الحجاج المتعجلون يودّعون منى بالدموع وصور الرفاق تخلّد لحظات الرحيل.. تبادل أرقام الهواتف المحمولة وخطابات محبة بين الأصدقاء.. دعوات بالعودة لمدينة الخيام مجددا.. وخطوات نحو الكعبة لطواف الإفاضة

في مشهد تختلط فيه الدموع بالامتنان، والفرح بالحنين، ودّع الحجاج المتعجلون مشعر منى بعد أن أكملوا رمي الجمرات في ثاني أيام التشريق، لتبدأ لحظات الرحيل عن أحد أكثر المحطات الروحانية تأثيرًا في نفوس ضيوف الرحمن.
طوت مخيمات منى البيضاء صفحات أيامٍ عظيمة عاشها الحجاج بين دعاء وتكبير وذكر، خطوا فيها ذكريات لا تُنسى، حملت في طياتها مشاعر الأخوة والتآلف والتقرب من الله.
فمع اكتمال رمي الجمرات الثلاث، بدأ المتعجلون الاستعداد لمغادرة مشعر منى قبل غروب الشمس، امتثالًا لقوله تعالى "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى"، وكانت لحظات الوداع التي أعقبت ذلك استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
لم تكن مجرد مغادرة مكان، بل فراق لمشاعر وتجارب ونفحات لا تُكرّر إلا لمن كتب الله له الحج مرة أخرى.
وفي ساعات ما بعد الظهر، بدأت حركة الحجاج تأخذ طابع الوداع، فتناقلوا الأمتعة ونظموا حقائبهم، وتبادلوا النظرات والابتسامات مع من رافقوهم في تلك الأيام المباركة، وكأن كل حاج يحاول أن يختزن اللحظة في ذاكرته قبل الرحيل.
بعضهم كان يوثّق الوداع بصور سريعة بهاتفه المحمول، وآخرون تبادلوا أرقام الهواتف وحسابات التواصل، بينما علت أصوات الدعاء بأن يجمعهم الله مرة أخرى في مواسم قادمة من الحج.
على الأرض المفروشة بالخيام البيضاء، التي تحولت خلال أيام التشريق إلى واحة للسكينة والتأمل، وقف الحجاج للحظة يتأملون المكان الذي احتضن دعواتهم وسكناتهم ودموعهم، ثم مشوا نحو المخارج بخطوات ثقيلة وكأنهم يغادرون قطعة من قلوبهم، فمنى لم تكن بالنسبة لهم مجرد مشعر من مشاعر الحج، بل كانت تجربة روحية كاملة، امتزج فيها الإيمان بالتجرد، والصبر بالمحبة، والنسك بالأخوة الصادقة.
وقال حاج وهو يهم بالمغادرة إن الوداع كان صعبًا على قلبه، خاصة بعدما كوّن صداقات جديدة مع حجاج من بلدان مختلفة جمعتهم ظروف واحدة وأحاديث مطولة في خيام منى.
وأضاف أنه شعر بأن الروح قد تنقّت من هموم الدنيا في هذه الأيام التي قضاها في عبادة متواصلة وسط أجواء إيمانية لا تُضاهى.
أما حاجة، فقد أعربت عن حزنها لمغادرة منى، مؤكدة أنها شعرت بأن كل لحظة عاشتها هناك كانت مليئة بالسكينة والطمأنينة.
وقالت إن أكثر ما أثر فيها هو مشهد النساء من مختلف الجنسيات وهن يشاركن الطعام والدعاء والأحاديث الصادقة داخل الخيام، مشيرة إلى أنها تبادلت أرقام الهاتف مع بعضهن على أمل أن يبقين على تواصل وأن يجتمعن يومًا في رحلة أخرى للحج أو العمرة.
وبدأت قوافل الحجاج المتعجلين بالتوجه نحو المسجد الحرام لاستكمال طواف الوداع، وهو آخر مناسك الحج.
وكان الهدوء والسكينة يغلبان على الوجوه، بينما العين ترمق خيام منى للمرة الأخيرة، وكأنها تحاول أن تلتقط كل التفاصيل في الذاكرة لتبقى خالدة بعد العودة إلى الوطن.
لحظات الوداع في منى لم تكن فقط مشهدًا إنسانيًا عابرًا، بل كانت تعبيرًا صادقًا عن عمق الأثر الذي تتركه رحلة الحج في نفوس الحجاج، فمن خلال أيام معدودات، عاشوا فيها روح الجماعة، وتجردوا من مظاهر الدنيا، وانشغلوا بذكر الله ومناجاته، تشكّلت روابط إنسانية وعاطفية بينهم وبين المكان، وبينهم وبين من شاركوهم هذه الرحلة المباركة.
وقد أثنى الحجاج على التنظيم الدقيق الذي ساعدهم على أداء المناسك بيسر، مؤكدين أن الانضباط والجهود الخدمية والأمنية التي شهدوها أسهمت في جعل التجربة سلسة وآمنة ومريحة. كما عبّروا عن امتنانهم للرعاية الصحية والتوعية المستمرة والخدمات اللوجستية التي جعلت من هذه الرحلة ذكرى إيمانية خالدة في قلوبهم.
وبينما تحرّكت آخر قوافل المتعجلين نحو مكة، ارتفعت الدعوات الصادقة بأن يُكتب لهم الحج مرة أخرى، وأن يعودوا إلى هذه الأماكن الطاهرة وقد تقبّل الله منهم، وغفر لهم، ورفع عنهم كل ذنب ووزر. فالحج ليس فقط عبادة، بل حياة جديدة تبدأ من هنا، وذكرى تبدأ في منى ولا تنتهي في القلب.
Trending Plus