حسين عبد البصير يكتب.. وهكذا أنهى الله حديثه.. تنويعات على وتر الإنسان والكون

صدر مؤخرًا الإصدار السادس للكاتب المصري كريم محمد الجمال، وهو المجموعة القصصية الثانية له تحت عنوان "وهكذا أنهى الله حديثه"، بعد مجموعته الأولى "عين الوردة" التي نالت اهتمامًا نقديًا خاصًا عند صدورها، أما الإصدار الجديد، فقد جاء أكثر جرأة وتنوعًا، وأشد عمقًا من الناحية الفلسفية والسردية، مقدمًا باقة قصصية تتمحور حول أسئلة الإنسان الكبرى، من الوجود والمصير، إلى العقيدة والمعنى.
عنوان المجموعة.. استفزاز جمالي وفكرى
يحمل عنوان المجموعة "وهكذا أنهى الله حديثه" طابعًا استفزازيًا، يوقظ القارئ من سكونه، ويدعوه للتأمل والمساءلة، إن هذا العنوان بمثابة مفتاح تأويلي للمجموعة كلها، حيث تتقاطع التيمات الكبرى: الله، والإنسان، والكون، والموت، إنه يشير إلى خطاب ينتمى لعالم متعالٍ، لكنه يُروى من داخل التجربة البشرية، وبذلك، فهو يُحمّل القصص طابعًا فانتازيًا – غرائبيًا، ولكنه فانتازيا محملة بأسئلة وجودية لا تهادن.
القصة الافتتاحية.. عندما تتحول الميتافيزيقا إلى سرد
القصة التي حملت عنوان المجموعة تنقلنا إلى فضاء غرائبي بين السماء والأرض، في مشهد يتداخل فيه السرد الصوفي بالمفاهيم السيكولوجية والميثولوجية واللاهوتية، تتخذ القصة هيئة رحلة فلسفية.
هذه القصة، بما تحمله من رموز وأبعاد، تعيدنا إلى سؤال الإنسان الأول: لماذا نحن هنا؟ لكنها تفعل ذلك بطريقة سردية جذابة، لا تقع في فخ التنظير الفلسفي، بل تصوغ تساؤلاتها من داخل التجربة الإنسانية، وتجعل القارئ شريكًا لا متلقيًا فقط.
أدب المقاومة.. صياد اليمام وكرامة الأرض
ينتقل الكاتب من الميتافيزيقا إلى الجغرافيا، ومن أسئلة السماء إلى شراسة الأرض، من خلال قصة "صياد اليمام"، التى تتناول سيرة قائد فى المقاومة الفلسطينية داخل غزة، القصة تقدم بورتريهًا إنسانيًا لبطل غير نمطى، يجمع بين رقة الحس الوطنى وصلابة الموقف.
توظف القصة لغة مشحونة بالمقاومة والمأساة، لكنها لا تقع في التقريرية، بل تمزج بين الأمل والانكسار، وتعبر عن حلم جمعي بعيون فردية، مما يجعل المقاومة فعلًا جماليًا لا شعاريًا.
قصة الطارق.. التاريخ كمرآة للحاضر
من القصص اللافتة أيضًا "الطارق"، التي تعيدنا إلى مدينة الكوفة في زمن بني أمية، لتصور واقعًا سياسيًا واجتماعيًا متشابكًا. لكنها ليست قصة تاريخية بالمعنى التقليدي، بل توظف التاريخ كمرآة للحاضر، من خلال الحكي عن الاضطهاد الديني والسياسي.
القصة تعكس معرفة الكاتب العميقة بالمرويات الإسلامية والتاريخ السياسي، لكنها توظف هذه المعرفة في نسق سردي رشيق، يجمع بين الصراع الداخلي للبطل وظروف الواقع القهري من حوله.
عازفة الكمان.. الفن كخلاص للمرأة
أما في قصة "عازفة الكمان"، فنجد انحيازًا واضحًا لقضية المرأة، وقدرتها على تحدى القمع المجتمعى من خلال الفن،
البطلة هنا تتجاوز الفقر، والنظرة الذكورية، والتقاليد، عبر موسيقاها الداخلية، التي تصبح سلاحها وسلامها.
اللغة في هذه القصة أكثر شعرية، والمشهدية أقوى، وقد تلمس القارئ الذي يبحث عن الجانب العاطفي والإنساني بعيدًا عن التعقيد الفلسفي. إنها قصة نضوج، وصوت نسوي يتناغم مع معاناة وكرامة المرأة.
الإعلام والدم.. تغطية لا تخلو من الدماء
تناولت المجموعة أيضًا قضايا معاصرة مثل العنف الإعلامي، وتهافت الصحافة وراء الإثارة والسبق الصحفي، حتى في أكثر اللحظات إنسانية ودموية، هذا الطرح يكشف عن وعي الكاتب بدور الإعلام في تكوين الرأي العام، وفي صناعة الرعب أو التعاطف، في آنٍ واحد.
تنويع الأسلوب والتقنيات السردية
تميّزت المجموعة بتعدد مستويات السرد من ضمير المتكلم، إلى الراوي العليم، إلى تيار الوعي أحيانًا. كما أن البناء القصصي يتراوح بين القصّة ذات الحبكة التقليدية، والقصص المفتوحة، وحتى النصوص شبه الشعرية.
هذا التنويع في الأسلوب يشي بقدرة الكاتب على تطويع اللغة وتفكيك القالب التقليدي للقصة، كما يبرهن على نضوج تجربته من إصدار إلى آخر.
الكاتب الباحث عن المعنى
في "وهكذا أنهى الله حديثه"، لا يقدّم كريم محمد الجمال إجابات سهلة، بل يتركنا أمام أسئلة معلقة، بحيث على الإنسان أن يكمّل المعنى. المجموعة تدفعنا للتأمل لا الاستهلاك، وللسؤال لا الامتثال، وهي بذلك تحقق جوهر الأدب الحقيقي: أن تكون مرآة لروح الإنسان، بكل عذابها وجمالها.

Trending Plus