كيف تحول قانون الأحوال الشخصية لأداة تصفية حسابات بين الأزواج

بما أن الأسرة هي نواة المجتمع وحجر الزاوية في بنيانه الحضاري والأخلاقي، وأن هذا المبدأ ليس مجرد شعار نردده، بل حقيقة اجتماعية راسخة، وأي خلل يصيب هذه النواة يهدد سلامة الجسد المجتمعي بأسره، فمن هذا المنطلق، وُضعت القوانين المنظمة للعلاقات الأسرية، وعلى رأسها قانون الأحوال الشخصية، بهدف تحقيق العدالة وحفظ الحقوق عند نشوب الخلافات، فالسؤال الذى يطرح نفسه علينا، هل القانون الحالي يؤدي هذا الدور النبيل؟، أم أنه تحول في كثير من الحالات إلى أداة لتصفية الحسابات وهدم ما تبقى من روابط أسرية، مخلفاً وراءه آباءً محطمين وأبناءً ضائعين؟
لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية وجود إطار تشريعي يحمي حقوق المرأة والطفل، خاصة في مجتمع لا تزال فيه المرأة تواجه تحديات جمة، لكن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي لصناعة قانون عادل، فالتطبيق العملي لنصوص قانون الأحوال الشخصية الحالي كشف عن ثغرات عميقة وخلل جوهري، حوّل مسار التقاضي من رحلة بحث عن الحق إلى ساحة حرب استنزاف، يكون فيها الأب هو الخاسر الأكبر، والطفل هو الضحية الصامتة.
مأساة يعيشها الأب، تبدأ بمجرد وصول الخلافات الزوجية إلى أروقة المحاكم.. فجأة، يجد نفسه أمام سلسلة لا تنتهي من الدعاوى القضائية "نفقة زوجية، نفقة صغار، أجر مسكن، أجر حضانة، مصاريف علاج، مصاريف تعليم، فرش وغطاء، وقائمة تطول".. المشكلة لا تكمن في مبدأ النفقة نفسه، فهو حق أصيل للأبناء، بل في آلية تقديره وتطبيقه، حيث يعتمد في كثير من الأحيان على تحريات غير دقيقة أو مظاهر قد لا تعكس حقيقة الدخل الفعلي للزوج، مما يفرض عليه مبالغ تفوق قدرته المادية بكثير، فيتحول الأب من معيل لأسرته إلى مدين مطارد بالإنذارات وأحكام الحبس، فيفقد وظيفته، وتتراكم عليه الديون، ويصاب بما نسميه في ثقافتنا الشعبية "وقف الحال"، وهو شلل نفسي ومادي يفقده القدرة على العمل والإنتاج، بل وحتى على التفكير في مستقبله.. كيف يمكن لأب مهدد بالسجن في أي لحظة، ومنهك من الجري بين المحاكم والمحامين، أن يكون عضواً منتجاً في مجتمعه؟.. لقد حوله القانون، دون قصد، من أب مسؤول إلى مشروع "سجين".
وإذا كان الأب يعاني مادياً ونفسياً، فإن الأبناء يعانون من جروح أعمق وأكثر ديمومة، فالقانون الحالي، في سعيه لتنظيم الحضانة والولاية، يتعامل مع الطفل أحياناً كـ"محل للنزاع" وليس كإنسان له احتياجات نفسية وعاطفية معقدة، حيث يتم حصر حق الأب في "الرؤية" لساعات معدودة أسبوعياً، غالباً في أماكن عامة لا تسمح ببناء علاقة سوية وعميقة، وهذه الرؤية "المبتورة" لا تعوض الطفل عن غياب والده اليومي، بل قد تزيد من شعوره بالتمزق والضياع.
الأخطر من ذلك هو ما يحدث خلف الكواليس، حيث تستغل بعض الأمهات مواد القانون، بزعم المطالبة بحقوقها، كسلاح لتصفية الحسابات مع الزوج، فيتم "شحن" الأبناء ضد أبيهم، وتشويه صورته في أعينهم، وتحويله إلى مجرد "ماكينة صراف آلي"، وينشأ هؤلاء الأطفال في بيئة مشوهة، تفتقر إلى التوازن والأمان، ويعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق، والاكتئاب، وفقدان الثقة، والعدوانية.. إننا بهذا نصنع جيلاً من الشباب المحطم نفسياً، غير القادر على بناء أسر سليمة في المستقبل، مما يكرس دائرة الفشل الأسري والمجتمعي.
إن الآثار السلبية لهذا الوضع تتجاوز حدود الأسرة الواحدة لتصبح معضلة مجتمعية كبرى، فالمجتمع الذي يمتلئ بآباء محبطين ومكسورين، وأبناء مضطربين نفسياً، لا يمكنه أن يتقدم أو ينمو، فالطاقة التي كان يجب أن توجه نحو العمل والابتكار والإبداع، تُستنزف في معارك قضائية لا طائل منها، والموارد التي كان يجب أن تُنفق على التنمية والتعليم، تُهدر على بناء المزيد من السجون لإيواء آباء عجزوا عن سداد نفقات فُرضت عليهم بشكل غير واقعي.
إن استغلال نصوص القانون لتحقيق مكاسب شخصية أو للانتقام ليس مجرد قضية فردية، بل هو ظاهرة تسمم النسيج الاجتماعي وتعيق مسيرة التنمية، حيث تترك تلك الأزمة خلفها جيلاً من الأبناء يعاني من غياب الأب القدوة، وآلاف الآباء الذين تم تحييد دورهم في بناء المجتمع بفعل قانون كان من المفترض أن يحميهم ويحمي أسرهم.
إن الدعوة لمراجعة قانون الأحوال الشخصية ليست دعوة للانتقاص من حقوق المرأة، بل هي صرخة لإنقاذ الأسرة المصرية بأكملها، فنحن بحاجة ماسة إلى حوار مجتمعي جاد ومراجعة تشريعية شاملة، تضع المصلحة الفضلى للطفل فوق كل اعتبار، حيث إننا بحاجة إلى قانون يحقق التوازن، ويضمن للأب دوراً فاعلاً وحقيقياً في حياة أبنائه بعد الانفصال، وليس مجرد دور الممول، ويجب أن يتضمن ذلك آليات واقعية لتقدير النفقات، و"الحضانة المشتركة" أو ما يعرف بالاستضافة، وتفعيل دور مكاتب التسوية الأسرية بشكل حقيقي لتقريب وجهات النظر قبل الوصول إلى طريق التقاضي المسدود.
إن مستقبل مصر يعتمد على قوة أسرها، والأسرة القوية تحتاج إلى أب وأم يمارسان دورهما بتوازن، حتى وإن فرقت بينهما الأقدار، ولقد حان الوقت لينظر المشرع المصري بعين الحكمة والرحمة إلى معاناة الآباء والأبناء، ويعيد صياغة القانون ليكون أداة لبناء الجسور لا لهدمها، ولتحقيق العدالة للجميع، لا لإنصاف طرف على حساب تدمير باقي الأطراف.

Trending Plus