رسوم ترامب الجمركية.. ماذا تريد واشنطن من العالم؟

في كل مرة تُلوّح فيها واشنطن بسيف الرسوم الجمركية، تتزلزل أسواق وتتحفّز أخرى، وكأن العالم يتنفس على إيقاع قرارات تُتخذ داخل أروقة الإدارة الأمريكية، لكن صداها يُسمع في المصانع الآسيوية، والموانئ الأوروبية، وحقول البتروكيماويات في الخليج العربي.
وقد بلغ هذا التأثير ذروته مع تصاعد سياسات الحماية التي تبناها دونالد ترامب، واضعًا التعريفات الجمركية في قلب خطابه الاقتصادي والسياسي، ومطلقًا موجة قرارات أثّرت على حركة التجارة العالمية.
الطوفان الجمركي الأمريكي.. والارتدادات العالمية
منذ أن قررت الولايات المتحدة، في ظل إدارات متعاقبة – أبرزها إدارة ترامب – أن تستخدم الرسوم الجمركية كأداة استراتيجية، باتت كل زيادة في التعريفات إنذارًا للأسواق: البورصات تتأرجح، أسعار السلع تتقلّب، والعملات تهتز تحت وطأة القرار.
الأسواق الناشئة تترقّب، والمصانع في آسيا تعيد حساباتها، وسلاسل التوريد تبحث عن بدائل أكثر كفاءة أو أقل خطرًا. أما الاقتصادات العربية، فتتأثرغالبًا بشكل غير مباشر، ولكن عميق، إذ تنقل موجات الاضطراب من المراكز الصناعية إلى أطراف السوق، حيث تقل القدرة على المناورة وتزداد هشاشة التوازنات.
قرارات ترامب الجمركية في فترة رئاسته الثانية
ترامب يعود إلى لغة الرسوم.. وتصعيد جديد يلوح في الأفق
وفي تطور لافت، عاد ترامب إلى واجهة المشهد التجاري بخطاب أعاد التوتر للأسواق العالمية.
ففي مؤتمر صحفي عقده بعنوان "استعادة ثراء أمريكا"، كشف عن حزمة رسوم جمركية جديدة شملت قطاعات متعددة، وجاء أقلّها بنسبة 10%.
وأعلن عبر منشورين على "تروث سوشيال" عن فرض رسوم بنسبة 30% على واردات المكسيك والاتحاد الأوروبي، اعتبارًا من الأول من أغسطس، بعد مفاوضات لم تثمر عن اتفاق.
وفي الأسبوع نفسه، فرض ترامب رسومًا إضافية على دول بينها اليابان، كوريا الجنوبية، كندا، والبرازيل، إضافة إلى تعريفات بنسبة 50% على واردات النحاس.
فيما يتأهب الاتحاد الأوروبي لمواجهة هذه الموجة الجديدة، وسط مخاوف من توسّع رقعة الحرب التجارية، وتحولها إلى أزمة اقتصادية بنكهة سياسية.
قرارات ترامب الجمركية في فترة رئاسته الثانية
من السوق الحر إلى الجدار الجمركي: تغيّر في العقيدة الاقتصادية
لسنوات، روّجت الولايات المتحدة لمفهوم السوق الحر والعولمة، باعتبارهما أساس النمو والتكامل العالمي. لكنها عادت في السنوات الأخيرة لتراجع هذه العقيدة، وتعيد تشكيل سياساتها الاقتصادية على أسس أكثر حماية وانغلاقًا.
تحوّلت الرسوم الجمركية إلى أداة لتصفية الحسابات التجارية، وكبح صعود الخصوم، وعلى رأسهم الصين، واستعادة الصناعات والوظائف التي هجرت الداخل الأمريكي.
وقد تبنّى ترامب هذا التوجه بحدة ووضوح، رافعًا شعار "استعادة الثروة الأمريكية"، ومطلقًا حزمة من القرارات التي غيّرت قواعد اللعبة.
التحول لم يقتصر على الجمارك، بل شمل الدعم المحلي، حوافز التصنيع، وقيود تصدير التكنولوجيا، في مقاربة تُزاوج بين الاقتصاد والأمن القومي.
فاتورة مزدوجة على الاقتصادات النامية والعربية
زيادة الرسوم الجمركية في أكبر اقتصاد في العالم لا تعني مجرد ارتفاع في الأسعار، بل تعني خللاً في موازين القوى التجارية.
بالنسبة للدول النامية، فإنها تواجه تقليصًا في قدرتها التنافسية، وإعادة تشكيل لاستراتيجياتها التصديرية، وتزايد الضغوط على الميزانيات العامة.
أما الدول العربية، فتقف عند مفترق دقيق: دول الخليج، بوصفها شريكًا تقليديًا لواشنطن، تسعى لموازنة علاقاتها مع الشرق، لاسيما الصين، في حين تعاني الدول غير النفطية من تداعيات مباشرة كارتفاع أسعار الواردات، وتقلّب أسعار الصرف، وتراجع آفاق النمو.
قرارات ترامب الجمركية في فترة رئاسته الثانية
حين تخلق الرسوم محاور سياسية جديدة
الرسوم الجمركية لم تعد مجرد أداة اقتصادية، بل أصبحت وسيلة لإعادة رسم التحالفات.
فالصين، المتضرر الأكبر من السياسات الأمريكية، بدأت تتوسع في بناء شراكات بديلة مع دول الجنوب العالمي، وفي مقدمتها العالم العربي، لتجاوز القيود وتحقيق ما يُعرف بـ"النفاذ البديل".
وفي هذا السياق، تحوّلت بعض الدول العربية إلى ساحات تنافس تجاري بين القوى الكبرى، ما فرض عليها مقاربات أكثر حذرًا في الحفاظ على توازن علاقاتها الاستراتيجية.
لم تعد الاتفاقات التجارية تُبنى فقط على العائد الاقتصادي، بل على القدرة على المناورة وتجنّب الاصطفاف، في عالم باتت تحكمه القيود أكثر من الانفتاح. وأصبحت التجارة فيه أداة ضغط، واستقطاب، ومقايضة.
الولايات المتحدة تسعى لاستعادة القيادة عبر فرض شروطها، بينما تتجه الصين لتوسيع نفوذها عبر مبادرات كـ"الحزام والطريق".
وفي هذا المشهد المتقلب، تتحرك دول عربية لإعادة التموضع: مناطق حرة جديدة، تنويع الشركاء، والانضمام إلى تكتلات كـ"البريكس" و"شنغهاي"، بحثًا عن أرض أكثر ثباتًا.
ومع كل خطوة اقتصادية، تبدو القرارات أكثر خضوعًا لحسابات النفوذ، وأقل ارتباطًا بالنقاء التجاري.
اقتصاد يتحرك بالضرائب لا بالطلب
كل موجة رسوم جديدة تُفرض من قبل الولايات المتحدة لا تعني فقط صعوبة في التبادل التجاري، بل تعني – في جوهرها – إعادة ترسيم للحدود الاقتصادية للعالم.
حدود لا تُرسم بالأسلاك أو الجدران، بل بتكاليف النقل، ونسب الضرائب، ومواصفات السوق، وسلاسل الإمداد الآمنة. الرسوم إذًا ليست قرارًا تقنيًا، بل تأكيدًا لمقولة قديمة بصيغة حديثة:
"حين تعيد دولة كُبرى رسم الحدود الاقتصادية، لا تسأل من تضرر، بل من بقي ثابتًا في مكانه."

Trending Plus