"هندسة الغضب" واستهداف العلاقات المصرية مع حلفائها

في عالم بالغ التعقيد، حيث تتشابك خيوط السياسة والإعلام والتكنولوجيا، لم تعد الحروب تُخاض فقط على حدود الدول، بل امتدت إلى أعماق الوعي الجمعي، عبر ما يُعرف بـ"هندسة الرأي العام". لم تعد المعارك تُدار بالمدافع والطائرات، بل بالكلمة والصورة والمحتوى الموجَّه، حيث يتم تفكيك الاصطفاف الإقليمي، وضرب الثقة بين الحلفاء، والتلاعب بإدراك الشعوب من خلال أدوات ناعمة وأحيانًا خبيثة.
بل بات الوعي الجمعي ميدانًا لصراعات شرسة، تُدار بما يُعرف في الأدبيات السياسية والاجتماعية بـ"هندسة القبول الجمعي"، حيث يُعاد تشكيل الإدراك الجمعي لتبرير صراعات، أو خلق أعداء وهميين، أو حتى لهدم استقرار داخلي راسخ.
وتستند هذه الحرب الجديدة إلى استراتيجيات محكمة، تستغل الفضاء الرقمي كمنصة للهيمنة النفسية، وتُسخّر تقنيات الذكاء الصناعي وخوارزميات الاستهداف السيكولوجي لإعادة تشكيل الإدراك، وصناعة صورة ذهنية مشوهة عن الآخر. وكل ذلك يتم ضمن ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ"حروب الإدراك" و"الهندسة النفسية للجماهير".
مصر بين الصلابة والاتزان في مواجهة محاولات التشكيك
وفي قلب هذا الصراع المحتدم على الإدراك، تُعد مصر هدفًا مباشرًا في واحدة من أعقد جولات الحرب النفسية التي يشهدها الإقليم. منذ عقود، لم تكن مصر يومًا دولة تُدار بردود الأفعال أو تنجرّ وراء الاستفزازات اللحظية. فمنذ عبد الناصر وحتى قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ظلت عقيدة الدولة قائمة على التوازن الاستراتيجي، وضبط النفس، والتمسك بالكرامة الوطنية دون تهور أو الاندفاع. هذا لا يعني التهاون، بل يعني أن مصر التي خاضت حروبًا وجودية، وخرجت منها أكثر صلابة، تعرف جيدًا متى ترد، وكيف ترد.
وهنا لا بد من التفريق بين "ضبط النفس" كأداة من أدوات القوة، وبين "الضعف" أو "التهاون" الذي لا يعرف له التاريخ المصري سبيلًا. فالدولة التي خاضت حروبًا كبرى وانتقلت من الهزيمة إلى النصر، وأعادت تشكيل خريطتها السياسية والإقليمية، تدرك أن المعارك الحاسمة لا تُخاض بالغضب، بل بالعقل، ولا تُكسب بالاندفاع، بل بالاستراتيجية المحسوبة.
لكن الواقع الراهن يشير إلى أن مصر ليست فقط في مرمى استهداف تقليدي، بل تخضع لمحاولات ممنهجة لتفكيك بنيتها النفسية والسياسية، عبر آليات جديدة تقوم على ما يُعرف بـ"البرمجة الإدراكية" و"صناعة القبول الجمعي"، حيث تُستخدم أدوات الحروب المعرفية والرقمية لإرباك الداخل، وتفكيك الثقة بين مصر وشركائها الاستراتيجيين.
إذ تتعرض الدولة المصرية لحملات منظمة تسعى لتفكيك تحالفاتها الإقليمية، وعلى رأسها العلاقة مع المملكة العربية السعودية. هذه الحملات، وإن اتخذت شكل ردود شعبية أو ترندات مفاجئة، إلا أنها في حقيقتها تعكس عمليات نفسية مدروسة.
