاد أو الإصابات.
كما تميز يوم عرفة هذا العام بحضور شبابي لافت، حيث امتلأت شوارع المشعر الطاهر بمجموعات من الشباب والصبية الذين وزعوا عبوات ماء زمزم والعصائر والمبردات، في صورة من أسمى صور التطوع والخدمة لزوار بيت الله.
في قلب عرفة، لا تَعرف الجنسيات حدودًا، ولا تفرق الألوان بين البشر. هناك، تتجلى أسمى معاني المساواة والتجرد، وتتكشف تفاصيل دقيقة من الإنسانية الخالصة التي لا تظهر إلا في هذا المقام، حيث شهد المشعر المقدس عددا من المشاهد الروحانية عاشها الحجاج وشهدتها العدسات والقلوب معًا.
رجل مسن تجاوز السبعين، جلس على طرف جبل الرحمة يبكي بصمت، حين اقترب منه أحدهم، قال: "انتظرت هذه اللحظة أربعين عامًا، واليوم أنا هنا.. فقط أريد أن يشهد الله أني أتيته بقلب منيب".
بين الجموع، طفل في التاسعة، يسير ممسكًا بيد والدته، لا ينطق، لكنه ينظر إلى السماء ويرفع يده مثلها تمامًا، سألها أحدهم، فأجابت بابتسامة ودمعة: "ابني لا يتكلم، لكنه يشعر بكل شيء.. جاء معي لأدعو له".
حاج يتكئ على عكازين، يصعد جبل الرحمة ببطء شديد، كل خطوة كانت صلاة، وكل دمعة كانت رجاء، وحين وصل القمة، قال فقط: "اللهم تقبل، فما بقي من الجسد إلا قلبك".
شاب عشريني سجد فوق تراب عرفة أكثر من خمس عشرة دقيقة، لم يتحرك، ولم يرفع رأسه، سأله من بجواره لاحقًا عن دعائه، فقال: "دعوت الله أن يرضى عني.. وما كنت أستطيع النهوض حتى أشعر أنه سمعني".
شاب سعودي في مقتبل العمر يوزع عبوات ماء زمزم على الحجاج، لا يتحدث كثيرًا، فقط يبتسم، كتب على قميصه "تقبل الله طاعتكم". كان كل من يأخذ الماء منه، يرد عليه بالدعاء كأنها صفقة بركة متبادلة.
أسرة مصرية اجتمعت على صعيد عرفات، الجد والابن والحفيد وابن الحفيد، جلسوا في دائرة، يدعون ويضحكون ويبكون، الجد قال: "هذه أعظم لحظة في حياتي، أن أرى ذريتي هنا، على هذا الصعيد، ساجدين لله".
سيدة مسنة، تجاوزت الستين، وقفت تحت الشمس الحارقة لأكثر من ثلاث ساعات، ترفع يديها ولا تنزلها، رفضت الجلوس رغم الإعياء، وقالت: "سأدعو حتى تغرب الشمس، فربما لا تتكرر هذه اللحظة في حياتي".
شاب يحتضن مصحفًا ممزق الغلاف، يقرأ فيه بتبتل. تبين لاحقًا أنه مصحف والدته المتوفاة، التي وعدها أن يقرأ به في عرفة. قال وهو يبكي: "أمي كانت تحب هذا الكتاب.. فأهديتها يوم عرفة كله".
طبيب يرافق الحجاج، يضع السماعة من يد، ويرفع الأخرى بالدعاء. قال: "أعالج الأجساد، لكني أعلم أن الشفاء هنا من السماء".
شاب يدفع والدته على كرسي متحرك، عبر كل مراحل الحج، حين وصل بها إلى عرفات، قبّل رأسها، وقال: "هذا أقل من حقك، يا من دعوت الله في جوف الليل لأكون كما أنا اليوم".
فتاة شابة ، تنقل المظلات والماء والوجبات للحجاج دون أن يعرف أحد اسمها، كل من يسألها، ترد فقط: "أنا في خدمة ضيوف الرحمن".
رجل من فلسطين التقى شقيقه المغترب في الحج بعد 17 عامًا من الغياب، تعانقا على صعيد عرفات، في مشهد لم تتمكن العدسات من احتوائه، فقد كانت الدموع أسرع من كل اللقطات.
رجل كان فقد ابنته الصغيرة في حادث قبل أعوام، جاء يحمل صورتها ويدعو لها على صعيد عرفات. قال: "منى لم تحج، فجئت أحج عنها.. وأدعو الله أن يجمعنا على خير".
ولم تغب المشاعر الوطنية عن المشهد، إذ شارك عدد من أسر الشهداء في أداء مناسك الحج هذا العام، في رحلة نظمتها وزارة الداخلية تكريمًا لهم. وقد أعربوا عن سعادتهم البالغة بإتمام الركن الأعظم، موجهين شكرهم للوزارة والإدارة العامة للعلاقات الإنسانية ورعاية أسر الشهداء، لما قدموه من تسهيلات استثنائية ومرافقة دائمة.
وبين الزحام والتهليل، وبين الدعاء والدموع، تشكلت لوحات إيمانية وإنسانية نادرة، لا يمكن أن تتكرر إلا في عرفات. تلك اللحظة التي تذوب فيها الفوارق، وتتوحد فيها الأرواح على اختلاف ألسنتها وألوانها، تحت راية واحدة عنوانها "لبيك اللهم لبيك".
مشهد عرفة لهذا العام لم يكن مجرد محطة في رحلة الحج، بل كان نقطة التقاء بين الأرض والسماء، ومسرحًا للمغفرة والرجاء، وموسمًا للرحمة التي تتنزل على القلوب قبل الأجساد، ومهما كثرت الصور ومقاطع الفيديو التي وثقت هذه اللحظات، فإن ما خفي في النفوس من خشوع وتبتل لا تصفه عدسة، ولا تحيط به كلمات.
أحد الحجاج يتوجه إلى عرفات
الحجاج يتوافدون إلى عرفات
يوم عرفة
الحج
الحجاج
الطريق إلى عرفات
جانب من الحجاج
Trending Plus