لماذا نحتاج إلى الثقافة "10" الجمال يواجه القبح: دور الثقافة في مناهضة التطرف

ليست الثقافة مجرد معلومات نكتسبها من القراءة ولا هي فقط مجموعة من الأعمال الإبداعية التي نطالعها، الثقافة هي حالة من الوعي بما يحيط بنا ذلك الوعي الذي يجعلنا قادرين على اكتساب وجهة نظر واتخاذ موقف، إنها ذلك الوعي الذي يعزز التفكير النقدي لدى الفرد، بما يعزز الإحساس بقيم الجمال والارتقاء بالوعي، وهو ما يشكل خط دفاع قوي في مواجهة الأفكار المتطرفة التي تسعى إلى تكوين عقول تابعة وتشوه كل ما هو جميل وإنساني.
إن الثقافة، في جوهرها، هي احتفاء بالإبداع والجمال في شتى صوره من روائع الأدب التي تسمو بالروح، إلى ألحان الموسيقى التي تهذب الوجدان، مرورًا بلوحات الفن التشكيلي التي تأسر الألباب، وصولًا إلى عظمة العمارة التي تشهد على حضارات راسخة، عندما يتعرض الإنسان لهذه الأشكال المتنوعة من الجمال، تتفتح مداركه وينمو لديه حس مرهف يقدر التناغم والانسجام والروعة في العالم من حوله، هذا الإحساس بالجمال ليس مجرد ترفيه أو متعة عابرة، بل هو قيمة أساسية تجعله قادر على فرز الأفكار ونقدها والأهم أنه عندما يغيب الجمال عن العقل فإن القبح يكون جاهزا لملء هذا الفراغ.
ففي المقابل، غالبًا ما تعتمد الأيديولوجيات المتطرفة على تشويه الحقائق ونشر صور قاتمة وقبيحة للعالم وللآخرين، إنها تسعى إلى تجريد الإنسان من إنسانيته وقيمه النبيلة، وتحويله إلى أداة عنف وكراهية، ووهي لن تستطيع فعل هذا إلا بغياب الوعي الجمالي الحقيقي، وهنا يبرز الدور الحيوي للثقافة في تقديم سرد مضاد لهذه الأفكار الهدامة، من خلال إبراز قيم التسامح والرحمة والتعايش السلمي، وكل ما هو جميل ونبيل في تراثنا الإنساني.
في هذا الصدد تؤدي المؤسسات الثقافية دورًا محوريًا، فهي المنارات التي تشع نور المعرفة والجمال، ويجب أن تركز هذه المؤسسات جهودها على تعزيز الوعي بالثقافة الحقيقية، تلك التي تحتفي بالإبداع والتنوع وتقدير الاختلاف. ومن الأهمية بمكان أن تستهدف هذه الجهود الأطفال والشباب بشكل خاص، فهم الفئة الأكثر عرضة للتأثر بالأفكار المتطرفة.
ولتحقيق هذا الهدف بفاعلية، يمكن الاستفادة من مشروع الخريطة الثقافية الشاملة لتحديد المناطق الأكثر حرمانا من الأنشطة الثقافية، فعلى سبيل التمثيل تشير الإحصائيات إلى أنه في عام 2020 بلغ عدد دور الكتب والمكتبات في مصر 1353 مكتبة لخدمة ما يقارب 100 مليون نسمة، هذا يعني وجود مكتبة عامة واحدة لكل حوالي 74 ألف مواطن، وبغض النظر عن توزيع كثافاتها الذي يركز على المدن، فإذا ما قورن هذا المعدل بالمعايير العالمية التي توصي بنسبة لا تقل عن مكتبة لكل ألف مواطن وصول أوسع إلى مصادر المعرفة والثقافة، يصبح من الواضح الحاجة إلى تعزيز البنية التحتية الثقافية، خاصة في المناطق الأكثر تهميشًا.
من خلال الخريطة الثقافية، يمكن للمؤسسات الثقافية توجيه برامجها ومبادراتها نحو هذه المناطق، بعد دراسة الاحتياج الفعلي من دون تسرع أو عشوائية، ثم تقديم أنشطة جاذبة ومبتكرة للأطفال والشباب، مثل ورش العمل الفنية والأدبية، والعروض المسرحية والموسيقية، والبرامج التعليمية التفاعلية حسب احتياج كل فئة وكل مكان. إن توفير هذه البدائل الإيجابية يمكن أن يسهم في تنمية وعيهم وتقديرهم للجمال، وتحصينهم ضد الأفكار المتطرفة التي تسعى إلى استغلالهم وتضليلهم.
إن الثقافة ليست مجرد إضافة هامشية للحياة، بل هي ضرورة أساسية لرفاهية الإنسان وسلامة المجتمع، وهي الدرع الحقيقي في مواجهة التطرف والكراهية، وبناء مجتمعات أكثر تسامحًا وسلامًا وإبداعًا.

Trending Plus