"من حجر إلى هوية".. هنا ولد اسم سيناء.. يوميات حماة الفيروز في الجبال.. اكتشفه الفراعنة ولا يزال سكان الجبال يستخرجونه.. أشهر مناطقه وديان سرابيط الخادم والنصب بأبو زنيمة..ينقل إلى منطقة الحسين لتحويله إلى حلي

في عمق جبال سيناء، حيث لا تصل الطرق، ولا يسمعك أحد سوى الصخر، يدوي صوت يتردد منذ آلاف السنين: "يارب أكرم".. ليس صدىً عابرًا، بل نداء يومي يطلقه رجال نذروا أنفسهم لحرفة محفورة في التاريخ، حرفة استخراج الفيروز.. الحجر الذي سُميت سيناء باسمه، والذي ظل منذ عهد الفراعنة وحتى اليوم رمزًا للجمال، والبركة، والهوية.
هناك، في وديان سرابيط الخادم ووادي المغارة ووادي النصب التي تتبع مدينة ابوزنيمة بجنوب سيناء، تسكن كنوز من حجر كريم، لا تُمنح إلا لمن يملك الصبر، والحب، وعين تعرف أن تميز العروق بين الصخور.
في هذه الوديان، تبدأ القصة... قصة رجال يعيشون بين المطرقة والمغارة، بين الأمل والعرق، وبين قطعة فيروز قد تُغيّر يومهم، أو لا تمنحهم إلا الدعاء.
" اليوم السابع" عايش رحلات رجال الفيروز وهم يلاحقون مساراته ويلتقطون خيوطه و يحفرون فى الصخر لاستخراجه، و يجهزونه لمراحل الصقل والتصنيع .
في وادي النصب، على بعد عشرات الكيلومترات من أقرب طريق ممهد، يتوقف فيصل حسين أبو اشتيوي، يمسح عرقه بكفه، ثم ينظر إلى الجبل كمن يقرأ ملامح صديق قديم.
"هنا... تحت هذه الطبقة من الصخور… هناك عرق"، يقولها بثقة، ويبدأ الدق.
فيصل، أربعيني من أبناء منطقة أبو زنيمة، لا يعرف حياة خارج الجبال. منذ 21 عامًا، يتبع أثر العروق الزرقاء وسط الصخور.
يحمل "مسمارًا" و"دبورة" (أداة دق)، وينحت الجبل كمن يهمس له، يبحث عن الفيروز، لا بالمصادفة، بل بالعين والتجربة.
"العين تعرف. حين ترى الخط الأحمر في الصخر، تعرف أن الفيروز قريب. ليس دائمًا، لكنها إشارات الجبل… ونحن نُجيد قراءتها."
يقولها بينما ينزل تدريجيًا داخل فجوة ضيقة لا يتجاوز عرضها نصف متر، يختفي جسده بين الظلال، ويبقى صدى المطارق يرنّ في الفضاء.
لا يعدّ فيصل الفيروز تجارة. "هو رزق وذكرى وبركة"، كما يقول.
في يوم جيد، قد يستخرج كيلو أو اثنين من الصخور التي تحمل الفيروز، ثم تبدأ مرحلة التنظيف، إما يدويًا بأداة بسيطة، أو بآلة صغيرة اختصرت سنوات من الجهد.
"لكننا لا نبيع كل شيء. قطعة نأخذها للبيت… نضعها فوق الرف. الكبار يقولون إنها تطرد الحسد وتمنح طاقة إيجابية. وأنا أصدق ذلك."
ثم يبتسم، كأنه يتحدث عن طفل صغير، لا عن حجر كريم.
غير بعيد، يجلس فتى لا يتجاوز السابعة عشرة، يثبّت حجراً بين يديه الصغيرة ويبدأ بتقشيره بدقة.
"أنا فتحي... أدرس في الثانوية، لكن كل إجازة أكون هنا"، يقولها بوجه مشرق.
"تعلمت منذ كان عمري عشر سنوات. أبي كان يأخذني معه، الآن أعرف كيف أبحث وأحفر وأنظف."
