من يونيو حماس إلى يونيو الإخوان.. وفرة فى الدروس وفقر فادح فى الوعى والاعتبار

رغم بنائه المركزىِّ الصُّلب، أو بالأحرى ما كان يُوحى ظاهريًّا بالصلابة؛ حتى أغرى حُرَّاس التنظيم أنفسهم بوَهم القوة والمَنعة وتسيُّد المقادير، لم يكُن الإخوان بعيدين فى أيَّة لحظة من لعبة التأثير والتأثُّر بالخارج ورياحه العاتية.
اضطلعوا قديمًا بأدوار الوكالة عن آخرين، ومرَّروها إلى الساحات الرديفة، ثمَّ خُدِعوا بها لاحقًا، واستخلصوا منها ما يُخالف حقائق الجغرافيا والتاريخ.
كانوا ذراعًا لأجندة؛ فصاروا جسدًا تتفرَّع منه الأذرع، ولا دماغ تقوده أو رؤية صافية، ما جعلهم عبئًا على الامتدادات الطرفيَّة، وجعلها عبئًا عليهم أيضًا، فى مُتواليةٍ لم تتوقَّف عن تصدير الأخطاء واستيرادها، وعدم الاتعاظ بالحوادث وما فيها من عِبَر ٍوانتكاسات.
بدأ التمدُّد العابر للحدود مُبكِّرًا؛ لكنه توسَّع واتَّخذ طابعًا مُؤسَّسيًّا مع الارتحال الطارئ فى مُنتَصَف الخمسينيات، على أثر الصدام مع الدولة، وانقضاء تجربة الاحتواء ومحاولات الالتفاف على نظام يوليو من الداخل.
هكذا كان التفجُّر التنظيمى واحدًا من تجلّيات الأزمة وضروريَّاتها الوقتيّة؛ لكنه استُدلّ منه بالخطأ على صلاحية الفكرة للانتشار، وإمكانية أن تُحرَق المراحلُ بالقفز الغشوم على الخرائط، واستعادة النزعة الأُمَميَّة بالحضور المُتعدِّد مكانيًّا، بغَضّ النظر عن الفاعلية وشروط اللحظة.
وبدرجةٍ من الدرجات، كان ذلك مُحفّزًا على محاولة اختراق القضية الفلسطينية، قبل أن يستفيق المُؤسِّسون الأوائل لحركة فتح، ويخلعوا عباءة الأُصوليّة الدينية.
كما كان عاملاً للتأجيج المُتتابع، من أيلول الأسود فى الأردن، إلى تراجيديا حماة السورية، فضلاً على تجارب أُخرى ظلَّت خافتةَ الصوت، أو تعتملُ نارُها فى داخلها إرجاء للتناقُضات البنيوية فحسب؛ وليس تعاليًا عليها أو تسويةً لها بديناميكيَّة توفيقية ناضجة.
وإذ تتقدّم نكبةُ غزَّة اليومَ على غيرها من مُشاحنات الإقليم ومآسيه؛ فإنَّ للجماعة الرجعية يَدًا مُباشرة فيما آلت إليه الأوضاع هُنالك، أقلّه على صعيد التركيبة الاجتماعية ورؤية الفلسطينيين لذواتهم وقضيَّتهم، من دون إنكار مسؤولية الاحتلال عن إبقاء المسألة جرحًا مفتوحًا، لا يبرأ ولا يتوقَّف عن النزيف.
ذلك أنَّ التناقُض الأساسىَّ لم تكُن تعوزه مُشاغبات الأيديولوجيا، واختراع تقابُلاتٍ حدّية، تبدو ثانويّةً فى الشكل؛ إنما لها حاكميّة جوهرية فى المضمون، أكان من ناحية التعالُقيّة والتخادُم مع تيَّارات اليمين المُتطرِّفة على الضفَّة المُقابلة، أمْ لجهة شَقّ الصف، وتفكيك إجماعيَّة الهَمّ الواحد.
