جمال عبد الناصر يكتب: الريحاني.. فيلسوف الضحكة ومرآة الوجدان المصري

الفنان الكبير الراحل نجيب الريحاني
الفنان الكبير الراحل نجيب الريحاني
كتب : جمال عبد الناصر

في الثامن من يونيو، تحل ذكرى ميلاد فنان استثنائي، حفر اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ المسرح والسينما المصرية والعربية؛ إنه الفنان الكبير الراحل نجيب الريحاني. لم يكن الريحاني مجرد ممثل كوميدي، بل كان فيلسوفًا للضحكة، وعبقريًا في تجسيد تناقضات الواقع الإنساني بأسلوبه الفريد الذي مزج بين الفكاهة الساخرة والعمق التراجيدي، ليترك إرثًا فنيًا لا يزال مصدر إلهام لأجيال متعاقبة.

وُلد نجيب إلياس ريحانة في 8 يونيو 1889، وبدأ مسيرته الفنية في فترة مبكرة من القرن العشرين، متأثرًا بالمسرح الأوروبي. في البداية، اتجه إلى الكوميديا الرومانسية الخفيفة، لكنه سرعان ما أدرك أن المسرح الحقيقي يجب أن يكون مرآة للمجتمع الذي ينبض فيه، وبالتعاون مع الكاتب بديع خيري، شكّل الريحاني ثنائيًا ذهبيًا وضع أسس الكوميديا المصرية الأصيلة، تلك التي نبعت من صميم الشارع المصري، ولامست هموم البسطاء وتطلعاتهم.

كانت فرقته المسرحية "فرقة نجيب الريحاني" بمثابة جامعة للفنانين، قدمت عشرات المسرحيات التي اتسمت بالنقد الاجتماعي اللاذع المغلف بالفكاهة، ولم يخش الريحاني تناول القضايا الشائكة، فكان يصور الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ويكشف زيف المجتمع، ويناقش قضايا الفساد والنفاق والتفاوت الطبقي بذكاء يفوق الكوميديا العادية.

تكمن عبقرية الريحاني في قدرته الفائقة على المزج بين الكوميديا والتراجيديا، فلم يقدم ضحكة مجردة، بل ضحكة تحمل في طياتها مرارة الواقع وأحيانًا الدموع.، وكان يُجيد تجسيد الشخصيات المركبة التي تبدو ساذجة أو مضحكة ظاهريًا، لكنها تخفي خلفها عمقًا إنسانيًا وصراعًا داخليًا.

نجيب الريحاني وجمال عبد الناصر
نجيب الريحاني وجمال عبد الناصر

في المسرح، برع الريحاني في بناء "كوميديا الشخصية" التي تعتمد على سمات البطل ودوافعه الإنسانية المعقدة، و"كوميديا المواقف" التي تنبع من التفاعلات الساخرة بين الشخصيات والأحداث المتضاربة، وكان أداؤه المسرحي يتميز بالديناميكية، وحضور قوي على خشبة المسرح، وقدرة على الارتجال المُنضبط الذي يُثري العرض، وعلى الرغم من إطارها الكوميدي، فإن مسرحياته مثل "حكم قراقوش" و"الدنيا لما تضحك " ، " العشرة الطيبة " كانت تحمل رسائل عميقة حول الظلم الاجتماعي والفساد، وكان الريحاني يجسد الضحية والساخر في آن واحد.
انتقل الريحاني إلى السينما في مرحلة متأخرة نسبيًا من حياته، لكنه نجح في التكيف مع متطلبات الشاشة الكبيرة. حافظ على نبرته الصوتية المميزة وإيماءاته الكوميدية، مع تخفيف المبالغة المسرحية بما يتناسب مع الكاميرا، قدم الريحاني أعمالًا سينمائية تُعد أيقونات في تاريخ السينما المصرية، مثل "سلامة في خير" (1937)، "لعبة الست" (1946)، "أبو حلموس" (1947)، و"غزل البنات" (1949) الذي يُعتبر تحفة سينمائية اختتم بها حياته الفنية. في هذه الأفلام، أظهر قدرة على تجسيد أدوار مختلفة، من البسيط الساذج إلى الرجل الذي يواجه مصيرًا قاسيًا بابتسامة مريرة.

