لماذا نحتاج إلى الثقافة (9).. عندما تغيب ثقافتنا نتوهم فوز الآخر

كنا نلعب الكرة فى الشارع أمام منازلنا، وكانت تلك هى التسلية الممكنة لجيل لم يعرف النوادى، ولا حتى مراكز الشباب إلا متأخرا، نجمع ما تيسر لنا من بواقي الإسفنج، ثم نضعه داخل جورب قديم، ونجتهد لكي تتخذ هذه المكونات شكلا كرويا بحجم متوسط، ثم نحاول تقليد ما نشاهده من مباريات قليلة لكرة القدم غالبا ما تذاع يوم الجمعة عصرا، ويكون المرمى عبارة عن (طوبتين) يحددانه، مع الاختلاف الدائم بين اللاعبين على المسافة الفاصلة بينهما، وغالبا ما يكون تقسيم الفرق بالقرعة، أو عن طريق لعب "كيلو بامية"، وفي بعض الأحيان عندما يكون العدد فرديا نلعب كرة القدم بنظام (الجون المشترك).
ظلت هذه هي الطقوس الأصلية للعب كرة القدم في أغلب الأوقات، حتى عرف جيل آبائنا السفر إلى الخارج والعودة بالهدايا التي من أهمها (الكرة الكفر)، وهي كرة من الجلد تشبه إلى حد كبير تلك التي نشاهدها في مباريات التليفزيون، وهي التي كان يمتلكها بعض من أقراننا الذين يحافظون على كراتهم بصورة مبالغ فيها نظرا لندرتها.
كان صاحب الكرة يسمح لنا متفضلا باللعب بكرته التي تجعلنا نشعر أننا كالنجوم الكبار، كانت لا تؤذي أقدامنا كما تفعل الكرة الشراب، كما أن حجمها وسرعة ارتدادها يجعلاننا نشعر أننا بالفعل في داخل مباراة رسمية، ولذلك فإننا كنا بالتأكيد نخضع لشروط صاحب الكرة، الذي لا بد أن يقسّم الفرق بنفسه، ويكون عضوا في الفريق الأقوى لضمان الفوز، على الرغم من أنه هو نفسه غالبا ما يكون أقل في مستوى اللعب من الجميع، كما أنه قد يقصي من اللعب من لا يحبهم من الأقران، وكما كانت له معاييره التحكيمية الخاصة التي قد يتدخل بها في سير المباراة، فيلعب دور الحكم ليقوم بفرض ضربة جزاء أو فاول غير مستحق لفريقه، أو يتدخل لاحتساب هدف غير صحيح، وهكذا، وإلا فسيكون عقاب الجميع أن يسحب الكرة، وينسحب من اللعب، ليحرمنا جميعا متعة اللعب بالكرة الكفر العالمية الحديثة.
كل مرة أستمع فيها إلى إشارة إلى فكرة العالمية، أو إلى نتائج واحدة من الجوائز الكبرى مثل نوبل أو أوسكار أو غيرها أتذكر فورا قوانين صاحب الكرة.
لقد استطاع الغرب أن يضع قواعد اللعبة بنفسه، ليجعل من النموذج الخاص به المعيار الأوحد لقياس مدى النجاح الذي يمكن أن يتمتع به أي مبدع أو عالم، وهي المعايير التي لا تنطبق بالضرورة على كل المبدعين، فمن الممكن أن يحقق عالم ما أو مبدع نجاحه الكبير في وطنه، لكن هذا العالم الغربي لا يعترف به، وبذلك يفقد تلك الصفة التي أقنعنا الغرب بأنها هي الأهم، وبأن صاحب الأثر لن يتمتع بأثره إلا إذا كان متمتعا بتلك الصفات التي يستحسنها الغرب.
هي نفسها القواعد الاستعمارية التي استطاع الغرب عن طريقها إقناعنا بأننا لن ننجح في التصنيع، وأننا يجب أن نكتفي بدور مصدر المادة الخام، لنظل على الدوام تحت سيطرة الحاجة إلى ما تنتجه صناعته، وهي القاعدة نفسها التي أنشأ في ظلها تلك الجوائز التي تضمن للحاصل عليها تسويقا إعلاميا تحت عنوان العالمية.
إنها كرته هو، وقواعده هو، فهل يمكن لنا أن نخرج عن هذه السيطرة التي تبدو خفية حينا، وجلية في أحيان أخرى، لنبتكر فنوننا، ونشئ جوائزنا، ونصوغ قواعدنا الخاصة للعالمية، من دون أن نكون تبعا لأحد؟ هل يمكن أن أحلم باليوم الذي يعود فيه احترامنا لفننا الخاص وإبداعنا الذي يميزنا عمن سوانا، دون أن نحاول مجرد تقليد الآخر؟
الحلم بالتأكيد ليس ببعيد، لا يحتاج سوى لإرادة أن نكون أنفسنا، وأن نضم إلينا من هم على شبه حقيقي بنا، لعلها تكون بداية جديدة لعالم حقيقي لا يخضع لتسويق الآخر لنفسه.

Trending Plus