وفي خضم هذه المعركة، لم تعد وسائل الإعلام ناقلة للواقع فحسب، بل أصبحت أداة مركزية في "تصميم الواقع"، وتُظهر هذه الهجمات بصمات واضحة لما يُعرف بـ"العمليات النفسية"، حيث تُبث رسائل موجهة لتشويه صورة الحليف، وتحويل النقاش العقلاني إلى تحريض عاطفي، يدفع الشعوب إلى التصادم. ضمن ما يُعرف بـ"تصنيع القبول الشعبي"، وهي النظرية التي قدّمها المفكران نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان، مؤكدين أن الإعلام لا يخبرك بما تفكر فيه، بل يزرع فيك تصورات مسبقة تُوجّه طريقة تفكيرك ذاتها.
وهي تقنيات ذات جذور عميقة في علم نفس الجماهير والإعلام الجماهيري، تستند إلى التضليل، والمبالغة، وتوجيه الانفعالات عبر حسابات وهمية ولجان إلكترونية مدربة، تعمل على تحويل القضايا الظرفية إلى أزمات هوية، وتصوير الخلافات العابرة كصدامات وجودية.
هذه الحروب لا تُدار بالأسلحة التقليدية، بل بخوارزميات مصمّمة بعناية، ومنصات إعلامية تُستخدم كأدوات توجيه، تخدم مخططات الحرب النفسية المنظمة، لتبث رسائل مسمومة تستهدف ثوابت الوعي، وتضرب من الداخل شبكة التحالفات المصيرية.
العلاقة مع السعودية تحت مجهر الفوضى المصنّعة
وفي هذا الإطار المسموم من الحروب النفسية المنظمة وإعادة تشكيل الإدراك الجمعي، تبرز العلاقة بين مصر والمملكة العربية السعودية كهدف رئيسي لمحاولات الاختراق والتفكيك. فهذه العلاقة لم تكن يومًا وليدة اللحظة أو ظرفًا سياسيًا عابرًا، بل هي نتاج عقود من التنسيق والتحديات المشتركة.
من هنا، فإن أي محاولات للوقيعة بين الشعبين أو القيادتين لا يمكن اعتبارها خلافات طبيعية، بل هي ضرب مباشر لمنظومة الأمن الجماعي، وتخدم بوضوح أجندات تتراوح بين جماعة الإخوان، ووكلاء الفوضى الخلاقة، وأجهزة استخبارات تدير معارك الإدراك بمنهجية دقيقة. وغالبًا ما تأتي تلك المحاولات في صورة سجالات إلكترونية مفتعلة، توظّف ما يُعرف في الأدبيات الاستخباراتية بـ"إدارة الإدراك الجمعي" و"التحكم في الحشود، ضمن هندسة عدائية تهدف إلى تفكيك الاصطفاف العربي من الداخل، لا بالرصاص، بل بالمشاعر المصنّعة والانفعالات الموجّهة.
لقد أثبتت التجربة أن كل حالة فتور مصطنع في العلاقات بين القاهرة والرياض، لم تكن عبثية، بل نتيجة تفاعلات موجهة، تبدأ بزرع خطاب استقطابي حاد، وتغذية حالة من التذمر الشعبي، حيث يُستبدل الحوار العقلاني بالتحريض العاطفي، ويُعاد تشكيل صورة "الحليف" في الذهنية الشعبية ليبدو كخصم، بل كتهديد محتمل.
الهدف من هذه الحملات هو تفكيك الحلفاء، وإعادة رسم خريطة الاصطفاف الإقليمي. وبينما يبدو السجال على المنصات وكأنه جدل شعبي، إلا أن ما يجري هو مشروع هندسة غضب يستهدف تحويل مصر من دولة عاقلة متزنة إلى كيان غاضب فاقد لتوازنه.
