الأقباط يستعدون لصوم السيدة العذراء فى أغسطس.. رحلة روحية تمتد أسبوعين.. الاعتماد على الأطعمة النباتية والابتعاد عن الحيوانية.. احتفالات بمحافظات مصر.. والأديرة القبطية مقصد الزوار والمتلمسين للبركة

فى الـ 7 من شهر أغسطس، يبدأ الأقباط فى مصر والعالم أحد أهم وأقدس الأصوام، صوم السيدة العذراء مريم، يستمر هذا الصوم لمدة خمسة عشر يومًا، لينتهي بالاحتفال بعيد صعود جسد السيدة العذراء في الثاني والعشرين من أغسطس.

ويتجاوز صوم العذراء كونه مجرد فريضة دينية، ليصبح موسمًا روحيًا واجتماعيًا فريدًا يتردد صداه في كل بيت قبطي، من أقصى الريف المصري إلى صخب المدن، وصولًا إلى أديرة الرهبان والراهبات. هذه الفترة ليست مجرد امتناع عن الطعام، بل هي رحلة روحية عميقة، تتخللها الصلوات والتسابيح وزيارة الأماكن المقدسة، تترسخ فيها قيم المحبة والتسامح والتقرب إلى الله.

الجانب الروحى تقوى ونسك في حب مريم

وذكر الأب دوماديوس كاهن كنيسة مارجرجس بأسوان فى تصريحات خاصة لـ" اليوم السابع " أن صوم العذراء من الأصوام ذات الدرجة الثانية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويتميز بطبيعته الكنسية والروحية الصارمة.

ويلتزم الأقباط خلال هذه الأيام الخمسة عشر بالامتناع الكامل عن تناول جميع المنتجات الحيوانية، وهذا يشمل اللحوم بأنواعها (حمراء وبيضاء)، الأسماك، البيض، ومنتجات الألبان بجميع مشتقاتها كالحليب والجبن والزبدة والقشدة، ويعتمد الصائمون بشكل أساسي على الأطعمة النباتية مثل الخضروات، الفواكه، البقوليات، الحبوب، والزيوت النباتية.

الهدف الأسمى من هذا الصوم هو التشبُّه بالعذراء مريم في حياتها النقية والزاهدة، والتأمل في فضائلها كأم للمسيح وشفيعة قوية للمؤمنين، كل عنصر في هذا الصوم يحمل دلالة رمزية عميقة.

الامتناع عن الطعام الدسم:

يرمز إلى الزهد في شهوات الجسد والتسامي بالروح فوق الماديات، اقتداءً بحياة العذراء التي كرست حياتها للعبادة والنقاء.

الطعام النباتي:

يرمز إلى التواضع والبساطة والنقاء، ويعكس التذكير بـ "جنة عدن" التي كانت فيها البشرية تعيش على النباتات قبل السقوط، ويُظهر الاعتماد على ما توفره الأرض من خيرات بسيطة.

التركيز على الصلاة والتسابيح:

هو رمز لـ الارتفاع الروحي والتقرب إلى الله، فصوم الجسد يهدف إلى تغذية الروح بالصلاة والتأمل. يُعرف عن السيدة العذراء مريم كثرة صلاتها وتسابيحها، ولذلك يقتدي بها المؤمنون في تكثيف عبادتهم خلال هذه الفترة.

زيارة الكنائس والأديرة:

ترمز إلى البحث عن البركة الروحية والتوبة والاعتراف، والوحدة مع جسد المسيح في الكنيسة.

وتكثر الصلوات الفردية والجماعية، وقراءة الإنجيل، وحضور القداسات اليومية، خاصة في الكنائس التي تحمل اسم السيدة العذراء. تشهد هذه الفترة ازديادًا ملحوظًا في التردد على الكنائس، حيث يشارك الأقباط في التسبحة اليومية التي تُعرف بـ "تسبحة نصف الليل" أو "تسبحة العذراء"، والتي تتضمن مدائح خاصة بالسيدة العذراء وتعتبر جزءاً أساسياً من طقس الصوم.

التقاليد الشعبية.. احتفال جماهيرى فى القرى والمدن

وأضاف الأب دوماديوس أنه بعيدًا عن الطابع الكنسي الصارم، يكتسي صوم العذراء بصبغة اجتماعية وشعبية مميزة، خاصة في القرى والنجوع المصرية، حيث تتحول الشوارع المحيطة بالكنائس إلى ساحات احتفال صاخبة، تُقام فيها الموالد الشعبية التي تجذب الآلاف من الزوار، مسلمين ومسيحيين على حد سواء.

تنتشر الأضواء والزينة، وتُعرض المنتجات المحلية والحلويات، وتُقام الألعاب الترفيهية، ما يضفي على الأجواء بهجة خاصة. تُعتبر هذه الموالد فرصة للتقارب الاجتماعي وتبادل الزيارات بين الأهل والأصدقاء، وتتجلى فيها مظاهر الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع المصري. يحرص الكثيرون على التبرك من الأيقونات المقدسة وزيارة المزارات، اعتقادًا منهم في شفاعة السيدة العذراء.

الأديرة القبطية: مقصد الزوار والملتمسين للبركة

وتمثل الأديرة القبطية، وخاصة تلك التي تحمل اسم السيدة العذراء، القلب النابض لموسم صوم العذراء. يتوافد الآلاف من الأقباط، من داخل مصر وخارجها، على أديرة مثل دير درنكة بأسيوط، ودير المحرق بالقوصية، ودير العذراء بجبل قسقام، ودير العذراء بحارة زويلة بالقاهرة، وغيرها من الأديرة المنتشرة في ربوع مصر.

هذه الأديرة ليست مجرد أماكن للعبادة، بل هي حصون للروحانية والتاريخ المسيحي، تحتضن رفات قديسين وأيقونات معجِزية. يمكث الزوار في الأديرة لعدة أيام، يشاركون الرهبان والراهبات صلواتهم وتسابيحهم، ويلتمسون البركة والشفاء. تُقام في الأديرة عظات روحية ولقاءات إرشادية، مما يعمق التجربة الروحية للزوار ويمنحهم فرصة للانفصال عن صخب الحياة اليومية والتقرب من الله في جو من السكينة والتأمل.

صوم العذراء والتعايش: جسر للتفاهم بين الأديان

ومن الجوانب اللافتة للنظر في صوم العذراء هو حجم المشاركة والتعايش الذي يظهره المجتمع المصري. فكثير من المسلمين يحرصون على زيارة موالد السيدة العذراء، وبعضهم يتشارك في الأجواء الاحتفالية، ويقدم النذور، بل ويشارك في الصوم نفسه كنوع من التبرك أو التعبير عن المحبة للسيدة العذراء التي تحظى بمكانة رفيعة في الإسلام أيضًا. هذا التفاعل يعكس عمق النسيج الاجتماعي المصري، ويؤكد أن المناسبات الدينية يمكن أن تكون جسورًا للتفاهم والوحدة، لا مصادر للانقسام.

إرث روحي يتجدد عامًا بعد عام

ويظل صوم السيدة العذراء مريم موسمًا روحيًا متجددًا، يعكس عمق الإيمان والتقاليد الراسخة في الكنيسة القبطية، ويبرز جمال التعايش والتفاهم في المجتمع المصري. هو فترة للتطهير الروحي، والتواصل مع القداسة، وإعادة شحن الطاقات الإيمانية، من القرى الهادئة التي تشهد بهجة الموالد، إلى الأديرة الصامتة التي تحتضن أرواحًا متعبدة، يظل صوم العذراء محطة رئيسية في رحلة كل قبطي، وإرثًا روحيًا يتناقله الأجيال، محملًا بعبق التاريخ وروحانية الحاضر.