ومِمَّا فات؛ يرتدُّ المجالُ الوطنى العام إلى حالةٍ بدائيَّةٍ ذات طابعٍ حركى بنكهةٍ قبائليّة، بعدما كانوا قد قَطعوا شوطًا طويلاً على طريق التجانُس والالتئام، والتعرُّف على أنفسهم من قُرب، لأجل أن يصيروا أقدرَ على مُلاقاة الغريم من مُنطلقاتٍ واضحة، وعلى قواعد نضاليَّةٍ وسياسيّة راسخة.
وبعيدًا من النكهة الإسلامية المُبكّرة، وكانت مدفوعةً من الأساس بالطبيعة الزمنيّة وقتَها، وما يتَّصل بها من رواسب عقائدية تبقّت من الامبراطورية العثمانية بعد سقوطها، ثمَّ افتقاد السردية الواحدة بنازعٍ قومىٍّ يُوطِّرُ البيئة الفلسطينية ويصُبّها فى سبيكةٍ واحدة؛ فإنَّ محاولات عزّ الدين القسام ورفاقه لم تُفضِ لشىء تقريبًا، كما كانت تجارب أمين الحسينى ودائرته الإخوانية من قَبيل النَّزَق الخالص؛ لا سيَّما ما يخصُّ الاتصال بالنازية، ومحاولة الاستعانة بهتلر على عالم جديد فى طور التشكّل، ناهيك عن سُخرية أن يكون عَونًا للعدالة واسترداد الحقوق الضائعة.
ومن دون حاجةٍ للإغراق فى التفاصيل؛ فقد اتّضح مُبكِّرًا أنَّ تديين النزاع لن يُجنّب الضحايا ما كان مُعَدًّا لهم؛ بل ربما يُعجّل بالمحنة ويزيدها تعقيدًا واستحكاما.
وحتى محاولات حسن البنا لاستثمار الفائض العاطفىِّ، انتهت إلى الاستعراض الشكلانىِّ والمُزايدة على القوى النظاميَّة، مع إحراز مكاسب تنظيميَّةٍ مُباشرةٍ من الدعاية والتبرُّعات، واستجلاب السلاح، وتأهيل عناصر النظام الخاص، ولم تصُبّ فِعليًّا فى مجرى المُقاومة المادية، أو إعفاء السياسة من أعباء الحماوة والكَيد والإفراط فى الحماسة المُضلِّلة.
بدأ الإسلاميِّون من نقطةِ الوَقفيَّة والإرث العقائدىِّ وأخفقوا، ودخلت الجيوش العربيَّة وانتكست أيضًا، وأخذ الزمن دورتَه بين مَدٍّ وجَزر؛ حتى توصَّل أصحابُ الأرض إلى بادئةٍ موضوعيّة للتوافُق، ورسّموا معالمَ مشروعهم وافتتحوا مسيرةَ اختباره بالتجربة والخطأ.
شعارات صاخبة، واستحقاق يشهرونه فى وجوه الأشقاء بدلاً من العدو، وحروب على التخوم تحرق حواضنها، فتنتقل بينها اضطرارًا مثل قطٍّ مُشتعل.
من شرقىِّ نهر الأردن إلى جنوبىِّ الليطانى، وصولاً لتونس مُؤقَّتًا، ثم إعلان الاستقلال من الجزائر، والوقوف على منصَّة الأُمَم المُتَّحدة للمرَّة الأُولى، بالمظلمة وغصن الزيتون.
هكذا كان الزمن خَطيًّا، يسيرُ بوتيرةٍ مُنتظمةٍ وصاعدة، تأتّت منها مُقاربةُ أوسلو وفُرصة العودة إلى التموضع والنضال من الداخل.
وكان مُتوقَّعًا منذ البداية ألَّا تنخرط إسرائيل بتعقُّلٍ ومسؤولية، وألَّا ينقطع صقورُها القوميون والتوراتيون عن المُناكفة ومساعى الانقلاب على خطط التسوية.