من أبرز الشخصيات التي أبدعها الريحاني وخلدتها الذاكرة الفنية هي شخصية "كشكش بك". هذا العمدة الريفي البسيط الذي يأتي إلى المدينة ليواجه تعقيداتها بذكاء فطري ساذج أحيانًا، كان رمزًا للبساطة المصرية في مواجهة الحداثة الزائفة. أظهر الريحاني في هذه الشخصية قدرة على تجسيد التناقضات بين الريف والمدينة، وبين الفطرة والاصطناع. كما اشتهر بشخصيات أخرى مثل "الأستاذ حمام" في "غزل البنات"، والتي كانت تمثل في معظمها الرجل البسيط المكافح الذي يحاول التكيف مع ظروف الحياة الصعبة، أو الرجل المثقف الذي يعيش صراعًا مع واقعه، ويجسد في هذه الشخصيات بمهارة فائقة مزيجًا من الضعف والقوة، واليأس والأمل.

رحل نجيب الريحاني في 8 يونيو 1949، بعد أن أثرى الفن المصري بإرث لا يزال حيًا ومؤثرًا. لم يكن ممثلاً فقط، بل كان كاتبًا ومخرجًا ومؤسسًا لمدرسة فنية فريدة. أعماله، سواء المسرحية أو السينمائية، لا تزال تُعرض وتُشاهد، وتُلقي بظلالها على الكوميديا المعاصرة، مؤكدة أن عبقريته الفنية تخطت حاجز الزمن. في ذكرى ميلاده، نتذكر فنانًا جعل الضحكة وسيلة للتأمل في الحياة، ومرآة تعكس أصدق مشاعر الإنسان.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

هيئة حقوقية فلسطينية تستنكر تهديدات الاحتلال بمنع وصول سفينة لكسر الحصار إلى غزة

رئيس وزراء المجر: عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا تضر بالمجر

الأهلى يتوجه إلى ملعب chase لمواجهة باتشوكا استعدادا لكأس العالم للأندية

البرتغال ضد إسبانيا.. لامين يامال يصل ملعب المباراة بالمزيكا والرقص "فيديو"

الرئيس السيسى يصدق على تعديلات قانونى مجلسى النواب والشيوخ وتقسيم الدوائر.. خطوة مهمة لتطوير العملية الانتخابية وضمان تكافؤ الفرص بين المرشحين بالقوائم والفردى.. وتعكس حرص الدولة على تعزيز المشاركة السياسية


إسرائيل تعلن رسميًا انتشال جثمان محمد السنوار في غزة.. فيديو

قيادية بحزب المؤتمر الهندي: نساء كشمير يتمتعن بصمود استثنائي رغم المعاناة

خالد عيش: خروج مصر من قائمة ملاحظات العمل الدولية للعام الرابع يعكس الالتزام بالمعايير الدولية

خاص لليوم السابع.. مانشستر سيتي يحسم 3 صفقات رسميًا

12 لاعباً لن تراهم مع الأهلي أمام باتشوكا الليلة.. أبرزهم وسام أبو علي


صراع الوكلاء يغير وجهة الجزائري زين الدين بلعيد للوكرة القطري بدلا من الزمالك

القناة الناقلة لمباراة الأهلي وباتشوكا المكسيكي

لجنة استرداد أراضى الدولة تسترد 42 ألف فدان و1.1 مليون متر مربع

الحجاج المتعجلون يودّعون منى بالدموع وصور الرفاق تخلّد لحظات الرحيل.. تبادل أرقام الهواتف المحمولة وخطابات محبة بين الأصدقاء.. دعوات بالعودة لمدينة الخيام مجددا.. وخطوات نحو الكعبة لطواف الإفاضة

أنقذ العاشر من رمضان من كارثة محققة.. لحظة تضحية سائق شاحنة البنزين بحياته

مصر توافق على تعديلات اتفاقية العمل البحري 2006 فى مؤتمر العمل الدولي بجنيف

طقس الإثنين 9 يونيو 2025 شديد الحرارة والعظمى بالقاهرة 36 وأسوان 42درجة

بعد إجازة العيد.. المحكمة تحدد مصير المتهمين فى حادث انفجار خط غاز أكتوبر

انفراد.. الكشف عن مدينة تعود للدولة الوسطى فى منطقة الكرنك بالأقصر.. صور

البرلمان يرسم طريق العلم والتنمية: توصيات للحكومة بإصلاحات شاملة وتكامل البحث العلمى مع الصناعة.. وربط الدعم النقدى بالالتحاق المدرسى لمكافحة التسرب من التعليم

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى