من نزع السلاح إلى استعادة الدور.. العراق نموذجا

خطوة تاريخية مهمة تحققت في العراق، عندما بدأت الفصائل في تسليم سلاحها إلى الدولة، وهي الخطوة التي تحمل العديد من التداعيات الإيجابية، ربما أهمها تحقيق الاستقرار في الداخل، بالإضافة إلى تعزيز العلاقة مع الجوار الإقليمي، في لحظة فارقة، تعاني فيها منطقة الشرق الأوسط، جراء اشتعال الصراعات بصورة غير مسبوقة، وهو ما يعني في محصلته النهائية نجاعة عملية الإصلاح التي تنتهجها الدولة، والتي شملت العديد من المسارات، والتي وإن بدت مختلفة، فإنها في واقع الأمر متداخلة، سواء فيما يتعلق بالمشروعات الاقتصادية العملاقة، والتي تعكس أحد أهم النقاط الانتقالية، في علاج أزمات المواطن في الداخل، بعد عقود من عدم الاستقرار، أو الحرب على الإرهاب، أو حتى فيما يتعلق بإعادة تعريف الهوية، وإدارة العلاقة مع دول الجوار.
وفي الواقع، تعد أزمة العراق مركبة ومتداخلة، جراء أمدها الزمني الطويل، منذ الحرب على إيران في الثمانينات، مرورا بالأزمة مع الكويت، في التسعينات، وحتى الغزو الأمريكي في بداية الألفية، ثم تفشي الإرهاب، إلى الحد الذي سيطرت فيه الميليشيات المسلحة، مساحة من الأرض، لتأسيس دولتها المزعومة، تحت مسمى داعش، وهو ما يعكس أزمة ممتدة منذ ما يقرب من 5 عقود كاملة، تحمل في طياتها تشابكات بين أوضاع داخلية فوضوية، تفاعلت بصورة كبيرة مع جوار إقليمي مرتبك تهيمن عليه حالة من الاستقطاب بين القوى المتنافسة، بينما تواجه في الوقت نفسه محاولات دولية لفرض نماذج بعينها على الحالة العراقية، لم تحقق نجاحا يذكر، بل أضافت مزيد من التعقيد على المشهد الداخلي.
التفاعل بين أزمات الداخل، والأوضاع الإقليمية والمستجدات الدولية، خاصة في اللحظة الراهنة، يضفي المزيد من الزخم للخطوة التي اتخذتها الفصائل بتسليم أسلحتها، في إطار العديد من المسارات، أولها إضفاء الحماية للداخل، عبر تحقيق الاستقرار، وهو ما تنشده الحكومة العراقية خلال السنوات الماضية، خاصة بعد الانتصار الذي تحقق على جماعات الظلام، وتحرير الأراضي العراقية من براثنهم، وبالتالي فإن الخطوة بمثابة لبنة جديدة في إعادة بناء السلم المجتمعي، عبر احتواء كافة الفئات، تحت مظلة الدولة المركزية، خاصة وأن امتلاك السلاح على أساس فئوي أو طائفي، هو بمثابة قنبلة موقوتة، تقدم ذرائع للفئات الأخرى، لاتخاذ النهج نفسه، بحجة الدفاع عن النفس، بينما يمثل توجها صريحا لحماية ما يتحقق من منجزات، خاصة على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يبدو واضحا في المشروعات العملاقة التي تشهدها بغداد والمحافظات الأخرى، لتعزيز الأوضاع الاقتصادية، وهو الأمر الذي يبقى مرهونا إلى حد كبير بمدى قدرة الدولة على تعزيز الحالة الأمنية.
