قمة بنكهة "الانترفيو".. أفريقيا وصدمة "الهيمنة الذكية"

جلس الزعماء الأفارقة على المائدة البيضاوية.. لا خرائط على الطاولة، لا ملفات، فقط ترامب ينظر إليهم وكأنه يختار موظفًا في شركته العقارية، وحتى عندما علّق على لغة أحد الرؤساء، بدا وكأنه يختبر قدرتهم على التفاوض بلغة المصالح الكبرى، في مشهد أقرب لاختبار توظيف، منه إلى قمة سياسية بين قادة دول، وهو ما أثار جدلا كبيرا، خاصة وأن المسألة لم تكن مجرد صدفة بروتوكولية، بل تجلٍّ واضح لنمط جديد من العلاقة الدولية، تحوّل فيها مفهوم “التحالف” إلى وظيفة، تحت مظلة ما بات يُعرف بـ”الهيمنة الذكية"، والتي تمنح القوى الكبرى القيادة المطلقة، دون أن تتكبد خزانتها أعباء المزايا الاقتصادية والأمنية التي طالما وضعتها على كاهلها على مدار عقود طويلة من الزمن.
هذا المشهد لم يكن استثناءً، بل امتدادًا لنمط متكرر في السياسة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، حيث لم تعد واشنطن تبحث عن حلفاء بالمعنى التقليدي، بل عن وكلاء إقليميين يمكنهم تنفيذ أجندتها، داخل مناطقهم الجغرافية، دون كثير من التفاوض أو المقاومة، وهو النموذج الذي بدا مؤخرا في الشرق الأوسط، عندما أدارت الولايات المتحدة ملف الصراع الإيراني الإسرائيلي من خلف الستار، ودفعت تل أبيب إلى الواجهة، قبل أن تتدخّل مباشرة في اللحظة التي رأت فيها مصالحها مهدّدة، ثم تعلن بنفسها نهاية الحرب، وكأنها كانت المشرف العام على المشهد من البداية إلى النهاية، وهو ما يمكن استلهامه من توقيت الضربة العسكرية والتي جاءت بعد تعثر المفاوضات بين طهران وواشنطن، حول الملف النووي، بل ويتجلى في تصريحات مسؤولي الإدارة الأمريكية، والذين أكدوا التنسيق معهم قبل اندلاع الهجوم.
الصفقة التي تقدمها واشنطن، مقابل القبول بدور "الوكيل"، تبدو أقل بكثير من المتوقع، فإدارة ترامب لا تقدم مزايا ولكنها تبادر برفع العقوبات المفروضة على الدول المارقة، مع مزيد من النفوذ المحدود في مناطقها الجغرافية، والذي يرتبط في الأساس بتنفيذ الأجندة التي يتبناها البيت الأبيض في إعادة رسم الأقاليم من جديد، وذلك حال التزامها بما تفرضه عليها من شروط، وهو ما يعكس عقيدة الرئيس ترامب التي تقوم في الاساس على تقليص المزايا التي يراها ذات تكلفة باهظة، وهو ما يسعى تطبيقه في مناطق أخرى من العالم، ومنها إفريقيا.
ولكن يبقى التساؤل.. لماذا إفريقيا الآن في خضم الصراع المتنامي في الشرق الأوسط واشتعال الصراع في أوكرانيا وعجز واشنطن عن ممارسة دورها في احتواء الصراعات الاقليمية هنا او هناك؟؟ وهو التساؤل الذي ترتبط إجابته بالعديد من الأبعاد ذات الاهمية القصوى، منها التنافس الأمريكي مع روسيا والصين، بالإضافة إلى هشاشة الأوضاع في القارة السمراء، خاصة على الصعيد الاقتصادي، في ظل أوضاع عالمية تبدو صعبة للغاية، ورغبة دولها في الحصول على دعم القوى الكبري حتى تتجاوز كبواتها، وهو ما من شأنه تحقيق سابقة دولية يمكن استلهامها، حال نجاحها، في مناطق اخرى من العالم.