وبقدر ما يُوجِبُ الافتراضُ قَدرًا من اليقظة والجاهزية العالية، واستعدادًا للمُقاومة السلمية والخشنة على التوازى والتوالى؛ فإنه لم يكُن ينطوى إطلاقًا على إلزاميَّةٍ بالارتداد للوراء، وتجريب المُجرَّب، والعودة لاستجلاب البدائيَّات الفاشلة قَبلاً، على أمل الانتصار بها على أوضاعٍ تطوُّرت جدًّا، وصارت أكثر تعقُّدًا وتركيبًا وإرباكًا.
من الأُمَميَّة الدينية التى ارتكَزَ إليها العثمانيِّون وأضاعت فلسطين، للقوميَّة العربية التى عجزت عن الاضطلاع بالمهمَّة وتآكَلَتْ فى عِزّ فُتوّتها وعنفوانها، وصولاً إلى الوطنية الفلسطينية القائمة على مُشتركاتٍ هويَّاتيّة ومَصلحيَّة ناصعة.
هكذا تكتملُ الدائرةُ بالوقوع على الوصفة المثالية، وعبور الأطوار الاعتيادية للنُّضج، بالحبو فالتعثُّر والهرولة.
وعليه؛ فإن كلَّ نكوصٍ عن ذلك إنما يعودُ بالسياق إلى محطَّات ضعفِه فى أفضل التصوُّرات، ويُضمِرُ أهدافًا ونوايا تخصُّ أصحابَها أو حلقات انتمائهم الأَوَّليَّة فى أسوأها.
أى أنَّ التجزئة بعد التجميع لا يُمكن بحالٍ أن تكون عملاً ناضجًا، ناهيك عن استحالة أن يكون شريفًا ولو ادّعى؛ لأنه يُضحِّى بمنظومة القوَّة الشاملة لصالح أحد عناصرها، ويُجَيّر الرصيدَ المَشاعِىَّ لحساب فصيلٍ دون الآخرين.
والاستدراكُ على هذا بالضبط والتصويب؛ إنما يبدأ من الداخل، وبأولويَّةٍ للاتّضاع والمُراجعة ربما تتخطّى غرامَنا بالخُطَب والهجائيات الناريّة لعدوٍّ عهدناه دمويًّا مُتوحِّشًا، ولا يُرجَى منه اليوم أو غدًا أن يُقِرّ بجنايته أو يُسَلّم بحقوق المجنى عليهم، وقد تأكَّد بسوابق الخبرة أنه لا سبيلَ لمُقارعته بالأدوات ذاتِها، ولا بديل عن التكيُّف مع الوقائع على حقيقتها، لا ما نتوهّمه فيها، والبحث عمّا يُحرِّكُ للأمام دون اعتبارٍ للتكلفة الماديّة أو المعنويّة، وليس ما يُهدِرُ المُتاح ولا يُقرّبُنا شِبرًا من المأمول.
وإذا كان من طبيعة الأُصوليَّة أنها دوجمائيَّةٌ مُغلقةٌ على نفسها، وتخوض حروبَها مع الجميع بالدرجة ذاتها طوالَ الوقت، والقريب لها كالبعيد دون ترتيب أو مواءمات، باعتبارهم جميعًا من الأغيار كما ينظرُ الصهاينة لكلٍّ مَن عداهم؛ فإنَّ ما يجرى على صعيد الداخل الفلسطينى يبدو نُسخةً رماديَّةً مُخاتلةً من نُسَخ الاحتراب الأهلى، تُغطّى عليها الوجيعةُ المُعَمَّمة بعدائيَّةٍ لا تقبلُ الاختلاف أو الجدل والتأويل.
فكأنَّ أُمراء الحروب يسترون صغائرَهم باللافتة الكُبرى وأسئلتها الوجودية، فيما يُعوِّلون من وراء ذلك على استراق ما يُمكنهم الوصول إليه، وتسييد مُعادلتهم الصِّفريَّة المحكومة دومًا بخُلاصَةٍ استباقيّة وإذعانيّة واحدة: أنا القضيّةُ دون شريكٍ أو مُنازع، وإمَّا أن أربح مُنفردًا أو لِيَخسِرَ الجميع.
