الذكاء الاصطناعي في الأزهر الشريف.. والذكاء (التأويلي) على المنابر

خطوة مهمة طبعا أن تعلن جامعة الأزهر الشريف عن افتتاح كلية للذكاء الاصطناعى، ومن جانبى لا يسعنى إلا أن أقدم التحية لأصحاب هذا الفكر داخل الجامعة، وأعرب عن تقديرى لهذا التوجه الذى يظهر إصرارا على مواكبة العصر، ودمج العلوم الحديثة فى مؤسساتنا التعليمية، وخاصة داخل صرح مرموق مثل جامعة الأزهر العريقة.
ولكن، الأهم من هذا التحديث، هو أن تقتحم الجامعة ومؤسسات الأزهر الشريف أيضا ساحات ذكاء أخرى نحتاجها بشدة في مواجهة استمرار الفكر المؤسس للجماعات الإرهابية في الثقافة الإسلامية السائدة التى لا تزال تهيمن عليها مفاهيم يمكن أن تعيد خلق تيارات التطرف والإرهاب من جديد، إن آجلا أو عاجلا.
أتمنى مثلا من قيادات هذه المؤسسة الموقرة المرموقة أن ينتبهوا إلى أن الإسلام الوسطى الذى نتباهى نحن المصريين بأننا أصحابه وأهله وخاصته، يمكن أن يتحول بسهولة إلى إسلام متطرف، وإلى تنظيمات مسلحة طالما أن هذا الفكر المؤسس لا يزال كامنا بين ثنايا التراث، وبين سطور صفحات التاريخ، وبين أبواب الفقه المختلفة، والمثال الأكبر الذى أقدمه هنا هو أن الذكاء الاصطناعى نفسه كان محل هجوم تكفيرى من أحد الدعاة المنتسبين للأزهر، الذى وصف ثورة الذكاء الاصطناعى أنها ستقود للكفر والإلحاد، أى أن منطق التكفير هنا لم يتوجه لشخص أو جماعة، لكنه توجه، وبكل ثقة فى النفس إلى التكنولوجيا نفسها، تكنولوجيا كافرة وملحدة وهي المسيخ الدجال الذى حذرتنا منه النصوص المقدسة.
أعرف أن هذا الرأى لا يمكن أن نلوم عليه جامعة الأزهر أبدا، أو أى من هيئات هذه المؤسسة العريقة، لكننى أعرف كذلك أن هذا النوع من الفكر هو مؤشر على ما يمكن أن تستخلصه عقول بعض الدعاة التى تتعرض ليلا ونهارا للمحتوى التراثى السلفى الذى يكره كل ما هو جديد، ويعادى كل ما هو حداثى، ويكفّر كل ما لا يعرفه إنسانا كان أو آلة.
إذا كان هذا الفكر يصدر من دعاة مرموقين يطلون من كل شاشات الإعلام على الناس، فما بالك بهؤلاء الذين لا تراهم كاميرات الإعلام بالعين المجردة، لكن ذئاب التجنيد والتضليل تلتهم عقولهم معتمدة على تراث لا يشك أحد فى أنه يحتاج للمراجعة والنقد والاستبعاد والتجديد.
• يسعدنى أن تكون هناك كلية للذكاء الاصطناعى بالطبع، ولكن يسعدنى أيضًا أن يكون لدينا مشروع مماثل للذكاء التأويلى على المنابر، والذكاء الإصلاحى فى كتب الفقه، والذكاء النقدى فى قراءة التاريخ، والذكاء التجديدى فى موروثات الأحكام والفتاوى، والذكاء الإسلامى الثائر على جمود عقل وتقديس الأقدمين لنعيد وصل العقل المسلم بالواقع المعاصر، ونصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات الفكرية التى تهدد مجتمعاتنا من الداخل.
التطرف والإرهاب لا يحتاج إلى تجديد أدواته، إذ إن كثيرًا من الموروث الفكرى والتاريخى يساعده على تضليل الآلاف كل يوم، لكن مؤسساتنا الدينية التى نتوكأ عليها لنزيح عن أمتنا إلى الأبد قوى الظلام يجب أن تقتحم هذا النوع من الذكاء الذى نريده، كما اقتحمت وبحماس ساحة الذكاء الاصطناعى بإنشاء كلية جديدة.
نحتاج إلى ذكاء يعيد إنتاج محمد عبده جديد، وعلى عبد الرازق، ونحتاج إلى عقول تستطيع أن تقتحم التاريخ السياسى الإسلامى بقراءة نقدية نافذة تميز بين الخبيث والطيب، وبين ما هو وحى، وما هو ناتج عن أهواء السلطة لمن تعاقبوا على تولى أمور المسلمين.
الكلية الجديدة مؤشر للتطور والفهم بكل تأكيد، لكن الذكاء الاصطناعى ليس غاية فى ذاته، لكنه وسيلة للتطور، وهذه الوسيلة يستحيل أن تنتج وتبدع وتؤسس لفكر إسلامى نابض بالحيوية ومُعادٍ للإرهاب بدون ذكاء إنسانى فى فهم الدين، وعصرية تأويل النص وتطوير أدوات الاجتهاد، وإعادة قراءة التاريخ.
• ومبروك الكلية الجديدة.

Trending Plus