يوم عرفة لحظة استثنائية للارتقاء الإنساني

أ.د/ مها محمد عبد القادر
أ.د/ مها محمد عبد القادر
بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر

يُعد شهر ذي الحجة من أعظم الوقفات للوعي الروحي، حيث تتكثف فيه القيم التربوية والإنسانية والمعاني الإيمانية ويتجلى في هيئة شعائر وعبادات ترتقي بالإنسان نحو مراتب الصفاء الداخلي، وتدعوه إلى إعادة النظر في مساره الحياتي ضمن أفق توحيدي شامل وتصفو فيه الأرواح من شوائب المادة، وتتسع البصيرة لرؤية الوجود بمنظار القرب الإلهي، وتتبدي في خضم هذا الشهر المبارك المعاني التربوية بجلاء فيتلاقى الظاهر بالباطن في مشهد يربي النفس على التجرد من الأهواء، ويحفزها على العودة إلى فطرتها الأولى، تلك التي فطر الإنسان عليها فطرة التوحيد، والصدق، والصفاء فيرتقي الإنسان بممارساته العبادية من مجرد الامتثال إلى مقام الوعي والتجرد من الزيف.


ويُمثل الحج قمة الفعل التربوي بوصفه رحلة وجودية يعيد فيها الإنسان اكتشاف نفسه وعلاقته بخالقه، وبالناس، وبالكون فهو زمن الاصطفاء والاصطفاف، اصطفاء المكلف من بين سائر الخلق، واصطفاف القلب والعقل والروح في وجهة واحدة، نحو الله وفي هذا الاصطفاف، تتحقق قيم التجرد، والتسليم، الانضباط، والصبر، والتواضع، والعدالة، والمساواة، والوحدة؛ حيث يُدعى الإنسان إلى التخلي عن مركزية الذات، والانخراط في نسيج روحي وجمعي، ويشهد فيه التوحيد تجلياته العملية في حياة الفرد والمجتمع؛ فيعيد تشكيل الوعي من الداخل حيث تسقط الفوارق الاجتماعية، ويقف الجميع على اختلاف أعراقهم وألسنتهم في مشهد مساواة مطلق، ويربي في النفس قيم التواضع والتجرد من الزيف والتسامي فوق الاعتبارات الأرضية وإعلاء قيم الإنسانية، فشعائر الحج تنقل الفرد من عالم الجزئيات إلى الكليات بداية من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات كلها أفعال تعيد تشكيل إدراك الإنسان لمسيرته وتنمي فيه الانتماء إلى منظومة قيمية رحبة.


وتُعد الأيام العشر الأولى من ذي الحجة فرصة تربوية فريدة، إذ اختصها الله بفضائل عظيمة لا تماثلها أيام أخرى فهي مواسم تربوية لتجديد النية وتنمية الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الذات والعالم، حيث تتناغم العبادات في نسق تكاملي يجمع أركان الإسلام في وحدة سلوكية ومعنوية بداية من الشهادة التي تتجلى في تجديد العهد مع التوحيد، إلى الصلاة التي تنظم وتصفي الوجدان، إلى الصيام الذي يعلم التزكية إلى الصدقة التي تعمق مفهوم العدالة الاجتماعية، إلى الحج الذي يُجسد ذروة الإخلاص والتجرد والانتماء الكوني فكل لحظة في هذه الأيام تشكل فرصة وجودية لإعادة بناء الذات، واستنهاض الروح، وتجديد العهد مع القيم العليا التي تشكل مرجعية الوعي الأخلاقي والديني إنها منظومة سلوكية تُربي في الإنسان نزعة السمو، وتكسر دائرة الاستغراق.


ويتفرد يوم عرفة بكونه يومًا تتجلى فيه الأبعاد التربوية والروحية على نحو بالغ، فهو يوم التربية على الذكر، والخشوع، والتوبة، والتجرد، والتأمل في المصير والتطهر الوجداني في ضوء العفو الإلهي والعتق من النار لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)، ويُباهي الله تعالى ملائكته بعباده الواقفين بعرفات، فيسألهم  وهو العليم الحكيم  ما أراد هؤلاء، وكأنما يُشهد الملأ الأعلى على مقام هؤلاء الواقفين بين يديه، الذين توافدوا من كل فجٍ عميق شعثًا غبرًا، يجأرون بالتوحيد، ويجددون العهد، متجردين من زينة الدنيا، متوسلين بالذل والانكسار، رافعين التوحيد شعارًا، والتوبة زادًا، والتسليم طريقًا في مشهد يفيض بهاءً وإجلالا.

 

وتكمن العبرة بوقفة عرفات في ذوبان التمايز البشري وانتفاء الامتيازات وتجسد المساواة بوقوف الناس على صعيد واحد، لا يحملون سوى زاد التواضع وأثقال ما اقترفوه من خطايا؛ ليقفوا أمام الله في حالة خضوع تام وافتقار صادق وتوجه خالص في مشهد يُعيد للوعي الإنساني اعتباره الحقيقي، وقد يبلغ الإنسان منازل القرب وهو بعيد جسديًا، إن توفرت فيه شروط القرب من صفاء النية وخشوع القلب وصدق التوبة ، فصيام يوم عرفة لغير الحاج يصبح شعيرة ومقامًا من مقامات الرجاء، يكفر عامًا مضى وعامًا آتٍ، ويعيد كتابة الإنسان لتاريخه الروحي بنية التوبة والانعتاق وتتداخل في هذا المشهد أصوات الدعاء، ودموع التوبة، وخشوع السجود، فتعيد بناء الإنسان وتجدد وعيه وتصيغ علاقته بالقيم ضمن إطار أخلاقي موحد يعيد للإنسانية ملامحها الأصيلة.