والمنطقُ السابق على قسوته، يبدو جَليًّا فى مواقف حماس منذ نشأتها. أوّلاً بالعمليات الانتحارية التى أعانت خصوم إسحاق رابين عليه، أو شاركتهم فى تفجير مسار أوسلو. مُناطحة السلطة الوطنية وفقَ الحدود المُتاحة أمام كاريزما استثنائية مُتوحِّشة مثل ياسر عرفات، ثمَّ الانقلاب عليها مع أوَّل فرصةٍ مُمكنةٍ بعد رحيله.
وذلك؛ مرورًا بأربع حروبٍ كانت تُخَاضُ دومًا بالدعاية المُتوهِّجة وتُحسَم فى الغُرَف المُظلمة، وأخيرًا الاستبداد بمصير القطاع من اتِّخاذ «السنوار» قرارَه بإطلاق الطوفان خارج العقل والمنطق وحسابات الندّيَّة والتكافؤ، وتسيير جولات التفاوض فى ركاب الأجندة الحماسيَّة حصرًا، فى السلاح واليوم التالى ومصير القادة والحركة؛ ولو تسبَّبت مُغامرة الإطالة فى تضييع ما تبقَّى من أُصولٍ ثمينةٍ وإراقة مزيدٍ من الدم الحرام.
وبعيدًا عن فارق السياقات؛ فإنَّ ما يبدو غامضًا بين النهر والبحر الآن وسابقًا، بأثر طُول الصراع واستدامته، وعدالة القضيَّة وجراح مَنكوبيها الأبرياء، يتَّضح نموذجُه الأقربُ فيما كان من الجماعة الأُمِّ فى مصر.
لقد التَجَأتْ للّعبة التقليدية نفسها منذ التأسيس: ولادة تحت سقف الاحتلال، وتشغيب على القوى الوطنية ونضالها التحرُّرى. مُعاداة للأحزاب ومُوالاة للقصر، ثمَّ اقتراب وابتعاد عن يوليو، والتفاف لاحق على السادات.
ومن بعدها جاءت مَساعى التسرُّب للسلطة عبر التحالُف مع بعض الأحزاب، كما فى تجارب الوفد والأحرار والعمل فى الثمانينيات، وإعداد خطَّةٍ طويلة المَدَى للتمكين، ظلَّت تترَدَّد بين عناوين السياسة والاقتصاد والقوة؛ حتى توافَرت لها الظروف المُلائمة فى ثورة يناير 2011، وما تلاها من إضعافٍ للدولة وسُيولةٍ للتيَّارات المدنية.
صَدَّر حسن البنا وعصابتُه أمراضَهم للأتباع الخارجيِّين، ثم أعادوا استيرادها أو الاستضاءة بتفاعُلاتها لاحقًا. استوعبوا خطأ الصِّدام المُبكِّر دون كفايةٍ واستعداد كامِلَين من تجربة الأردن، ومخاطر التركُّز المكانىِّ والنوعىِّ من حالة الحَمَويِّين مع الأسد الأب وشقيقه رفعت.
تدرَّجوا ببُطءٍ ونعومة، ودخلوا فى أوردة الدولة وشرايينها من زوايا ضيِّقةٍ وهامشية، أو لم تكُن محلَّ اهتمامٍ من نظام الحُكم: المساجد والنوادى ومراكز الشباب، النقابات والمجتمع المدنى، التقيّة واختراق الفعاليات السياسية بخلايا نائمة.
فُوجئنا بعد الربيع العربى بوُجوهٍ يُعلنون إخوانيَّتَهم المُضمَرَة فجأة، وآخرين لا يُجاهرون بها لكنّهم يسيرون فى مواكبهم. أمَّا لحظةُ الانطلاق فقد استُمِدّت خبراتُها من انقلاب الحماسيِّين فى غزَّة بالعام 2007، وللمُفارقة أنه كان فى شهر يونيو أيضًا.
