أشرف العشماوى يكتب.. هل الله موجود؟

كلما طرح أحدهم هذا السؤال عليّ، يتبادر إلى ذهني سؤال آخر: لماذا يبدو هذا السؤال غير منطقي حين يُطرح بمعايير البشر؟
ربما، في لحظة اختلاء مع الذات، يتساءل الإنسان: "هل الله موجود؟" لكن هذا السؤال، رغم بداهته الظاهرة، يحمل في طياته إشكالية جوهرية تتعلق بأدواتنا نحن، لا بموضوعه، فنحن نسأل من داخل نظام بشري محدود، ونحاول أن نُخضع اللامحدود لمقاييسنا، ونقيس المطلق بمسطرة الزمان والمكان والحس والتجربة، وهنا تنشأ المفارقة، لأن السؤال في حد ذاته محاولة لحبس المطلق في قفص العقل.
حين يسأل الإنسان عن وجود الله، فهو يستخدم أدوات العقل التي صُمّمت للتعامل مع الجزئيات، والتجارب، والمعطيات الحسية، والعلاقات السببية. لكنه بذلك يسقط في وهم أن المطلق يمكن أن يُفهم بالطريقة ذاتها التي نفهم بها أشياء العالم. لو كان الله كائنًا يمكن إثباته كما نُثبت وجود الطاولة أو المطر أو أي شيء حسي، لكانت طريقة تفكيرنا نفسها خاطئة. لأن الله ليس "شيئًا" من بين أشياء العالم، بل هو شرط إمكان وجود العالم ذاته.
الله لا يُقاس بمقاييسنا، فمعايير البشر مبنية على الإدراك الحسي، والتجربة، والنفع، والزمن، والمكان؛ نحب ما يفيدنا، ونصدّق ما نراه، ونفهم ما يمكن قياسه أو ترجمته بلغة المنطق أو الرياضيات، لكن الله خارج هذه المعايير، فهو لا يخضع للزمن لأنه مصدره، ولا يُحدّد بالمكان لأنه سابق له، ولا يُقاس بالحواس لأنها أدوات مخلوقة بحساباته هو، شأنها شأن الإنسان نفسه.
هل يصح مثلًا أن نسأل: "هل الظل موجود؟" ونحن لا نرى النور؟ أو نسأل: "أين الصوت؟" ونحن لا نمتلك أذنًا؟ كذلك، فإن السؤال عن وجود الله، حين يُطرح خارج سياقه الروحي والوجودي، يصبح كمن يسأل رجلًا أعمى عن اللون.
في تقديري، أن الأهم من سؤال "هل الله موجود؟" هو سؤال: "لماذا نحتاج لأن يكون الله موجودًا؟"
فرغم الحداثة والحضارة والتقدّم السريع، لا يزال الإنسان المعاصر يشعر بالحنين إلى ما يتجاوزه، وما لا توفّره له التكنولوجيا مهما عظمت، وحتى تفهم مقصدي، تأمّل حالك في لحظات الموت، الحب، الفقد، الولادة، أو في حضرة الجمال الخالص: لماذا تشعر أن هناك معنى أكبر من المادة؟
ربما لأن في داخل الإنسان، بالفطرة، ما لا يُروى إلا باللامرئي، ما لا يُشبع إلا بالمطلق، ما لا يُفسَّر إلا بما يتجاوزه، وهنا تصبح تجربة وجود الله أعمق من أي جدل، وأكبر من أي سؤال، وأقرب من أي برهان.
الله ليس "موضوعًا" يُثبت أو يُنفى؛ بل هو نداء داخلي لا يتوقف مهما خفت، رجفات في القلب تروح وتجيء، حنينٌ لا ينطفئ، حضورٌ في وقت الغياب.
وجوده لا يُثبت بالحجج فقط، بل يُعاش كتحوّل داخلي كل يوم، كبوصلة طريق، كقوة حب لا نهائية، كمعنى لا يُرد إلى غيره.
ولذلك، لعلّ السؤال الحقيقي ليس: "هل الله موجود؟"
بل: "هل يمكن للإنسان أن يحتمل أن يكون وحده في هذا الكون؟"
فإذا ارتجف القلب من فكرة العزلة المطلقة، فربما تكون تلك الرجفة هي البرهان.

Trending Plus