الآلات وتصوراتنا حولها

حسين حمودة
حسين حمودة
حسين حمودة

في كتاب جميل قديم للأستاذ محمد سيد الكيلاني عن "الترام (أو الترامواي) في القاهرة"، الذي افتتح أول "خط" له عام 1896، رصد لما يشبه المعركة حول الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية، في استخدام هذه الآلة الجديدة التي أحدثت طفرة في كل أوجه الحياة بمدينة القاهرة، وحول التصورات المتباينة في رؤية آثار وتأثيات وسيلة الانتقال الجديدة هذه، التي تعمل بدون أن يجرها حيوان أو يدفعها أحد، قياسا على وسائل الانتقال المعروفة وقتها.. وتقريبا رأى بعضهم أن الترام عمل من أعمال "الشيطان".. وهكذا تصاعد الخلاف، ودبجت القصائد وكتبت المقالات، في رصد إيجابيات الترام، من جهة، وفي ربطه بالشرور وإثارة المخاوف منه وحوله، من جهة أخرى.

المعركة تبدو الآن مثيرة للسخرية، واستدعاؤها يلوح مدعاة للضحك، ولكن تأمل دلالاتها يمكن أن يكون بعيدا عن السخرية والضحك.. وذلك ببساطة لأن هذه المعركة تتصل بكيفية متكررة في تعاملنا، نحن المصريين والعرب، مع بعض الآلات الحديثة التي لم نخترعها، وإنما جلبها إلينا الغرب، أو جلبناها مع ما جلبناه من الغرب، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين (في تاريخ أقدم كان إسهامنا في اختراع الآلات وفي النظرة إليها مختلفين). وفي وجهة هذا المثال نفسه، يمكننا أن نفكر في الصورة الوحشية التي لاحت بها حوادث الترام مفزعة ومخيفة في بعض أدبنا، ومنه بعض القصص القصيرة ليحيى حقي، وقبلها في بعض القصائد التي كتبت عن الترام خلال الخبرة الأولى في التعامل معه، ومنها هذا البيت:
"تمشي [الترام] وعزرائيل من خلفها/ مشمّر الأردان للقبض"
(أي أن الترام يسير وخلفه عزرائيل متهيئا لقبض الأرواح).


التعامل نفسه مع الآلة الحديثة، بوصفها مقرونة بالشرور، يمكن ملاحظته أيضا في نتاج أدبي لاحق.. من ذلك بعض روايات الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، حيث تلوح السيارة كائنا وحشيا يقتحم ويعكر صفاء عالم الصحراء الهادئة الوادعة، ومن ذلك أيضا قصة قصيرة ليحيى الطاهر عبدالله، بعنوان "طاحونة الشيخ موسى"، وترتبط وقائعها بمشروع أحد أبناء القرية الجنوبية لشراء "ماكينة طحين"، ويقف "الرأي العام" لأهل القرية ضد هذا المشروع، انطلاقا من تصور يؤمنون به: أن هذه الماكينة لكي تبدأ العمل لا بد من التضحية لها بذبيحة بشرية..(وسوف ينتهى الاعتراض على المشروع باقتراح يتمثل في تقديم "نذر" لوليّ القرية، دون الحاجة للتضحية البشرية).


هذه الأمثلة من الأدب، وغيرها كثير في الأدب وفي الحياة أيضا، تجعلنا نتأمل الميراث الذي تعاملنا خلاله، أو بعضنا على الأقل، مع بعض الآلات، وأحيانا مع بعض الأدوات الجديدة,,
مع ذلك، ومن ناحية أخرى، يمكننا أن نستعيد منحى آخر مختلفا في التعامل مع بعض الآلات والأدوات الحديثة، يلوح كأنه نوع من "أنسنتها". ويمكننا هنا أن نفكر فيما شاهدناه ونشاهده من عبارات مكتوبة على بعض السيارات مثلا، وهذه ظاهرة لافتة انتبه إليها عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس، الذي قام بجمع تمثيلات لهذه العبارات المدونة على هياكل  "المركبات" أو وسائل النقل، ثم قام بتحليلها تحليلا مبدعا في كتابه المهم (هتاف الصامتين ـ ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري المعاصر).

