التعددية في الإسلام: إشاراتها وتجلياتها ومرتكزاتها الإنسانية

حين نتأمل جوهر الرسالة المحمدية، نجد أنها ما جاءت لتقسر الناس على رأي أو عقيدة، ولا لتصنع من البشر قوالب متشابهة، بل جاءت لتُعلّم الإنسانية أن الاختلاف سنة إلهية، وأن التعدد لا يعني التناقض، بل يعني التنوع في إطار الوحدة. فقد خاطب الله عباده بقوله: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين”، وفي ذلك إقرار إلهي بأن البشر خُلقوا مختلفين في أفهامهم ومشاربهم واختياراتهم، وأن هذا الاختلاف باقٍ ما بقي الإنسان على الأرض، وليس نقصًا في الخلق، بل تجلٍ من تجليات الإرادة الربانية.
ومن أبلغ ما يؤكد هذا المعنى أن الله نهى عن الإكراه في الدين، فقال: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”. فالحق لا يُفرض بالقوة، والإيمان لا يُغرس بالعنف، وإنما بالاقتناع والحرية. ولهذا، فإن الإسلام لم يكن يومًا دين إكراه، ولا مشروع قسر، بل مشروع هداية وبصيرة، يقوم على مخاطبة العقل، واحترام الإنسان في اختياره، كما جاء في قوله تعالى: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
وقد جسّد النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى منذ اللحظة الأولى لتأسيس الدولة في المدينة، حين جمع بين المهاجرين والأنصار واليهود والمشركين في وثيقة المدينة التي نظّمت التعايش، وأقرت التعدد، وجعلت من الجميع مواطنين لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم. فنصّت الوثيقة على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”، وأقرت أن “من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلوم ولا متناصر عليه”، وأكدت أن “اليهود أمة مع المؤمنين”، وهي عبارات صريحة في اعتراف الدولة الإسلامية بحق الآخر في الدين والمواطنة، دون قهر أو إنكار.
وتتجلى رحابة هذا الدين كذلك في استقبال النبي صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران في مسجده، وقد سمح لهم بأداء صلاتهم فيه، ولم يمنعهم، ولم يُنكر عليهم، بل فتح لهم قلبه قبل بابه، وأثبت أن الإسلام لا يضيق بالتعدد، بل يعلو به. ولو كان الإسلام دينًا يُقصي من يخالفه، لما رضي نبيه أن يُرفع فيه صليب، ولا أن يُتلى فيه إنجيل، لكنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المسجد بيت الله، وأن الله لا يُضيّق على من قصده بسلام.
ولم تكن التعددية في الإسلام مقتصرة على أهل الأديان الأخرى، بل شملت داخل الدائرة الإسلامية نفسها اختلاف الفهم وتنوع الرأي، وهو ما أقرّه النبي صلى الله عليه وسلم وأعلنه عمليًا. ففي غزوة بني قريظة، قال لأصحابه: “لا يُصلين أحد العصر إلا في بني قريظة”، ففهم بعضهم الأمر على ظاهره فأخّر الصلاة حتى وصلوا، ورأى بعضهم أن المقصود هو الإسراع فقاموا بأداء الصلاة في وقتها، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُعنّف أحدًا منهم، بل أقر الجميع، لأنهم اجتهدوا، وأخلصوا النية، واستفرغوا الوسع، فدلّ ذلك على أن تعدد الفهم لا ينقض النص، بل يُثريه، وأن سعة الإسلام تحتمل أكثر من وجه، ما دام الأصل محفوظًا والنية سليمة.
وقد واصل الخلفاء الراشدون هذا النهج، فلم يجعلوا من السلطة سيفًا لقمع المخالف، بل ميزانًا يزن بالعدل، وإن خالف. فقد ردّ عمر بن الخطاب كنيسة لأهلها بعدما استولى عليها أحد ولاته، وقال قولته المشهورة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”، وهي كلمة تهزّ ضمير الزمان، وتُعلن أن الحرية أصل، لا مِنّة، وأن التسلط باسم الدين مرفوض، ولو جاء من أقرب الناس إلى السلطان.
