جمال عبد الناصر يكتب: حواديت خالد جلال تتقاطع فيها الدموع مع الضحك والدهشة

في عرض مسرحي شديد الخصوصية والثراء الإنساني، قدّم المخرج الكبير خالد جلال مسرحية جديدة هي "حواديت"، من صياغته وإخراجه، وذلك ضمن مشروع استوديو المواهب – الدفعة الثالثة المجموعة A دفعة "علي فايز"، وهذا العرض يشبه كتابًا مفتوحًا من القصص، يأخذنا في رحلة بين طبقات مختلفة من البشر، من أزمنة متعددة، في حكايات تمزج بين الحقيقة والخيال، الألم والضحك، الفقد والانبعاث، ويؤكد أن لكل إنسان "حدوتة" تستحق أن تُروى، لتكون هذه التجربة تتويجًا لجيل جديد من الموهوبين في عرض ينتمي إلى مدرسة خالد جلال المتفردة، تلك التي تمزج بين الوعي بالواقع، واللعب المسرحي، والانخراط العاطفي.
حواديت .. ليس مجرد عرض مسرحي، بل هو رحلة مشاعر، ومرآة للذات، ومختبر تمثيلي صنعه خالد جلال بحب وشغف، ليُخرج من كل موهبة أفضل ما فيها، إنه عرض يطهر القلب، ويحتفي بالإنسان، ويذكّرنا دومًا أن لكل منا حكاية تستحق أن تُروى على المسرح.
مسرحية حواديت
-
حواديت خالد جلال.. إنسانية من قلب الحكاية إلى خشبة المسرح
العرض يبدأ بصورة بصرية وشاعرية لافتة، مع ظهور شخصية شهرزاد على خلفية موسيقى "ألف ليلة وليلة"، لتفتح أمام الجمهور كتاب "الحواديت"، ثم تأتي أولى القصص، وهي قصة خالد جلال نفسه، من التأسيس والبناء إلى صناعة النجوم، مرورًا بتجربته الممتدة داخل مركز الإبداع الفني، ورحلته وصبره في اكتشاف وصناعة النجوم، وهي بمثابة مدخل حميمي للعرض، يبدأ منه الراوي ليقول لنا: "هذه ليست فقط حكايات الآخرين، بل هي أيضًا حكايتي"، ليكون العرض تكريماً رمزياً لتجربته التي رسخت فكرة "المسرح مصنع للحياة".
تتوالى الحكايات، فنبدأ من الجنوب وتحديدًا من قرية " شطورة "، وهي إحدى القرى التابعة لمركز طهطا بمحافظة سوهاج في الصعيد مع الفنانة نادين خالد، التي قدمت بصدق وتوهج حكاية "بحر"، العازف على الناي، وحبه البريء لـ"نعمة"، وتلك الحكاية كانت بمثابة مفتاح شعوري للعرض، حيث يتسلل الصوت والظل والحنين عبر أدائها البديع، ثم تنتقل بنا الحكايات إلى مشهد فني واقعي عن الصراع بين الفن الجاد ونجومية السوشيال ميديا، من خلال قصة أستاذ وتلميذته التي انجرفت إلى "الترند"، لكنها ما زالت تحتفظ بشرارة الموهبة، كما ناقش العرض بذكاء قضايا مثل قضية المغالاة في متطلبات الزواج، التي قُدمت في مشهد ساخر وواقعي، والتنمر الجسدي والنفسي من خلال قصة الشاب البدين وأمه المصابة بالزهايمر، وحكاية اليأس والانتحار، التي تُظهر كيف يمكن لخمس دقائق من الحُب أو الأمل أن تغيّر المصير، وقصة الأسطى عمارة من درب شكمبة، وقضية الحرية والعلاقات المتسلطة، وقصة عريس يكتشف مرض عروسه الجلدي في ليلة الزفاف، ثم نكتشف أنه مصاب بالسرطان في مفارقة إنسانية بالغة التأثير.
مسرحية حواديت للمخرج خالد جلال
كما لم يغفل العرض الكوميديا الاجتماعية في قصة "المفتئة" لصلاح الدالي ، وقصة "شكري الطيار والبيتزا"، وحكاية ولادة أحمد ايمن حسين و "توبة الحرامية"، وقصة التحرش وسلبية المجتمع، بالإضافة إلى استعادة فترة كورونا بتناول ساخر وإنساني لتجربة التباعد والعزلة.
-
خالد جلال.. رؤية إخراجية تصنع عرضًا متكاملاً للفرجة
ينتمي خالد جلال إلى مدرسة المسرح الذي يخلق حالة شعورية وجمالية متكاملة، ويعتمد في إخراجه على ما يمكن تسميته بـ"الإيهام الواعي"، حيث يدخل المشاهد في الحكاية بكل وجدانه، ثم يستخدم تقنيات مثل كسر الإيهام و"المسرح داخل المسرح" بأسلوب بريختي، ليوقظه من التلقي السلبي ويعيد إليه الوعي النقدي.