وهنا تبرز إحدى أخطر أدوات الحرب النفسية: "صناعة العدو" و"خطاب التعبئة العدائية، حيث تُبنى صورة الآخر على أساس الخطر المصنوع، لا الحقيقة الموضوعية. تُستخدم في ذلك تقنيات مثل الاستهداف السيكولوجي، والتوجيه العاطفي المقنع، حيث تُصاغ رسائل دقيقة تُخاطب انفعالات كل فرد على حدة، وفقًا لمخاوفه، وبيئته، وقيمه، فتتشكل موجة من الغضب العام تُدار عن بُعد، وتُستخدم لتفجير التناقضات الكامنة، وتشويه الحلفاء.
والأخطر أن هذه الأدوات لم تعد حكرًا على الحملات العسكرية أو الأزمات الدولية، بل باتت جزءًا من المشهد السياسي والاجتماعي اليومي، حيث تُبث رسائل تحريضية تزرع الكراهية والانقسام، وتُنتج خطابات شعبوية موجهة، تمارس "التخدير الجمعي" عبر صناعة أبطال مزيفين، وشيطنة قوى عقلانية، وتحويل الخصوم السياسيين إلى كبش فداء تُعلّق عليهم كل أزمات الواقع.
ورغم متانة التحالفات، لا يمكن إنكار وجود شكل من أشكال التنافس بين القوى الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات. فهذا التنافس طبيعي في بيئة دولية متغيرة، وهو انعكاس لحرص كل طرف على تعزيز مكانته، وتوسيع نفوذه، وبناء نموذج تنموي يُحتذى به. لكنه تنافس لا يُبنى على النفي أو الإقصاء، ولا يستهدف الإضرار بالحليف، بل يسعى إلى الوصول للأفضل من خلال أدوات القوة الناعمة، ومشروعات التنمية، والمواقف الإقليمية الفاعلة.
مصر، التي تملك مشروعًا وطنيًا مستقلًا، لا تُقلل من شأن أحد، ولا تُهدد استقرار أحد، ولا تتخذ من تفوقها ذريعة للنيل من شريك أو منافس. فهي تتعامل بشرف مع قواعد اللعبة الإقليمية، وتحترم طموحات الجميع، ما دامت لا تُمارس على حساب سيادتها أو تُنافي أسس الشراكة الاستراتيجية. وفي هذا السياق، فإن التنافس بين الأشقاء لا يُعد نقيصة، بل دليل على الحيوية السياسية، شرط أن يبقى داخل إطار الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا أن يتحول إلى حالة من الصدام أو التراشق الإعلامي المصنوع.
مصر ووعي الدولة في مواجهة معركة اللاوعي
إذا كانت مصر تلتزم بالحكمة في إدارة علاقاتها الخارجية، فإن ذلك لا يعني القبول بأي تطاول. لكنها في الوقت نفسه لا تخوض معاركها تحت ضغط الانفعال أو الترندات، بل وفق حسابات دقيقة تحمي مصالحها القومية.
وما يحدث في الفضاء الرقمي ليس تعبيرًا نقيًا عن ضمير الشعوب، بل انعكاس مُشوّه لما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ"هندسة العداء الشعبي" و"إعادة تشكيل الإدراك الجمعي"، وهي أدوات تُستخدم لصناعة غضب يُدار عن بُعد، ويُوظّف لخدمة أجندات خارجية. ويتم ذلك من خلال الاستهداف السيكولوجي الدقيق، حيث تُبث رسائل مُصمّمة خصيصًا لكل فئة، تبعًا لمخاوفها وانفعالاتها ومواقفها المسبقة، في عملية تُعرف بـ"التوجيه العاطفي الإقناعي"، إنها معركة جديدة، تُخاض في باطن الوعي، بالكلمات لا بالرصاص، وبالخوارزميات لا بالجيوش.
ولعل الأخطر أن هذا التلاعب لا يأتي من الخارج فقط. بل هناك أطراف داخلية، سواء كانت تيارات مهمشة أو شبكات مصالح متضررة من صعود الدولة الوطنية، ترى في الفتنة فرصة للعودة والهيمنة. هؤلاء لا يُحركهم الانتماء، بل الانتفاع، ولا يسعون إلى حماية الدولة، بل إلى تقويضها من الداخل، عبر تصعيد الأزمات وركوب موجات الغضب الشعبي.