ولم يكن عمر وحده كذلك، بل كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الإمام والخليفة والقاضي، يقف في المحكمة إلى جوار يهودي يخاصمه، ولا يرضى أن يُنادى بألقابه، بل يقول: “هو خصمي، فلا تفضّلوني عليه”، في مشهد من مشاهد العدالة الخالدة التي جعلت الحقوق لا تُقاس بالعقيدة، بل بالبرهان والعدل.
ولعل من أبلغ مظاهر التعددية في الفكر الإسلامي ما شهدته عصور ازدهار الفقه والعلوم، حيث تنوعت المدارس، وظهر مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد، وكلٌّ له رأيه واجتهاده، ولم يُكفّر بعضهم بعضًا، ولا طعنوا في إيمان مخالفيهم، بل قال الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. وكتب الخليفة المأمون إلى الفقهاء يقول: “لا يحمل أحدٌ الناس على مذهب بعينه، فإن الاختلاف رحمة، وإن الله لم يُنزل كتابًا بعد كتاب، إلا وفيه اختلاف”.
وهذا التنوع لم يكن ضعفًا كما يتوهم البعض، بل هو من دلائل القوة والرحمة. فقد قال أحد العلماء: “تعدد الأقوال في المسألة الواحدة توسعة على الأمة”، وقد سُئل الإمام أحمد: أيحبّ للرجل أن يصلي خلف من يقول بخلق القرآن؟ فقال: “إن خُشي على الجمعة فلا، وإن لم يُخشَ فليصلّ، وصلاته صحيحة”، في دلالة على أن الخلاف العقدي لم يمنع من التعايش، ولم يُسقط الحقوق الاجتماعية والروحية.
لقد قامت التعددية في الإسلام على جملة من المرتكزات العميقة، أولها الكرامة الإنسانية، فقد قال الله: “ولقد كرمنا بني آدم”، ولم يقصر هذا التكريم على مؤمن دون كافر، ولا على عربي دون أعجمي، بل جعله أصلًا لكل إنسان. وثانيها العدل، وهو قيمة مطلقة، لا تتغير بمخالفة المعتقد أو العداء، بل قال الله: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى”. وثالثها الحرية الدينية والفكرية، فالله لم يأمر نبيه أن يُجبر الناس على الإيمان، بل قال له: “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟”، وأمره أن يترك الناس في حريتهم، ما داموا لا يفسدون. ورابعها المواطنة العادلة، التي تقوم على الحقوق والواجبات، لا على الانتماء العقدي فقط، وقد طبّقها الخلفاء الراشدون فعيّنوا غير المسلمين في بعض الأعمال، وتركوا لهم حرية العبادة والمعاملة، وأعفوهم من بعض الالتزامات المالية، في صورة من أرقى صور التعايش.
الإسلام في جوهره ليس دين تشابه صارم، بل دعوة لبناء مجتمع متنوّع، يعيش في ظلال العدل، وينطلق من رحم الرحمة. من يقرأ السيرة النبوية قراءة منصفة، لا متعجلة، يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قائد جماعة، بل نبي أمة، وأنه لم يأتِ ليُفني المخالف، بل ليُقيم الحجة، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويترك للناس أن يختاروا بعد ذلك بحرية.
وإن التحدي اليوم لا يكمن في الإقرار النظري بفكرة التعددية، بل في إحيائها بروحها الإسلامية الأصيلة، البعيدة عن الذوبان، والخالية من الإقصاء، الرافضة للوصاية، القائمة على العدل، والضامنة للكرامة. إن الإسلام لا يخشى الآخر، ولا يتراجع أمام التنوع، بل يمد يده له، ويقيم الجسور، لا ليذوب فيه، ولكن ليُثبت قوته، ويُحسن دعوته، ويُعلي مبادئه.

Trending Plus