ويُعد خالد جلال واحدًا من أبرز صُنّاع المسرح المصري الحديث، لا لكونه مخرجًا فقط، بل لأنه يُجيد صناعة الفرجة المتكاملة، فهو المايسترو الذي يوزع النغمات بين ممثليه، يرسم الحركة بانسيابية بالغة، ويُخرج من كل موهبة طاقتها القصوى، وهنا في "حواديت"، بدا واضحًا كيف يُدير خالد جلال الخشبة وكأنها لوحة متغيرة، تتبدل فيها المشاعر بسلاسة المشهد السينمائي، لكن على المسرح الحي.
يعتمد الفنان والمخرج الكبير خالد جلال على التكتيك النفسي والتفاعل الحسي، فلا يكتفي بالتمثيل بل يطلب من كل فنان "أن يعيش الشخصية"، وهو ما بدا جليًا في أداء الدفعة كلها، التي خرجت من رحم التدريب إلى قلب الفرجة، فقد رسم اللوحات البصرية ببراعة ، وقام بتوزيع المشاهد ديناميكيًا على الخشبة وكلها عناصر تؤكد أن العرض كان مخططًا بمقياس فني دقيق، يخدم الرسالة دون أن يبتعد عن البساطة والصدق.
ياسمين عمر في عرض حواديت
-
الديكور والموسيقى.. عناصر توحي ولا تشرح
اعتمد الديكور وهو من تصميم محمد الغرباوي على الموتيفات البسيطة والرمزية، باستخدام إكسسوارات محدودة لكنها معبرة، تُوحي بالمكان دون أن تُثقله بصريًا، ليبقى تركيز المشاهد على الأداء والحدوتة، بينما لعبت الموسيقى التي قام بإعدادها أحمد الشرقاوي ورنا عطوفة دورًا دراميًا فاعلًا، حيث انتقلت بين الحزن والفرح والكوميديا والغضب، مما أسهم في ضبط إيقاع العرض ومزاجه الشعوري، كما جاءت أغنية "العفريت" كلمات شهاب العشري كتعبير مرح ومفاجئ ضمن السياق الدرامي ، لتضيف نكهة خاصة للعرض الذي تميز أيضًا بتكامل عناصره، بداية من البوستر والبامفلت الذي صممته مي عبد القادر، أو دخول الجمهور نفسه لصالة العرض، وفي إشراف علا فهمي كمخرج منفذ، حيث بدا واضحًا أثرها في ضبط تفاصيل الدخول والانضباط العام، وهو ما يعكس دور المخرج المنفذ كعنصر محوري في الحفاظ على إيقاع العرض واستقراره التنظيمي والفني، من خلال التنسيق الدقيق بين عناصر الفريق وضمان تنفيذ الرؤية الإخراجية بسلاسة وانسجام.
صلاح الدالي احد ابطال حواديت
-
دفعة الصبر والجهد تروي حواديت من أعماق الوجدان الإنساني
من أبرز ما يميز عرض "حواديت" هو الأداء الجماعي المتناغم، رغم كثرة عدد الممثلين، إذ بدا كل منهم وكأنه "نجم حكايته"، ويستحق الكثير منهم الإشادة الخاصة، فمثلاً، الفنانة نادين خالد تمتلك كاريزما آسرة، وأدت مشهد "بحر" بحساسية وجمال بصري وصوتي، كما قدمت مشهد السيدة العجوز بحرفية ممثل درس الشخصية من أبعادها الثلاثة، مضيفة لطبقات الأداء صدقًا داخليًا لافتًا وحضورًا مسرحيًا يؤكد وعيها بأدواتها.
أما ياسمين عمر فقدمت تنوعًا رائعًا بين الشخصيات، وأظهرت مرونة فنية عالية، والفنان صلاح الدالي كوميديان بالفطرة، يعرف كيف يضحك الجمهور دون ابتذال، ويُجيد توظيف الإفيه وتوقيت الإلقاء بذكاء مسرحي لافت. وقد تجلّت موهبته في تجسيد شخصيات متعددة ومتنوعة، ما يؤكد أنه ممثل يمتلك حسًا كوميديًا أصيلًا، إلى جانب قدرته على تمرير اللمسة الإنسانية متى استدعى الدور، ليصنع توازنًا دقيقًا بين الإضحاك والتأثير.
احمد الشرقاوي واحمد هاني من نجوم الحواديت
والفنان أحمد شاهين موهبة خفيفة الظل وصاحب حضور محبب، وقدّم مشهد الزوج ومشهد الابن بخفة وتلقائية تحترم الإيقاع الداخلي للشخصيتين، مؤكدًا تحكمه في أدواته، وقدرته على الانتقال السلس بين النبرة الكوميدية واللمسة الإنسانية بصدق وتوازن، أما إسراء حامد جسدت مشهدين لعروستين يختلف كل منهما عن الآخر وهي ممثلة تمتلك إحساس كبير وصدق فني نادر، واستطاعت أن تنقل انفعالات الشخصية ببراعة لافتة، مستخدمة أدواتها التمثيلية بحرفية شديدة، فهي فنانة متمكنة، تُعبر بوجهها، وبجسدها، وبنبرة صوتها، وبكل ما تملك كممثلة، لتقدم أداءً مشبعًا بالحقيقة، يعكس وعيها العميق بالشخصية والموقف الدرامي، ونجد أيضا نيفين رفعت التي تمتلك أداءً محترفًا وثقة حقيقية على الخشبة، وهي فنانة يعاد اكتشافها من خلال المخرج خالد جلال .