فتحي لا يشكو من التعب. بل يشعر بالفخر. "أصدقائي في المدينة لا يعرفون معنى أن تخرج شيئًا من قلب الجبل. نحن نحمل كنوزًا، بيدينا."
بين الظلال، يظهر عواد جمعة سالم رمضان، سبعيني من أبناء قبيلة الحماضة. وجهه منقوش بتجاعيد الصبر، وعيناه لا تزالان تلمعان كلما ذُكر الحجر الأزرق.
"أنا ورثت السر من أبي، وأبي ورثه من جدي… وهكذا منذ أيام الفراعنة."
يضحك، ثم يقول: "هم كانوا ينصبون خيامهم في هذه الوديان… وكنا نحن نكمل المسيرة."
عواد يسير كل صباح من وادي اللحيان، يقطع كيلومترًا على الأقدام، يحمل أدواته البسيطة، يردد: "المرزق الله"، ثم يبدأ الحفر.
"في يوم أطلع بنص كيلو… وفي يوم ما أطلعش غير شوية تراب. بس الرزق موجود."
ويضيف: "اللي يشتغل في الفيروز لازم يصبر… ويحب الجبل."
بعد أن تُستخرج الأحجار، تبدأ رحلة جديدة. الفيروز لا يُصقل هنا، بل يُشحن إلى القاهرة، إلى قلب خان الخليلي والحسين.
هناك، يشتريه صاغة الأحجار الكريمة، يعيدون تشكيله، يصنعون منه خواتم وعقودًا، ومسابح ويعيدونه للناس… لكن جماله يبقى من هنا، من قلب الجبل.
"بعضنا بدأ يصقل ويشكل محليًا"، يقول فيصل، "لكن السوق في القاهرة أكبر، والطلب هناك مستمر…".
ثم يضيف بحزن: "أحيانًا نشوف ناس تبيع فيروز مزيف، بلاستيك، بس مجرد ما تقربه من نار، يسيح… الأصلي لا تؤثر فيه النار، لأنه حجر… مش لعبة."
العلم يقول إن الفيروز يتكون من فوسفات الألمنيوم والنحاس، وأنه مسامي، خفيف، سهل الخدش.
لكن عواد له رأي آخر: "الفيـروز له روح… تعرفه من بريقه. الأصلي فيه حياة."
وفي كتب التاريخ، تقول الروايات إن الفراعنة استخدموه في التمائم والجعارين، ومسحوقًا لتلوين التماثيل، واعتبروه حجراً للحماية وجلب الخير .. وفى التاريخ الحديث أول من فكر في تعدين الفيروز ضابط انجليزي متقاعد يدعي "الماجور مكدونلد" جاء إلى وادي المغارة سنة 1854 م، وبني له منزلا فى المكان وأقام هو وزوجته 5 سنوات ولم ينجح وفى عام 1900 رخصت الحكومة المصرية لشركة انجليزية تعدين الفيروز ثم لشركة انجليزية اخري حتي الغيت الرخصة عام 1903.
رغم خطورة المهنة والعمل في مغارات عميقة وأجواء قاسية، يؤكد الجميع أن التعب يتلاشى بمجرد أن تبدأ العمل.
"تحس إن الجبل يشجعك"، يقول فيصل. "تدق وتدق، وفجأة… تلمع قطعة زرقاء بين يديك… وكأنك وجدت نفسك."
في سرابيط الخادم، لا تُقاس الثروات بالموازين، بل بالأرواح التي تعلّمت من الصخر الصبر، ومن الجبل الكتمان.
هنا، لا أحد يركض خلف الذهب، بل خلف البركة، الإرث، والهوية.
وهنا أيضًا، لا تنتهي القصة حين ينطفئ النهار، بل تبدأ كل صباح بنداء صادق: "يارب أكرم…"

احجار-كريمة

احد-رجال-الفيروز

الاحجار-الكريمة-من-الفيروز

جبال-ببطنها-كنوز-الفيروز

حتحور-اله-الفيروز-الفرعوني

شباب-الفيروز

كنوز-الفيروز

محرر-اليوم-السابع-مع-المنقبين-عن-الفيروز

هناك-جبل-نستخرج-منه-الفير،ز

مكان استخراج الفيروز

Trending Plus