دخلت الجماعةُ تحت سقف الثورة الذى استنكفَته استباقيًّا، وأعلنت رفضَها وعدم المُشاركة فيها؛ قبل أن تلتحق بها على استحياء وتمطيها بصَخَبٍ وفجاجة.
ومن دعاية المَدنيَّة والشواغل الاجتماعية، تدفّقت فى شقوق اللحظة وطوّقت شُركاءها؛ ثمَّ انقضّت عليهم حينما واتتها الفرصة.
صحيح أنهم لم يرفعوا السلاح مُبكِّرًا، ولم يُلقوا الناسَ من أعالى البنايات فى فصل المسرحيَّة الأوَّل، لكنَّ العُدّة كلَّها كانت مُكتمِلَةً فى الخزانة، وجاهزةً للتفعيل.
مُشاركة لا مُغالبة، ثم احتكار كامل. إصلاح فثورة فإصلاح، ومندوب ظاهر فى السلطة يُحرّكه آخرون من وراء ستار.
لم يختلف «مرسى» فى رئاسته عن «هنيَّة» بحكومته، صار الأستاذُ تلميذًا لدى تلامذته، واستعان بهم بالفعل فى اقتحام الحدود والسجون، بينما كان يستكمل تشكيلاته الخاصة.
ولم يَطُل الوقتُ قبل أن يُسفِرَ عن وجهه القبيح: إدارة تنفيذية مُتوضّئة، شراكات ظاهرة مع الجهاديين، احتكار لتأسيسية الدستور، إعلان دستورى لخصخصة السلطة بكلِّ مُكوّناتها، حصار للمرافق مع استئساد على الجميع، وعنف عَلنىّ فى الشوارع، كان من أغراضه الترويض والتحذير، وكان طبيعيًّا أن ينقلِبَ إلى موجةٍ إرهابيّة عاتية كما حدث بعد 30 يونيو.
كان يونيو غزَّة مِنحةَ حماس ومِحنةَ الإخوان؛ لأنّه وفّر للذراع وصولاً سهلاً للحُكم بأثر الهشاشة والفراغ، وأغرى الرأسَ باستنساخ التجربة فى بيئةٍ عتيدة ومُغايرة تمامًا.
وبمنطق الاستضاءة والاستيعاب، كان يتعيَّن أن يكون يونيو مصر فى مُقدِّماته ضوءًا أحمر للتنظيم، وفى مآلاته درسًا مجّانيًّا للحركة، يُحفِّزهاُ على الاستفاقة وإعادة تأهيل نفسِها بتصوُّرٍ أكثر اعتدالاً وكفاءة.
وثمّة إشارات لاحقة يُستَشَفُّ منها أنها تلقّت الرسالة، أبرزها إعلان الانفصال عن الجسم الإخوانىِّ، وإعادة تحرير ورقتها الاستراتيجية فى 2017، من ثابت الوَقفيَّة الإسلاميّة على كامل فلسطين، إلى القبول بدولةٍ على حدود يونيو 1967؛ لكنها على ما يبدو تعثّرت فى محاولة الهيكلة الجديدة، بأثر الاستقطاب بين تيَّارَى الحمائم والصقور داخلها، أو بفِعل الإملاءات الواردة من الخارج، وقيود الولاء التنظيمى، أو الالتزام وفق مُقتضيات المحاور والأحلاف.
كانت ثورة 30 يونيو فُرصةً مِثاليَّةً لاستتابة حماس، وتقويم مسارها على وجهٍ لا يُعاند الموجةَ التصحيحيَّة فى الإقليم، ولا يقفز على مُستجدَّات الواقع وحقائقه الواضحة.
لكنها لسببٍ خَفىٍّ لم تُحقِّق أثرَها المطلوب، أو تحوّلت تداعياتُها على شبكة الأذرُع والساحات الإخوانية الرديفة إلى الضدِّ تمامًا.