نادين خالد واحمد شاهين
شهاب العشري هو مفاجأة العرض بحق، يمتلك حضورًا مميزًا، ويجمع بين التراجيديا والكوميديا بخفة نادرة واتزان لافت، وقد أدهش الجمهور بقدرته على التنقل السلس بين الشخصيات المختلفة، مؤديًا كل دور بإحساس مختلف دون أن يفقد صدقه أو تماسكه، ويتمتع بوعي فني عالٍ، وتمكن واضح من أدواته كممثل، سواء على مستوى التعبير الجسدي أو الإيقاع الداخلي للشخصية، مما يجعل أداءه نموذجًا يُحتذى به في التنوع والتكنيك.
وقدمت شيري أشرف أكثر من شخصية خلال العرض، لكنها تألقت بشكل خاص في دور عروسة الماريونت التي يتحكم فيها لاعب العرائس، حيث قدّمت أداءً حركيًا وتعبيريًا بالغ الدقة والاتقان، استطاعت بجسدها ونظراتها أن تنقل الإحساس بالقيود المفروضة على الشخصية، فجاء أداؤها مزيجًا من الوعي الجسدي والبراعة التمثيلية، يؤكد امتلاكها لقدرات فنية واعدة ، وفي نفس المشهد يشاركها يوسف مصطفي، وهو ممثل متعدد القدرات، تألق في أكثر من شخصية خلال العرض، لكن حضوره كان لافتًا بشكل خاص في دور لاعب العرائس وصانعها، ضمن مشهد العروسة، وقدّم أداءً مركبًا، جمع بين القسوة الرمزية والبرود المحسوب، ليعكس ببراعة السلطة القمعية التي تمارس على الطرف الأضعف، وتميز بسيطرة جسدية دقيقة، وتعبيرات محسوبة، تؤكد وعيه بطبيعة الشخصية وديناميكيتها، ما يدل على تمكنه من أدواته كممثل قادر على التحول والتلون الدرامي.
اسراء حامد في عرض حواديت
في الحقيقة كل الممثلين في هذا العرض يستحق كل منهم كتابة مقال منفصل عنه ، وبرغم تفاوت المساحات، فإن الجميع قدّم أداءً مميزًا ومبشرًا بمواهب واعدة، فمحمد عادل قدم لنا أداء متزن وجاذبية، وعمر حمدي وحسام سعيد يمتلكان كاريزما من نوع خاص ، وآية ماجد متميزة جدا وتتمتع بتنوع في الأداء في دور الام أو في أدوار اخري وتمتلك روح خفيفة وكاريزما، ورنا عطوفة وعائشة عطية تمتلكان أداءً مدهشًا، ورغم انحدارهما من جنسيات مختلفة، فقد اندمجتا بسلاسة لافتة في نسيج العرض، وتمكّنتا من تجاوز حواجز اللغة والثقافة، ما يعكس وعيًا أدائيًا عابرًا للجغرافيا، وقدرة على الالتزام بالإيقاع الجماعي دون أن تفقد كل منهما بصمتها الخاصة، وسالي رشاد قدمت مشهد الفنانة المتسلطة بواقعية لاذعة، ورغم أن المشاهد التي قدّمتها راندا ثروت كانت محدودة، إلا أنها استطاعت أن تترك أثرًا لافتًا في كل ظهور، بما تمتلكه من حضور داخلي وصدق أدائي يميز الموهبة الحقيقية، ما يجعلها جديرة بمساحة أكبر تستوعب طاقتها الفنية.
ومن الموهوبين المميزين أيضًا: مي عبد اللطيف، ندى فاضل، أحمد أيمن، طارق الشريف، هند حسام الدين، ياسمين سراج، مي حسين، غفران الشاعر، أمنية النجار، محمد صلاح، فتحي محمود، مريم عاطف، محمد سعدون، سيف الدين أمين، إيمان صلاح الدين، أحمد عمرو، محمد وليد، فجميعهم، دون استثناء، قدموا طاقة وحضورًا يليق بخريجي مركز الإبداع، ويستحق كل منهم مقالا منفصلا نكتب عنهم في جزء آخر من المقال .
-
تطهير وجدان الجمهور
كما في معظم عروضه، يُنهي خالد جلال "حواديت" وقد ترك بداخلنا أثرًا شعوريًا عميقًا، وهذا العرض ليس فقط احتفالًا بالحكاية، بل هو تمرين وجداني في التأمل، والضحك، والتفكر، والتطهر، وقد استطاعت هذه الدفعة من المواهب أن تنجح في عبور الخشبة إلى قلوبنا، وأن تُضيف فصلًا جديدًا من فصول الإبداع المسرحي في مركز الإبداع الفني.
مي عبد اللطيف في عرض حواديت
محمد عادل ومحمد سعدون من ابطال عرض حواديت

Trending Plus