حين يُفتح الفصل الأفريقي في حضرة السيد الأبيض

تخيّل أن تُدعى بصفتك رئيس دولة مستقلة، ذات سيادة، إلى لقاء رسمي مع رئيس أقوى دولة في العالم، فتجلس على الطاولة، تظن أن الحديث سيكون في الملفات الكبرى، المصالح المشتركة، التحديات الاقتصادية، الأمن، التعاون…
لكنك تُفاجأ بأن الرجل الذي أمامك، دونالد ترامب، يفتتح الاجتماع قائلًا:
“دعونا نبدأ بجولة تعارف… كل واحد منكم يقول اسمه وبلده، لأني مش عارفكم كلّكم!”
هكذا، ببساطة، بصيغة أقرب لحصة أولى في مدرسة ابتدائي، وبلهجة لا تخلو من الفوقية، وضع ترامب القادة الأفارقة في مشهد لا يليق، لا بدورهم، ولا بموقعهم، ولا حتى بما تفرضه أبسط قواعد البروتوكول الدبلوماسي.
هل كان يجهلهم فعلًا؟ أم كان يتعمّد أن يُشعرهم بأنهم – في عينيه – لا شيء يستحق التذكُّر؟ لا فرق، فالنتيجة واحدة: إهانة مغلّفة بابتسامة.
عنصرية لا تعرف المواربة
هذا المشهد ليس شطحة عابرة أو سوء تقدير. هو امتدادٌ طبيعي لرؤية ترامب – ومن يشبهه – إلى “الآخر غير الأبيض”. فقد سبق له، في أحد تصريحاته المدوية، أن تساءل:
“لماذا يأتي كل هؤلاء الناس من دول الحثالة إلينا؟ لماذا لا يأتينا مهاجرون من النرويج؟”
وكان يقصد تحديدًا هايتي والدول الأفريقية.
ذلك التصريح لم يكن مجرد زلّة لسان، بل نقطة في سلسلة من السلوكيات والتصريحات التي تكشف عن عقلية استعمارية، لا تزال ترى العالم مقسومًا:
– “نحن البيض أصحاب الحضارة”
– “وأنتم… ضيوف محتملون، أو عبء محتمل، أو لا شيء على الإطلاق”
في خلفية هذه الرؤية، هناك إرث طويل من الاستعلاء الأبيض. إرث قال عنه المفكر الأمريكي جيمس بالدوين ذات مرة:
“البيض يعتقدون أنهم لا يحملون تاريخًا… بينما نحن نحمل آثار السياط في ظهورنا.”
وهذا هو جوهر الأزمة مع ترامب: رجل لا يرى الآخر إلا من خلال لون بشرته، أو موقع دولته في قائمة الناتج القومي، أو فائدته في صفقات الأسلحة والعقارات.
من النرجسية إلى الإذلال الرمزي
ترامب ليس مجرد سياسي. هو ظاهرة نرجسية بامتياز. رجل يرى نفسه مركز الكون، ومن حوله مجرد كواكب تدور لخدمته أو لتضخيم صورته.
في علم النفس السياسي، هذا النوع من القادة يميل إلى استخدام الإذلال الرمزي كوسيلة للسيطرة، خاصة تجاه من يراهم “أقل شأنًا”. لذا، حين يفتتح لقاءه برؤساء دول أفريقيا بجملة مثل: “مش عارفكم… كل واحد يقول اسمه وبلده”، فهو لا يطلب التعارف، بل يضعهم في امتحان إثبات وجود.
وما أشبه المشهد بقول أمل دنقل في إحدى قصائده:
“قلْ للذين أقاموا حولنا سورًا… من الشكوك
إنّا سنفهم لعبة السَّحَرِ.. وندرك خُدعة الحاوي”
أفريقيا التي لا تنسى
ما لا يدركه ترامب، ومن على شاكلته، أن أفريقيا ليست قارة هامشية كما يتوهم، ولا ذاكرة قصيرة كما يظن.
أفريقيا التي صودرت شعوبها، وقُطعت أوصالها في مؤتمرات “تقسيم الكعكة” الاستعمارية، لم تعد ذلك الكائن الضعيف.
قد لا تملك كل أدوات القوة التقليدية، لكن الوعي يتراكم، والكرامة لا تموت، وذاكرة الشعوب لا تُمسح بجملة مهينة في لقاء عابر.
أخيرًا…
أيها السيد الأبيض الجالس على عرش القوة، اعلم أن الشعوب التي استهنت بها يومًا، ربما تُدرِّس سلوكك بعد عقود في كتب التاريخ…
لكنها ستضعك في الهامش.
كما وضعتنا أنت.
محمود بدر

Trending Plus