 

ويرتبط شهر ذي الحجة بممارسة شعيرة الأضحية، وهي ذبح للبُدن، فهي فعل عميق يربي النفس على مفاهيم جوهرية كالتضحية، والإنفاق، والتسليم، وكسر الأنانية، وتجاوز الذات كما تُعلم الإنسان أن القرب إلى الله لا يكون إلا بترك التعلق بالأشياء وبذل النفيس والتسامي فوق نوازع الامتلاك والتملك، وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع ابنه سيدنا إسماعيل عليه السلام تتجلى قمة التسليم والثقة، فلقد بلغ الامتحان ذروته في مطالبة الأب بذبح ابنه، ولكن الإيمان العميق جعلهما يرتقيان فوق المعقول والمألوف، ويخضعان لإرادة الله طواعية، مما يعكس تربية إيمانية عميقو رفيعة المستوى تسندها القيم ويقودها اليقين.


ولا تنحصر شعائر ذي الحجة في بعدها الفردي، ولكن تحمل رسائل اجتماعية وأخلاقية بالغة العمق فالتكافل، والمشاركة، والشعور بالآخر، كلها تتجسد في توزيع الأضاحي، وصلة الأرحام، والإحساس بالمسؤولية الجماعية في بناء مجتمع تسوده الرحمة والعدالة فهي تربية على تجاوز الفردية، والانخراط في مشروع أخلاقي جماعي، قوامه البذل، والإيثار، والتعاون، ومن هذا المنطلق تصبح الأيام العشر ويوم عرفة وشعيرة الأضحية، لحظات تفيض بالتربية المتكاملة تربية روحية وسلوكية تقوم على الخشوع والتوبة، تنشد الإصلاح الذاتي وتنمية السلوك القويم، وتربية اجتماعية تتجسد في المشاركة والتكافل، وتربية فكرية تتعمق في استيعاب مقاصد الشعائر وغاياتها.


ونُؤكد أن شهر ذي الحجة دعوة كونية لإعادة تشكيل الإنسان على قيم النقاء والسمو، والمراجعة العميقة لمضامين الوجود، فيُعيد الإنسان اكتشاف ذاته في ضوء النور الإلهي، ويسعى نحو حياة أشمل يتوازن فيها الباطن مع الظاهر والأقوال مع الأفعال، في ظل عصر تُطوقه الماديات وتستهلكه السرعة، هنا يؤسس ذي الحجة بمضامينه التربوية والروحية لنموذج وجودي متكامل وممارسة روحية وعقلية، تهذب السلوك وتصفي النية وتنمي البصيرة فكل ما يمثله من رمزية ومعانٍ يشكل منطلقًا لتربية الإنسان على القيم الجمعية، والانفتاح على المجتمع الإنساني الجامع، تجاوزًا للحدود الجغرافية والطبقية وعودة إلى الإنسان كما أراده الله تعالي عبدًا حرًا، ساميًا، صادقًا، متصلًا بخالقه، ومتفاعلًا مع مجتمعه في مشهد تتمحور فيه القلوب حول نداء واحد، يختصر جوهر الوجود الإنساني (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فتتوحد الأرواح في مقصدها وتعلن ولاءها المطلق لله الواحد القهار.

_______

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

قانون الإيجار القديم يحدد نسبة زيادة الأجرة للمحال التجارية.. التفاصيل

مانشستر سيتي يتسلح بـ عمر مرموش في معركة استعادة عرش الدوري الإنجليزي

الطقس اليوم.. انكسار الموجة شديدة الحرارة على أغلب الأنحاء والعظمى بالقاهرة 36

ترامب: أمنح لقائي مع بوتين في ألاسكا تقييم 10 على 10

1500 فرصة عمل كأفراد أمن بمرتبات تصل لـ9000 جنيه.. اعرف التفاصيل


تفاصيل جلسة محمد يوسف مع أحمد عبد القادر في الأهلي

دفاع إحدى ضحايا حادث طريق الواحات: شقيق أحد المتهمين عرض الصلح

الفخامة والسرعة.. مواعيد قطار تالجو على خطوط السكة الحديد السبت 16-8-2025

قانون الضريبة على العقارات المبنية يحدد ضوابط تقدير القيمة الإيجارية

وزارة التعليم: يحق للطالب عدم دخول امتحان الثانوية دور ثان ويبقى للإعادة


محمد صلاح يبكي بعد هتافات جماهير ليفربول لـ دييجو جوتا (فيديو)

الإصابات تضرب صفوف سيراميكا قبل مواجهة إنبى فى الدورى

باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. بيان مصرى وعربى ودولى مشترك يؤكد: إسرائيل الكبرى تشكل تهديدا للأمن القومى العربى.. وبدء أعمال قمة ترامب وبوتين بألاسكا تحت شعار "السعى نحو السلام"

عبيدة عروسة فى حفل زفاف أسطورى بكليب "ضحكتك بالدنيا" بتوقيع بتول عرفة

محمد صلاح يسجل فى فوز ليفربول الصعب على بورنموث 4 - 2 بالدوري الإنجليزي

حبس المتهم بسرقة هاتف بالإكراه من شاب أمام مستشفى الزيتون

خسارة يد الأهلي أمام فيزبريم فى بطولة كأس الأبطال الدولية

شهاب يختتم حفله فى العلمين بأغنية "التتار" ويوجه الشكر لـ "تذكرتي".. صور

الأهلي يصعق فاركو برباعية في الدوري ويحقق انتصاره الأول مع ريبيرو.. صور

زيزو يسجل أول أهدافه مع الأهلي فى شباك فاركو بالدقيقة 21.. صور

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى