خالد دومة يكتب: العبث المقدس 8

كان جسدي حبل مشنقتي, وعندما أكتملت أنوثتي في عيونهم, وأستوفت حقها من الجمال والفتنة, وكان وقع قدميها يُلهب رغائبهم ونوازعهم, ويُثير فيهم جوع أجسادهم, كان الكل يتطلع إلي, يرمقني بنظرة فاجرة, كلها شبق تملأ عينيه وجسده فورة من الشهوة المتدفقة, وتكالبت علي الأيدي والألسن, لتنتزعني من أحلامي التي أمتزجت بروحي, تململت على فراشي ليالي كنت أظنها لن تنتهي, ولا أمل في طلوع الشمس مرة أخرى, ورغم طلوعها, إلا أن حياتي أظلمت, ولم تشرق في داخلي من جديد, ماتت شمس حياتي وأنطفأت روحي, وتسألت فيما بيني وبين نفسي, ما الذي جعلني أشذ عنهم؟ أفكر وأناقش وأحاول أن أكون أنا، يكون لي عقل يرى، وهل أصبت في محاولتي؟ هل فلحت؟ كانت النتيجة الخزلان، الطريق الذي سرت فيه, والذي ألقى بي في بئر جُب عميق، حاولت العصيان فاتفقوا على زجي، وعانيت ظلمات الوحدة والوحشة، أستغثت بهم, ولم يأبهوا بصرخاتي، ويئست وملت على الرغم مني, طواعية لإرادتهم، خرجت بغير القلب الذي ألقوني به، خرجت محطمة الفؤاد, لا أرى أمامي سوى أشباح آدمية.
كان كل شيء مهيأ لاغتيالي, بعد أن أجمع الكل على زواجي, فليس للفتاة كما يقولون سوى الزواج, وطاعة الزوج وتربية الأولاد, والدواجن فوق الأسطح, وحلب البهائم, وإعداد الطعام, والخبيز, وغسل المواعين, وتدليك قدم الزوج في المساء, وأحاديث النميمة بعد العشاء أمام البيوت وعلى المصاطب, والشجار مع السلايف طول النهار, كل شيء معد, لا مفر منه, أسودت الدنيا في وجهي, وعلت صرخاتي وبكائي ونحيبي, كنت استغيث بهم, أرفع يدي, أتوسل إليهم, بأن يرحموا بكارتي وطفولتي وسني الصغير, كنت أبكي فلم يعيروا لبكائي إهتماماً, لم يشعر أحد بما أشعر به, لم يلتفت أحد لتوسلاتي, كانت فوؤسهم تحمل تراب أيديهم الآثمة لتقع فوق رأسي, وتخمد أنفاسي, وتكتم صرخاتي, ووأدوني حية, ولم تجدي مقاومتي في شيء, وتكالبوا علي, ودفنوني في غبطة, حتى أمي لم تشفق علي, ولم تُرد أن تقف معي ضد هذا الطوفان, الذي يكتسح حياتي, ويطمس معالم وجودي, فشلت في صدهم, فقد كان التيار قوياً جارفاً, ولم أقوى, فقد كنت مجرد فتاة صغيرة السن, بلا تجارب ولا دراية, وأصبحت بين أيديهم نعجة مهيأة للذبح, لأن تكون ضحية أوهامهم وأعرافهم. أن يفكر الإنسان ضارباً بالعادة عرض الحائط, ذلك هو الموت المحتم, أو العيش على هامش الحياة, أن ترضى بأشياء لا ضرورة لها, سوى أننا توارثناها وألفناها, فهذا شيء ثقيل على النفس الأبية, هم يغتالون فينا الفكر الحر واللسان الصريح, أول شيء يقومون به وبلا وعي.
أتذكر عندما كنت في العاشرة من عمري, كنت منكفأة على حل وجباتي, جائتني أمي ومعها بعض الجارات, وملامحهن تحمل الغدر, ولا أدري لماذا رأيت ذلك في وجههن, اقتحموا الحجرة وبلا أي تمهيد ولا مقدمات, أمسكت كل واحدة منهن بذراعي, وأخريات من قدمي, وفرقوا بينهما, وعلامات الرهبة والخوف تكتسحني, ولكن أمي معهم, فإن أرادوا بي سوء, مزقتهم أمي, فما معنى هذا؟ أترضى أمي بما يفعلون, كانت مني صرخة لم يُسمع لها صدى, وكأني في تيه أو صحراء, وأنهالوا على جزء مني بتروه, تناثر الدم, وشوهوا ما استطاعوا, وكان بداية تاريخ هوان أنوثتي على أيديهم. وسألت أمي لماذا؟ لم تجبني, وابتسمت, ولم أفهم معنى ابتسامتها إلا بعد سنوات.
كانت حرباً أشعلوا أوارها في وجهي, وطالت جسدي وروحي, وكانت النتيجة أنهم أحرقوني بها, ونفذوا ما أعتزموا عليه, أهكذا أضيع؟ ويضيع كل شيء ما بين يوم وليلة, كل أحلامي تتبدد, تتناثر كالهواء, لا استطيع أن أصدق ما أرى وما أسمع, أعدوا مقصلتي وجروني إليها جراً ليعدموني, ماذا فعلت لهم؟ لم أؤذيهم, أنهم يريدون أن يرغموني على حياتهم, التي أردت الفرار منها, أردت لنفسي حياة نظيفة, هواء نظيف, عقل يمارس وظيفته, حياتنا كلها تدور في دوامة الأعراف, حيث لا فكر لهم, ولهم عقول لا فائدة منها, ولا خير فيها, أجسادهم صماء, لا هم لهم سوى إشباع نهمهم, جوع المعى وجوع الجوارح, فخلف كل وجه مئات الوجوة البشعة, وخلف إبتسامتهم السمجة, وضحكاتهم المريضة, قلوب تصلى ناراً حامية, مما تحمل من أحقاد وضغينة.
لو كان أبي حي, ما أجبرني أحد على شيء لا أرغب فيه, ذهبت إلى قبر أبي أستجديه, أبكي عنده, أشكو إليه ما أصابني بعد موته, ها أنت يا أبي راقد, مسجى بين التراب, أتتركني بين فكي الذئاب, ينهشوني ويأكلوني, قم يا أبي تعالى معي, إني لا أستطيع أن أستسلم لهدمي, أحتضنت قبر أبي, تعلق نحيبي بتراب القبر, وبكيت بكاءً كاد أن يفتت عظامي ويفتك بكبدي, جلست ساعة تنهمر دموعي فيضاً يحرق قلبي, آهات وشكوى, وأبي لا يرد لا يجيب, لماذا لم يهتز قبر أبي, لا يخرج من قبره واقفا أمامي, أبي الذي كان لاينام إذا بكيت, أصرخ الآن فلا يجيب, فإذا بيد فوق رأسي, فزعت.. كان شيخاً وقوراً من مقريء المقابر, فلما نظرت في عينيه, وجدت دمعة تكاد تخنقه, أخذ بيدي وأخرجني من المقابر, وهو يهديء من روعي وخوفي, ويكفكف عني بكلماته, لماذا تعذبين نفسك يا ابنتي, اذ كانت المقادير ترسم لنا خطنا, ألا تستطيعن أن تكوني راضية, فتنالي رضا الله. أويرضى الله بالظلم يا مولانا؟ ..
إن الله لايرضى ظلما للعباد, ولكن هناك ابتلاءات, لابد أن نرضى ونتحمل, حتى ننال الرضى والأجر, فحولي سبب غضبك إلى رضا, اتجه إلى الله, لعل الخير كل الخير فيما ترفضين الأن, عودي إلى بيتك, وقبلي يد أمك, وتأملي سعادتك لعل الأمور تأخذ مجرى أخر, فما بين يوم وليلة, تتغير قلوب وأحوال, فلا تجعلي من نفسك فريسة لليأس والقنوط, كوني قوية, فأني أرى في عينيك رغم دموعها أرى فيهما قوة, وورائهما إرادة, فعززي كل هذا بالإقبال على الله, وخصوصاً عند الملمات والنوائب, وإن لم تسعفكِ قوتكِ وإرادتك في مثل هذه الظروف, فمتى إذن؟ وعدت إلى البيت بعد أن تركت كلمات الشيخ في نفسي أثراً في تهدأتي, نمت هذه الليلة, بعد كان نومي متقطعا تلتهمه الكوابيس, استيقظت وأنا موقنة أنه لا حيلة لي في الأمر, حتى ولو كان أخص خصوصياتنا, استسلمت وأذعنت لأمي وأخوتي, أو قل يئست.

Trending Plus