كأنَّ التنظيم الدولى عندما انتكس فى مصر، ثمَّ توالت عليه الضربات من اليمن وسوريا وليبيا وتونس، حتى سقوط حكومة العدالة والتنمية فى المغرب وإطاحة نظام البشير السودانى، قلَّبَتْ فى دفاترها على طريقة التاجر المُفلِس؛ فلم تجد من أُصولِها الباقية سوى حماس.
وبالمثل؛ تمسّك بها رُعاةُ الجماعة ومُمثِّلو العثمانيَّة الجديدة كخيطٍ أخير، قبل أن تكُرّ بَكَرَةُ المشروع ويتفسَّخ نسيجُه، فيما كانت الشيعيَّةُ المُسلّحة تكسبُ أرضًا جديدة من الشام إلى صنعاء، وتُوطِّدُ ركائز دفاعاتها المُتقدِّمة، بعدما أصبح التمثيلُ الجُزئىُّ حضورًا مُباشرًا وثقيلاً.
فتوزَّعت ولاءاتُ الحماسيِّين بين الدائرتين، ووقَعوا ومعهم الحركةُ والقضية فى فخِّ الاستقطاب بين برنامجَيْن من المادّة نفسِها، ومُتعادِيَيْن لأقصى حدود العداء، وما بينهما من تناقُضات لا يقلُّ عن تناقُض كلٍّ منهما مع الصهاينة فى أطماعهم، ومع دُوَل الاعتدال فى فلسفتها ورُؤيتها العقلانية للمنطقة.
يتحمّلُ الإخوان نصيبًا كبيرًا من المسؤولية عَمَّا آلت إليه حماسُ اليومَ. يعود الأمرُ للنشأة والاستتباع بالأساس؛ إنما فى المدى القريب يتّصل باستدعائهم إلى الاشتباك مع فوران البيئة المصرية فى 2011، وترقية آمالهم فى الاستناد إلى إدارةٍ مُوالية لهم فى القاهرة، تكون قاعدةً لنشوء قوسٍ أُصولىٍّ سيتسيّد المنطقة بالضرورة، يُسَيِّلُ الحغرافيا ويُذَوِّب حدودَها، ويُمكِّنُ جناحَه الغزّى من القضية تحت مظلّةٍ من الإجماع الإقليمى أو ما يُشبهه.
النجاح النسبىُّ السريع للجماعة الأُمّ استولى على مخيالهم، وشيّد لهم قصورًا من الوَهْم الخُلّص. صفقة شاليط نفخت فى رئاتهم حتى تضخّمت، ومصالح الرُّعاة والمُموّلين حرّكتهم ذات اليمين وذات اليسار؛ بانقطاعٍ كامل عن شواغل الحاضنة الأصيلة، وانخراطٍ فادح فى مشاريع الآخرين ورغائبهم المُعطّلة.
يُمكن أن يُعزَى «الطوفان» إلى رغبة المُمانَعة فى تعطيل موكب الاتفاقات الإبراهيمية، لا سيَّما ما كان يُثار قبله عن تطبيع العلاقات بين تل أبيب والرياض، خاصة بعدما تعذّر على طهران الاشتباك معه وإفساده، ارتباطًا بصفقة المُصالحة مع السعودية برعاية بكين.
كما يُمكن النظر إليه من زاوية الانفرادية الحماسية، واستشعار «السنوار» لانصراف الحُلفاء عنه واقترابهم من الشيطان الأكبر، وإمكانيّة أن تنخرط الجمهورية الإسلامية فى تسويةٍ يترتّبُ عليها حرمانه من الدعم؛ فأراد أن يُفجّر القاطرةَ برُكَّابها، وأن يخلط الأوراقَ ويُطوّق الجميع بالنار.
فى كلِّ الأحوال؛ لم يَقرأ قادةُ الخنادق ما كان يعتمل على امتداد المنطقة، ولا أضاء لهم فريقُ الفنادق مصابيحَ السياسة وتوازُناتها. وقعَتْ الحركةُ تحت تأثير الولائيّة والتجاذُب؛ فصارت تاليةً لتيّارَين يتصارعان عليها، فيما القضية فى المرتبة الثالثة أو الرابعة.