هذه الاستراتيجيات لا تُنفذ عبر قنوات تقليدية، بل تُدار من غرف مظلمة في الفضاء الرقمي، عبر منصات تعتمد على خوارزميات الذكاء الصناعي، وحسابات مزيفة تتحدث بلهجة الناس وتُحرّك عواطفهم، لكنها في واقع الأمر لا تعبّر عنهم، حتى وإن صدرت عن بعض المواطنين أو النخب يجب الوعي، وهي تُستغل لصياغة مشهد شعبي مشحون يقود إلى عزل الدولة عن شركائها، واستنزافها في معارك إدراكية طويلة، وفي هذه الحالة فالحديث موجهة للجانبين، فالعدو لديه هدف بعزل المملكة عن حلفاءها وخاصة مصر، كما أنه حريص على عزل مصر عن محيطها من حلفاء وأصدقاء.
الخطورة اليوم تكمن في أن الصراع الحقيقي لم يعد في ميادين الجيوش، بل في أعماق اللاوعي الجمعي. الكلمات أصبحت سلاحًا، والمنصات الرقمية ساحات حرب، والرموز تُصنع لا تُنتخب، والعواطف تُستهدف قبل العقول. وهذا يفرض على مصر، وعلى كل دولة مستهدفة، أن تُعيد تعريف "الأمن القومي" ليشمل "إدارة الوعي العام" كجزء لا يتجزأ من معادلة السيادة.
فالدولة المصرية لا تُساوم على كرامتها، لكنها تدرك أيضًا أن المعركة اليوم معركة وعي. وأن الانجرار وراء الضجيج قد يكون هو الهدف لا الوسيلة. فكلما تصاعد الغضب، تراجعت الحسابات، وزادت فرص استنزاف الدولة في مساحات صدام ليست من صُنعها.
الدراسات الإعلامية الحديثة تؤكد أن العاطفة تسبق العقل في تشكيل المواقف الجماهيرية، وأن المعلومات الدقيقة غالبًا ما تُهزم أمام الخطاب الحماسي الموجّه. ومن هنا، تُبنى حملات الكراهية لا على الحقائق، بل على سرديات انفعالية مُصمّمة لتُقنع لا لتُفكّر.
ومن هنا، تبرز مسؤولية الإعلاميين والنخب والمثقفين في تفكيك الخطابات المسمومة، وكشف هندسة العداء، والتمييز بين من يُخطط ومن يُستخدم. فمصر التي تعرف من ساندها، وتدرك من يعاديها، لن تنجر إلى معارك استنزاف تُفقدها بوصلتها، أو تُخرجها من اصطفافها الطبيعي، وريادتها الحتمية التي تفرضها دوافع التاريخ والاعتبارات الجيوسياسية.
إن ما تواجهه مصر اليوم لا يقتصر على تحدياتها الإقليمية المعتادة، بل يمتد إلى محاولات منهجية لتحريضها ضد حلفائها، وتشويه تحالفاتها، وتفريغ مشروعها الوطني من اتزانه الاستراتيجي. المستهدف هو دفع مصر من موقع "العقل الرشيد" إلى موقع "الغضب المندفع"، ومن دولة صاحبة مشروع إلى كيان مُربك غارق في استقطابات زائفة وصدامات مصطنعة.
ختامًا، إن الدولة المصرية التي اختارت أن تُبنى بالعقل، لن تُهدم بالعاطفة. فالحرب لم تعد تقليدية، بل باتت معركة وعي، تُدار بمفردات مصممة بدقة، تستهدف اللاوعي، وتُعيد تشكيل المواقف العامة عبر صور مزيفة وشعارات براقة. لكن مصر، بتاريخها ووعيها وتجربتها، تبقى قادرة على كسر هذه الحلقة، ورفض هذا المشروع، والانتصار عليه… لا بالانفعال، بل بالاتزان السيادي، والقرار المستقل، والوعي الجمعي الحصين.

Trending Plus