يوليوس قيصر.. لماذا اعتبره طه حسين أكبر قادة الفكر السياسي في العصر القديم؟

تحل اليوم ذكرى ميلاد يوليوس قيصر القائد الرومانى الشهير الذى حكم روما من سنة 45 إلى 44 قبل الميلاد وهو صاحب الجملة الشهيرة التي عبرت الأجيال وهي جملة "حتى أنت يا بروتس" فماذا قال عنه طه حسين في كتاب قادة الفكر.
طه حسين يتحدث عن يوليوس قيصر
يقول طه حسين: ظهر شاب روماني من طبقة الأشراف هو يوليوس قيصر. ليس في حياته الأولى ما يميزه من غيره إلا أنه كان مسرفًا فاسد الأخلاق، دنس السيرة مبغضًا إلى الذين كانوا يحرصون على الآداب الرومانية القديمة؛ ومع ذلك فقد كان داهية ماكرًا لا حدّ لأطماعه، وكان مع هذا كله لا يعرف حدًّا خلقيًّا يحول بينه وبين المنكر في سبيل تحقيق هذه الأطماع. كان من الأشراف، وكان يزعم أن نسبه يتصل بالإله «فينوس»، ولكنه كان ذكيًّا، فما أسرع ما فهم العصر الذي كان يعيش فيه! وما أسرع ما قدر ظروف الحياة من حوله! وما أسرع ما عرف أن الفوز السياسي إنما ينال بالتملق إلى طبقات الشعب والمبالغة في إرضاء هذه الطبقات! وما هي إلا أن أخذ يترضى هذه الطبقات، فإذا هو كريم مسرف ينفق بغير حساب، يستدين حتى يثقله الدين، ولا يدع شيئًا يتوهم أن فيه رضًا لطبقات الشعب إلا أقدم عليه وأسرف فيه، وإذا هو زعيم يلجأ إليه الفقراء والبائسون ويلتف حوله أصحاب الأطماع على اختلافهم، وإذا هو قوة يجب أن تحسب لها الدولة حسابًا، وإذا هو يتقدم إلى مناصب الدولة فيظفر في الانتخاب، وإذا هو خصم لمجلس الشيوخ الروماني يدافعه ويجاهده، يظهر نفسه مظهر الصديق للديمقراطية.
وانظر إليه قد فاز في جهاده فتولى حكم إقليم من الأقاليم الرومانية، ولم يكد يصل إلى هذا الإقليم في فرنسا حتى ظهرت مقدرته السياسية والعسكرية، ففتح فرنسا كلها وتعمق في ألمانيا، وعبر البحر إلى بريطانيا العظمى؛ واستفاد لنفسه من هذه الفتوح ثروة ضخمة استعان بها على كسب الفقراء والمتصوتين في روما وإيطاليا، كما أنه ضم إلى روما جزءًا من الأرض واسعًا خصبًا، وأتاح للحضارة اليونانية الرومانية أن تثبت في أقطار الغرب كما ثبتت في أقطار الشرق، فلما أتريح له كل هذا الفوز، كثر خصومه ومنافسوه، وعظمت أطماعه؛ وإذا مجلس الشيوخ الروماني يريد أن يعزله من منصبه، وإذا هو يمانع هذا العزل، وإذا الحرب قد شبت بينه وبين الجمهورية، وإذا هو يقتحم إيطاليا فيظفر بروما، وقد فر خصومه ينصبون له الحرب في الشرق.
يوليوس قيصر خليفة الإسكندر
وهنا ظهر أن قيصر خليفة الإسكندر حقًّا. انظر إليه قد أخضع إيطاليا، ثم طار إلى إسبانيا فقضى فيها على الحزب المناصر لخصومه، وأخضع في طريقه مدينة مرسيليا التي كانت مستعمرة يونانية مستقلة، ثم انظر إليه قد طار إلى الشرق، فقضى على خصومه في موقعة فرسال، ثم هو في مصر يقضي على المناصرين لخصومه، ويجد من الوقت ما يمكنه من التدخل في أمور مصر ومن السعادة بالحياة مع ملكتها «كليوبطرة»، وهو الآن في آسيا يصلح من أمرها ويقضي على الاضطراب فيها. ثم هو في إفريقية الشمالية يبطش بخصومه بطشًا أخيرًا، ثم هو في إسبانيا يقضي على آخر مقاومة لخصومه، ثم هو في مدينة روما يعلن ظفره وفوزه ويستمتع بنتائجهما، وقد تم له ما لم يتم للإسكندر من ملك العالم القديم المتحضر كله.
وكان حظه خيرًا من حظ الإسكندر؛ فقد استطاع أن ينظم هذه الوحدة السياسية التي أخفق الإسكندر في تنظيمها أو أن يضع الأساس لهذا التنظيم. ولم يكد يستقر في روما حتى محا السيادة الفعلية للنظام الجمهوري واستأثر بالسلطة كلها، فجعل نفسه دكتاتورًا طول حياته، وجعل نفسه مقدسًا، وجعل لنفسه السلطة الدينية العليا، ونصب نفسه زعيمًا للضعفاء يحميهم ويحوطهم، ولم يبق إلا أن يتخذ لقب الملك؛ وكأنه كان يريد أن يتخذه لولا أن تعجله المؤتمرون فقتلوه في مجلس الشيوخ (مارس سنة 44 قبل المسيح).
مقتل يوليوس قيصر
قتلوه وقد خُيِّلَ إليهم أنهم سيقضون على الطغيان، ويردُّون إلى الشعب الروماني حريته ونظمه الجمهورية؛ ولكن الحوادث دلت على أنهم كانوا مخطئين، وعلى أن الشعب الروماني قد زهد في هذه الحرية، وسئم النظم الجمهورية، وعلى أن العالم القديم كله كان قد نضج لتحقيق فكرة الإسكندر، وإيجاد هذه الوحدة السياسية العامة التي يشرف عليها سلطان قوي متين. كان الإسكندر إذًا صاحب الفكرة، وكان قيصر منفذها، ومهما يقل الفلاسفة وأنصار الحرية، ومهما يكن حكم التاريخ على قيصر أو له فليس من شك في أنه بعد الإسكندر أكبر قائد للفكر السياسي في العصر القديم: هو الذي أسس الإمبراطورية الرومانية، ورسم نظامها، وجمع العالم القديم كله تحت لواء واحد، وأخضعه لنظام سياسي واحد، ولنظام قضائي واحد، وأعدَّه ليخضع لنظام ديني واحد أيضًا. والعالم القديم مدين لقيصر بهذا كله، وأوربا في القرون الوسطى مدينة لقيصر بحياتها السياسية. وحسبك أن الإمبراطورية الألمانية كانت ترى نفسها وارثة للإمبراطورية الرومانية التي أسسها قيصر، وكان رؤساؤها يسمون أنفسهم قياصرة؛ بل إن أوربا مدينة بنظامها السياسي في العصر الحديث لقيصر. فما كان لويس الرابع عشر في فرنسا، ولا قياصرة الألمان الذين كانوا يخاصمونه، إلا متأثرين بالنظام القيصري؛ بل لقد عصفت بأوربا وبالعالم الحديث عاصفة الثورة الفرنسية؛ فما هي إلا أعوام حتى أنتج النظام الجمهوري الفرنسي نفس ما أنتجه النظام الجمهوري الروماني، وقام نابليون بونابرت في باريس مقام يوليوس قيصر في روما.

Trending Plus