الإصلاح في العراق، لا يرتبط بالإنجاز الأخير، وإن كان واحدا من أبرز المحطات على طريق استعادة دور بغداد، وإنما يمتد إلى العديد من الخطوات الهامة التي اتخذتها خلال سنوات قليلة ماضية، منها الشراكات الإقليمية التي دشنتها، خاصة في محيطها العربي، في إطار العلاقة القوية التي جمعتها بكلا من مصر والأردن، والتي مثلت نقطة انطلاق نحو التأكيد على التمسك بالهوية العربية، في الوقت الذي احتفظت فيه بعلاقتها مع القوى الإقليمية الأخرى، على غرار إيران وتركيا، وهو ما يعكس قدرة على استثمار الجغرافيا، في تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، دون التورط في صراعات إقليمية، قد تستنزفها، في الوقت الذي تحاول فيه إعادة بناء نفسها.
والحديث عن العلاقة بين العراق، والقوى العربية البارزة، وعلى رأسها مصر، يعد محوريا في هذا الإطار، خاصة وأن التجربة العراقية، وإن اتسمت باستقلاليتها، إلا أنها استلهمت جزء كبير منها من نظيرتها المصرية، خاصة في أعقاب ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وما نجم عنه من تفشي للإرهاب، وتراجع اقتصادي، وغير ذلك من أوضاع صعبة، فكان القضاء على جماعات الظلام بمثابة الخطوة الأولى للعودة، جنبا إلى جنب مع العمل الجاد على تحقيق طفرة تنموية، أعادت رسم خريطة الدولة، على أساس من التوافقات، التي ساهمت في تمكين كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع دون تهميش، سواء سياسيا أو اقتصاديا أو مجتمعيا أو ثقافيا، وهو ما بدا في العديد من الخطوات المتواترة، التي ساهمت في مجملها في تعزيز دور الجميع، ومشاركتهم في عملية صناعة القرار.
ولعل استضافة العراق للقمة العربية الأخيرة في شهر مايو الماضي، بمثابة خطوة مهمة لتعزيز الهوية العربية، التي تمثل أحد أهم أسس الشخصية الدولية لبغداد، بينما في الوقت نفسه، تؤكد عودتها كفاعل إقليمي مهم في محيطها الجغرافي، بعد سنوات من التراجع بحكم الظروف، سواء المرتبطة بالداخل أو بالإقليم بأسره، وهو ما يفتح الباب أمام دور أكبر لبغداد في معالجة الأزمات الإقليمية المعقدة التي تشهدها المنطقة، في ضوء علاقاتها القوية مع كافة أطراف المعادلة الإقليمية، وهي التي تعززت مؤخرا بنزع سلاح الفصائل، والتي كانت تراها دول الجوار تهديدا أمنيا لها، وهو ما يمثل خطوة مهمة على طريق التنمية وبناء السلام في المجتمع بالداخل، وعلى مستوى العلاقة مع القوى الأخرى بالإقليم.
وهنا يمكننا القول بأن تجربة العراق تمثل نموذجا مهما في تعزيز ما يمكننا تسميته بـ"معسكر التنمية" في منطقة الشرق الأوسط، والذي يمثل محور ارتكاز في إعادة صياغة السياسات الإقليمية الجمعية على نحو من الشراكة، بين كافة الأطراف الفاعلة بالمنطقة لتحقيق المصالح المشتركة، حتى وإن وجدت الخلافات البينية، لتطغى المصالح على الخلافات، وهو ما يضمن تحقيق أكبر قدر من الاستقرار الإقليمي، بينما تتوحد الرؤى والمواقف فيما يتعلق بالمشتركات، وهو ما يخدم القضايا المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهو النموذج الذي يمكن استلهامه في دول أخرى، في ظل واقع يبدو متغيرا على المستوى الإقليمي، بعد مستجدات طرأت على المنطقة منذ ما يقرب من عامين، وضعت العديد من الأطراف، سواء دول أو تنظيمات، على المحك، لإعادة تقييم أوضاعها، والتحول نحو خطوات من شأنها تعزيز الصمود في مواجهة أي محاولة لانتهاك سيادة الدول أو قضاياها.

Trending Plus