والحديث عن تحقيق "سابقة" دولية من شأنها تعزيز مفهوم الوكالة كبديل للتحالفات التقليدية، انطلاقا من أفريقيا، يعكس كونها ساحة اختبار للمفهوم الجديد، في ضوء العديد من المعطيات، ربما أهمها صعوبة الأوضاع الاقتصادية والسياسية، والتي تدفع الى خلق حالة من التنافس القاري حول استرضاء الولايات المتحدة، خاصة وان القارة تداخلت مؤخرا في العديد من القضايا الدولية المثارة على غير رغبة واشنطن، وعلى رأسها مستجدات الصراع في الشرق الاوسط، في اعقاب احداث السابع من اكتوبر، خاصة بعدما رفعت جنوب أفريقيا دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وهو ما أغضب ترامب إلى الحد الذي حاول فيه إحراج رئيسها سيريل رامافوزا على الملأ خلال زيارته للبيت الأبيض عبر عرض فيديو قيل انه لانتهاكات عنصرية ترتكب في بلاده.
الدور الأفريقي ربما لا يقتصر على الشرق الأوسط، وانما قد يمتد الى مناطق أخرى، وإن كان على استحياء، على غرار الأزمة الأوكرانية او حتى قضية تايوان في المستقبل، في ظل التوغل الروسي في القارة والتداخل الصيني القوى، حيث يبقى الدعم المقدم من كلا الدولتين لدول القارة، سبيلا لتعزيز شرعية مواقفهما في إطار صراعاتهما مع القوى الكبرى، وهو ما يمثل خطرا دامغا على الرؤى والمواقف الأمريكية.
وفي هذا السياق، تتحول إفريقيا إلى ساحة تنافس مفاهيمي، بين نموذج “الوكيل الأمريكي” الذي يُنفّذ ولا يفاوض، وبين نموذج “الشريك السيادي” الذي تحاول روسيا والصين دعمه، وإن بدوافع براجماتية عبر تقديم استثمارات وبنى تحتية وتكنولوجيا، مقابل ولاء سياسي جزئي أو دعم في المؤسسات الدولية.
ولكن هل ينجح رهان واشنطن رغم نظرتها الاستعلائية التي بدت في لقاء الرئيس مع نظرائه الأفارقة؟.. يبدو هذا التساؤل هو الأبرز في اللحظة الراهنة، خاصة عند المقارنة بين ما تقدمه واشنطن من مزايا باتت محدودة للغاية، مقابل مشاريع ضخمة تقدمها الأطراف الأخرى، ناهيك عن الصفقة الأمريكية لا تقدم ضمانات للاستقرار الإقليمي في القارة بل أنها تحولها الى ساحة للاستقطاب بين القوى الدولية الكبرى، وهو الأمر الذي لم يعد جديدا على القارة، حيث عانت كثيرا على مدار عقود طويلة، جراء صراعات النفوذ بين القوى الكبرى للسيطرة على أراضيها، ومواردها، سواء إبان الحقبة الاستعمارية أو الحقب الأخرى التي تلت ذلك.
والكرة الان في ملعب أفريقيا نفسها، فعليها الاختيار ، ليس بين الانحياز لفريق على حساب الاخر، وانما في صياغة بنيتها المفاهيمية بين مفهوم "الوكالة"، في اطار العمل لصالح قوى بعينها، من جانب، ومفهوم الشراكة، والقائم على الندية والمصالح المشتركة، في هندسة علاقاتها الدولية، سواء في الداخل القاري او على مستوى علاقاتها مع القوى الكبرى، خاصة وأن المفهومين معا باتا يشكلان جزءً من الصراع، بين القوى الكبرى، في إطار محاولات أمريكا لتحقيق الهيمنة الأحادية ذاتية الشرعية، ورغبات منافسيها، بل وقطاع كبير من حلفائها التاريخيين في تغيير قواعد اللعبة الدولية، عبر التحول نحو عالم متعدد الأقطاب.
وهنا يمكننا القول بأن نقطة الانطلاق تبدأ من الداخل القاري، عبر تعزيز التعاون مع القوى الأفريقية المؤثرة والتي من شأنها الدفاع عن مصالح القارة والتعبير عنها في مختلف المحافل، وهو ما تحقق فعليا خلال السنوات الأخيرة عبر شراكات قوية مع مصر سواء في الاستثمار او المناخ او الامن وغيرها، وهو ما يعكس نجاعة هذا النموذج في مواجهة محاولات جر القارة إلى دائرة الاستقطاب، كما أسهم بصورة أو بأخرى في تصاعد دور القارة ودولها في صياغة مواقف قوية ومؤثرة فيما يتعلق بالقضايا العالمية، وهو ما يعكس ثقلها في إضفاء الشرعية على قضاياها والانتصار لمصالحها في المحافل الدولية.

Trending Plus