وعليه؛ فإنَّ سؤالَ الهُدنة الآنَ تتنازَعُه الريحُ من عِدّة جهات: إيران الخاسرة فى معارك الوكلاء كما فى الحرب المباشرة، والعثمانية الجديدة التى تضخّمت طموحاتها بوراثة الشام، والاحتلال المُغترّ بنجاحاته الراهنة، وبما لدى مخابيله وأوّلهم نتنياهو من فُرصةٍ مثالية لترتيب الأوضاع على هوى الدولة العِبريّة، وأخيرًا تتذيَّلُ الحركة قائمةَ اللاعبين، بخياراتٍ شِبه معدومة، ومُستقبلٍ غامض تمامًا؛ لكنه مُحمَّل بالمخاطر والفواتير كلّها، مهما حاولت التهرُّب أو الإنكار.
تتسارع حركةُ الوسطاء لأجل العودة إلى اتّفاق وقفِ إطلاق النار فى القطاع، وآخر الإفادات الواردة من حكومة الليكود أنهم على حال التشدُّد، ويتذرَّعون بتصلُّب الحركة فيما يعُدّونه شروطًا أساسية.
ورقة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف ما تزال مادّة التفاوض، وهامش التحريك أو الحلحلة بشأنها ينحصر فى تفاصيل صغيرة، ولا يقترب من مفصليَّاتِ استبعاد الحماسيِّين من اليوم التالى، وتأهيل سُلطة مَدنيَّةٍ غير فصائلية، والتماس طريق التهدئة الدائمة من الوَقْف المُؤقّت غير المُقَيَّد أو المشروط؛ مع بقاء فُرَص المناورة والالتفاف وإعادة التصعيد من الطرفين.
يونيو حماس وضعَها فى السلطة، ويونيو الإخوان أطاحَهم منها. ولم تختلِفْ الحالُ بين عدوٍّ ظاهرٍ هُناك، وعداواتٍ مُضمَرة هُنا. كلاهُما تحدّى بيئته: هُويّةً ووجودًا ومصلحةً عُليا.
الاحتلال خنجرٌ فى خاصرة الإقليم؛ إنما بقَدر الاحتياط له، يتعيّن الحذر مِمَّن يتخادَمون معه قصدًا، أو يُعينونه على أنفسهم وحواضنهم بالخفَّة والاعتباط.
انتفعَتْ الحركةُ من الشهر؛ لكنه ظلَّ يُعاوِدُها على فواصلَ زمنيَّةٍ بالانتكاسات والرسائل الصاخبة، أفدحها انكسار الحركة الأُمّ، وآخرها كَسْر الهلال الشيعى المُمانِع، وإخراج إيران تقريبًا من مُعادلة دُوَل الطوق.
وإذ تنصرفُ الجهودُ حاليًا إلى استنقاذ غزّة من المحرقة؛ فإنَّ على الحماسيِّين قبل غيرهم أن يسترجعوا دروسَ يونيو ويستزيدوا منها، وأن يُوقنوا أنَّ الشعارات والتطهُّر والمُغامرات الهائجة أورثتهم وجيعةً بعد أُخرى، وحمّلت الآخرين بأعباء خطاياهم، وما تسلّط عليهم من رعونةٍ فى القول والسلوك.
يتحرّك الزمن للأمام، أرَدْنا أمْ لم نُرِد؛ ولا معنى للإنكار أو الاستكبار، أمَّا الإصرار على ما ثبَتَ خطؤه مرّةً تِلو أُخرى؛ فربما يُعَدُّ من قَبيل التواطؤ على الذوات والأوطان وقضاياها، وفى أحسن الافتراضات سيكون دليلاً على عدم الصلاحية، ووُجوبيَّة التنحِّى، وإفساح المجال لبدائل أكثر رُشدًا وإخلاصًا للبلاد والعباد.

Trending Plus