العبارات هذه، وغيرها مما لم يجمعه الدكتور سيد عويس، أو مما أعقب الفترة التي جمع فيها مادة كتابه، وخصوصا المكتوبة منها على الميكروباصات، كانت ولا تزال تحمل بعض دلالات تشير إلى التعامل مع الميكروباصات وكأنها كائنات بشرية، أو نساء جميلات، ومن ذلك "تدليل" الميكروباص (بعضهم يسميه "الدلوعة"!). وأتذكر أن أحد سائقي التاكسي بالقاهرة أخبرني كيف بكى وهو يقوم بتسليم إدارة المرور سيارته السابقة القديمة (التاكسي الأبيض والأسود) ، بعدما صدر قرار بإنهاء خدمتها.. وهي السيارة التي كان يمتلكها وظل يعمل عليها طوال ثلاثين عاما، وحكي لي كيف كان يعاملها برفق ومحبة كأنها واحدة من أسرته، ولم ينتزع منها شيئا قبل تسليمها (سلمتها "زي العروسة" بتعبيره) لتتحول إلى "خردة"، كما فعل كثيرون، لأنه كان يرى في هذا السلوك "إساءة" لكرامتها!، وفي المنحي نفسه أستعيد ما شاهدته مع الكاتبة الراحلة نعمات البحيري، التي كانت تعامل سيارتها الصغيرة كأنها بنتها التي لم تنجبها!

إسقاط مشاعرنا على الآلات، خلال رؤيتها كوحش، أو خلال تدليلها والحنوعليها، أو "أنسنتها" بوجه عام.. يبلور ظاهرة تحتاج إلى تحليل لكيفيات استيعابنا لمنجزات العصر الحديث، وكلها منجزات مفيدة وإن كان لها أو لبعضها قدر من المضار.. والأمر كله يتوقف على كيفية توظيفها واستخدامنا لها، وقبل ذلك يتوقف على تصوراتنا التي ننسجها حولها.. لم يكن الترام وحشا شريرا دون خطأ بشري (في قيادته، أو في إعداد و إفساح الطريق من حوله) يحول الإنسان إلى ضحية له.. وهكذا مع الأمثلة الأخرى.... غالبية تلك الآلات صماء، باردة ومحايدة، ولكنها تتجاوز ذلك عندما نستخدمها أو عندما نسقط تصوراتها عليها.
في العقود الأخيرة، اتسع مفهوم الآلات والأدوات المستحدثة ليشمل اختراعات وابتكارات في مجالات أخرى.. وربما لم تعد هذه الاختراعات والابتكارات (وبعضها ذكي)، كما كانت من قبل، صماء وباردة ومحايدة تماما، وقد اختلفت تصوراتنا عنها وطرائق استخدامنا لها..  ولكن هذا موضوع آخر.


 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

قاتل صديقه في الإسكندرية: استغرقت 9 ساعات في تقطيع الجثة والتخلص منها

بدء توافد جماهير المغرب على ملعب افتتاح بطولة كأس أمم أفريقيا.. فيديو

التشكيل المتوقع لمنتخب مصر أمام زيمبابوى.. عاشور وزيزو وصلاح أساسيين

الإعدام لسائقين بتهمة خطف شاب وخطيبته وهتك عرضها بالإسكندرية.. فيديو

قاتل صديقه بالإسكندرية: تخلصت من الجثة وجلست على مقهى وتناولت رغيف كبدة


إيمى سمير غانم تكشف كواليس اختيار أسماء أبنائها مع حسن الرداد

الطقس غدا.. أجواء شديد البرودة وشبورة كثيفة والصغرى بالقاهرة 12 درجة

حسن مصطفى يفوز برئاسة الاتحاد الدولى لكرة اليد للدورة السابعة على التوالى

موعد انطلاق مباراة مصر وزيمبابوى فى بطولة كأس أمم أفريقيا 2025

داليا مصطفى تثير الجدل حول عودتها للفنان شريف سلامة.. اعرف الحكاية


تردد القنوات المجانية الناقلة لبطولة كأس أمم أفريقيا 2025

بصورة تجمعهما.. منى زكي تكشف عن اشتياقها لوالدها الراحل

3000 شرطي و6000 كاميرا.. خطة أمنية غير مسبوقة لتأمين كأس أمم أفريقيا

القنوات الناقلة لمباريات كأس أمم أفريقيا 2025 قبل انطلاق صافرة البداية

وزيرة التضامن: دعم تكافل وكرامة قد يصل إلى 4000 جنيه للأسرة الواحدة

قاتل صديقه بالإسكندرية: خبرتى فى الجزارة والذبح سهلت على تقطيع جثته

موعد حفل افتتاح كأس أمم أفريقيا 2025 والقنوات الناقلة

المقاولون العرب يعلن تعيين على خليل مستشاراً فنياً لقطاع الناشئين

مواعيد مباريات اليوم.. افتتاح كأس أمم أفريقيا.. وفياريال مع برشلونة

استقرار الحالة الصحية لشقيق ناصر البرنس بعد حرق نفسه أمام المطعم

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى