30 سنة على قمة الجبل.. سالم بركات حارس معبد سرابيط الخادم فى جبال سيناء.. يحمل فى قلبه عهدًا ألا يترك المعبد وحيدًا حتى بعد تقاعده.. يسير 3 ساعات مترجلا للوصول للمكان فى رحلة الصعود والهبوط من الجبل

هناك، على قمة جبل سرابيط الخادم بسيناء ..حيث لا صوت يعلو فوق صمت الصخور ولا ظلّ إلا ما تلقيه أعمدة الزمن المنحوتة في جسد الجبل، حارس لم يغادر موقعه حتى بعد أن غادرته الوظيفة "سالم بركات"، الحارس السبعيني الذي لم يعد يحمل بطاقة عمل رسمية بعد تقاعده، لكنه يحمل في قلبه عهدًا قديمًا: أن لا يترك معبد "سرابيط الخادم" وحيدًا.
ثلاثون عامًا قضاها فى الحراسة اليومية لم تكن كافية لتروي ظمأ هذا العاشق للحجارة والآثار والسماء المفتوحة. تقاعد الجسد، لكن الروح بقيت مرابطة… يسير على قدميه ثلاث ساعات كل صباح لتطمئن على صمت المعبد، على موقع كل حجر، على نقوش الفراعنة التي يحفظها أكثر من اسمه،ويبقي في المكان حتى غروب الشمس، ثم يترجل هابطا من علو الجبل عائدا لبيته في حضن الوادي.
هنا تبدأ الحكاية… حكاية رجل من قبيلة العليقات، عاش حارسًا للمكان، فصار هو نفسه أحد معالمه .
فى ديوان متسع جوانبه من الحجر وتظله عريشة من جريد النخل بجوار منزله وتتصدر وجهته مسجد صغير روي سالم بركات، ابن قبيلة العليقات، حكايته لـ "اليوم السابع"..ثم استكملها بعد مرافقتا لموقع المعبد أعلى قمة الجبل..فهو الحارس الذي لم تغلبه السنوات ولا التقاعد، طوال 30 عاما وهو يوميا يصعد جبل "سرابيط الخادم" كل صباح كأن التاريخ لا يكتمل إلا بمروره على المكان. والأن بين الحين والأخر يحاول رغم تجاوزه السبعين، المسافة من بيته إلى المعبد طوال مدة خدمته يقطعها مشيًا على الأقدام، يبدأ رحلته مع بزوغ الشمس، ليصل إلى قمة الجبل قبل الظهيرة، ويقضي النهار بين الأعمدة الصخرية والنقوش التي يحفظها أكثر من اسمه.
"الحاجة اللي بتاكل منها لقمة عيش، اتعب رجلك وريح قلبك"… هكذا كان يقول له والده، الذي سبقه إلى المهمة ذاتها.. ففي هذه العائلة، حراسة المعبد لم تكن وظيفة، بل رسالة تتوارثها القلوب قبل الأكتاف، ونذراً شريفاً لأرض يرونها قطعة من أرواحهم.
يتنفس سالم هواء الجبل، ويصلي على صخوره، ويحدث أعمدته الفرعونية كأنها رفاق عمر لا يخونون الذكرى. على مسطح الجبل، إلى جوار المعبد، بنى كوخًا صغيرًا من الحجر بمقاس موضع جلوسه يلتقط فيه أنفاسه، يجلس فيه بين جولات تفقده للنقوش، وربما يطل منه ليطالع الزائرين القادمين من أسفل الوادي، يبتسم لهم كأنه يستقبل ضيوفًا في بيته.
لكنه لم يكتفِ بالحراسة الصامتة. ذات يوم، وبينما كان يمسح الحصى عن بقعة مجاورة للمعبد، قرر أن يرسم حدودًا لمُصلى. صفّ الحجارة بدقة، حدد القبلة، وأقام محرابًا، لكنه جعله متسعا لربما يحضر أكثر من شخص ويتطلب الأمر صلاة الجماعة.
بسط العم سالم الأرض بيديه علي المكان وهو يقول: "من هنا كنت أسجد، وأقول: يا رب… لا أحد يراني هنا غيرك، وأنت أعلم كم أحب هذا المكان". وكان الدعاء صاعدًا مع صدى صوته فوق القمة، محاطًا بقمم صخرية وسماء لا تنطفئ.
في كل حجر، يرى سالم ذكرى. في كل نقش، حكاية. "اتعلمت من المرشدين اللي كانوا يشرحوا للزوار، حفظت كلامهم، وكنت أتابع بشغف. دلوقتي، لو حد سألني عن تاريخ المعبد، أشرحه له كأني اللي شيده"، يقولها بابتسامة تسبقها دمعة صغيرة في طرف عينه.
حين أُحيل للتقاعد، لم يحتمل الغياب حتي وإن الراتب تغيّر، والدور رسميا انتهى. كان عليه أن يعود. "روحي هناك… لو بعدت، أحس بشي ناقص. أروح أشوف المكان، أطمن إن كل حاجة في مكانها. الحجر، النقش، الدروب، وحتى المصلى اللي صليت فيه سنين".
بيته في الوادي يبعد عن المعبد ثلاث ساعات مشيًا. لكنه لا يتردد. يخرج مع الفجر، يحمل زاده، ويصعد الدروب المتعرجة حتى يبلغ القمة. يقضي نهاره هناك، ثم يهبط مع مغيب الشمس، كأن قلبه ترك شيئًا في الأعلى لابد أن يسترده كل يوم.
"أوصيت الشباب: أهم شيء تحافظوا على المكان، على شرفه. احنا مش بس بنستخرج كنوز، احنا ورثنا راية الأمانة من الفراعنة. وهمي دايمًا ألا يُمس هذا التاريخ بسوء"، هكذا يختصر فلسفته.
يحكي سالم أن بعثات أثرية كثيرة مرت من المكان، وكان الحارس الأول لكل زائر. يتذكر أيامه مع المهندسين، والباحثين، وطلاب الجامعات، ويضحك وهو يروي كيف كان يرشدهم قبل أن يتحدث المرشد الرسمي: "كنت حافظ كل صالة في المعبد، كل كهف، كل لوح منقوش، حتى أسماء الملوك اللي كانوا بيبعثوا بعثات التعدين هنا".
يقول إن أهم ما تعلمه من الثلاثين عامًا هو الصبر. "الصخر مش بس بيتكسر بالإزميل، بيتكسر كمان بالحلم، بالحكاية، بحب الأرض. وأنا حبيت المكان لدرجة إن ما بقيتش أشوفه مكان عمل… بقيت أحسه وطني الصغير".
حين تسأله ماذا يريد بعد كل هذه السنين، يرد بهدوء: "مش عايز حاجة… أنا عشت محافظ على المكان، ودي أمنيتي. أيامي الحلوة قضيتها هنا، ومش مهم الناس تعرف، المهم ربنا يعرف".
سرابيط الخادم، ذلك الاسم الذي ارتبط بمعبد حتحور، ومعادن الفيروز، والنحاس، صار في ذاكرة الناس مرتبطًا أيضًا بسالم بركات. هو الإنسان الذي بقى حين رحل الآخرون. من نَحتوا الأعمدة على قمة الجبل رحلوا منذ آلاف السنين، لكنه ظل حارسًا للنقوش والأحلام والقداسة.
بين الدروب، تختلط خطواته بأصوات الأثر… وبين الصخور، تُنقش قصته مع كل نسمة تمر بالمكان. هو رجل آمن أن الحراسة ليست وظيفة بل شرف، وأن الحفاظ على التراث هو المعركة التي تستحق العمر، حتى وإن لم يُرفع فيها سلاح.
وإن سألت من بعده عن المعبد، ستسمع اسمه في أول الحكاية… سالم بركات، حارس المعبد الأمين.

استراحته-وهو-يسير

الرحلة-اليومة

العم-سالم

بجوار-الاثار

حارس-المعبد

خلال-رحلة-الصعود-للمعبد

داخل-غرفته-البسيطة

وفي-مصلاه-الخاص-jpeg

يعيش-يومه

Trending Plus