في حب مصر... ملحمة وطن

 أ.د/ مها عبد القادر
أ.د/ مها عبد القادر
بقلم أ.د/ مها عبد القادر

مصر وطن يسكن وجداننا، وينبض في شرايين ذاكرتنا الجمعية، فالحديث عن مصر هو انتماء وجداني متجذر، وولاء راسخ لجذور ضاربة في أعماق التاريخ الإنساني، نحن أمام ملحمة وطن، وطن يتجاوز كل الحدود ليغدو روحًا وهوية وتجربة حضارية متفردة، شكلت ملامح الإنسانية منذ فجر التاريخ، ولا تزال تلهم العالم بإبداعها، وتدهش الواقع بصمودها، وتبهر المستقبل بعبقريتها في مواجهة التحديات وتوالي الإنجازات، ولقد كانت مصر وما زالت مدرسةً في الحكمة، ومختبرًا نابضًا للتجربة الإنسانية الراقية، تجاوزت كل محنة وعادت في كل مرة أقوى وأبهى وأكثر صلابةً ووضوحًا في المسار، فهي بحق أم الدنيا ملهمة الحاضر، وبوصلة المستقبل، ونبض الحضارة.


يكفي أن نُذكر العالم بأن مصر أول دولة مركزية عرفها التاريخ، منذ فجر الإنسانية، يوم أن خط الفراعنة ملامح المجد بأيد ماهرة وشيدوا الأهرامات رمزًا للخلود، ونقشوا سيرتهم على جدران المعابد بمداد من نور، في ربوعها تشكلت ملامح الفكر الديني والتأمل الفلسفي، ومنها انطلقت نظم الحكم والإدارة والقانون، لتكون الحضارة المصرية القديمة إرثًا إنسانيًا خالدًا وحجر الزاوية في صرح المدنية العالمية.


وتمثل الحضارة المصرية القديمة مشروعًا إنسانيًا متكاملًا، علم البشرية كيف تنظم وجودها، وتصوغ مفاهيم العدالة، وتحترم قداسة الحياة، فمن معابد الكرنك وأبيدوس، إلى برديات الطب والهندسة والفلك، ترك المصري القديم أثرًا خالدًا في سجل الحضارة العالمية، ولا تزال هذه الحضارة منارةً تهدي ومرجعية تلهم وشاهدًا خالدًا على عبقرية الإنسان حين يؤمن بذاته، ويجعل من الإيمان والمعرفة ركيزتين للنهضة والتجديد، وكما قال عنها هيرودوت مصر هبة النيل فإننا اليوم، ونحن نستقرئ التاريخ ونتأمل الحاضر، نقول بيقين أن مصر هبة العقل البشري، ومهد الحضارة، ورسالة النور إلى العالم.


وتعد مصر بحق قلبَ العروبة النابض، وركنًا راسخًا في منظومة الأمن القومي العربي لم تتخل يومًا عن دورها الريادي في قيادة الأمة، ولم تساوم في انتمائها مهما تبدلت التوازنات أو تعاظمت التحديات تبقي دائما صوتًا أصيلاً، لا يساوم ولا يشترى، وتظل فلسطين في صدارة القضايا حاضرة في ضمير الدولة فهي سندًا وظهيرًا لها تدافع عنها بالدم والدبلوماسية والموقف الصلب، وتبقي مصر الحاميةً لبوابة العرب الشرقية، وسدًا منيعًا أمام الفوضى ومخططات التقسيم وتمضي بثبات وقيادة سياسية حكيمة تدرك تعقيدات الإقليم والمجتمع الدولي، وتسعى إلى تحقيق التوازن بين ثوابت الأمة ومتغيرات العصر.


وتبقي مصر رمزًا للريادة وركنًا أصيلًا في صرح الحضارة الإسلامية، فقد احتضنت العقيدة والفكر الوسطي، وغدت منبرًا للاعتدال وملاذًا آمنًا للفكر المتزن وفي قلب هذا المجد يعلو الأزهر الشريف، منارة للعلم ومرجعيةً راسخة في الدين والفتوى، وقلعةً للفكر الإسلامي المعتدل وامتدت رسالته إلى خارج الحدود عبر بعوثه التعليمية ووفوده الدعوية ومواقفه المتزنة، وتخرج في أروقته علماء ومصلحون حملوا مشاعل الهداية إلى العالم، فجعلوا مصر قبلةً لطلاب العلم، ومن الأزهر صوتًا للإسلام السمح، وعنوانًا للاتزان والحكمة، وقدمت مصر بمؤسساتها الدينية أنموذجًا فريدًا في التمسك بالثوابت في ضوء متغيرات العصر فظلت حصنًا ضد الغلو والتطرف، وبوابة للسلام الروحي والفكري، تنشر نور الاعتدال وقيم الرحمة والحوار والتعايش والكرامة الإنسانية.


وتعد مصر الحديثة نموذجًا لدولة المؤسسات دولة الصمود والعزيمة، فقد خاضت معارك بناء الدولة الحديثة منذ عهد محمد علي، واضعة اللبنات الأولى للنهضة الصناعية والتعليمية والعسكرية، مرورًا بثورة 1919 التي وحدت نسيج الأمة، وثورة يوليو 1952 التي أعادت رسم ملامح المجتمع على أسس العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، وصولًا إلى ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة، التي شكلت لحظة وعي جمعي للمجتمع وصححت المسار واستعادت الإرادة الوطنية وفتحت الباب أمام بناء المستقبل.


ونتيجة لذلك تعيش مصر مشروعًا وطنيًا متكامل الأركان عنوانه الجمهورية الجديدة، بتلك الرؤية التحولية التي تشمل الإنجاز العمراني و الاقتصادي وترسيخ قيم المواطنة الفاعلة والحكم الرشيد والتنمية الشاملة حيث تتقدم مشروعات البنية التحتية، من شبكة طرق ومواصلات حديثة، إلى مدن ذكية تعيد تشكيل الخريطة السكانية، جنبًا إلى جنب مع النهوض بالتعليم، وتوسيع مظلة الحماية الصحية، وتطوير قطاعات الإنتاج والصناعة والزراعة، في أبهى صور التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد، فهي جمهورية ترنو إلى المستقبل بعين البصيرة، وتؤمن بأن التنمية تبدأ ببناء الإنسان وتنمو باستثمار الوعي وتكتمل بتمكين القدرات وتحرير الطاقات.


ولا يمكن الحديث عن مصر دون الإشادة بجيشها العظيم، الذي كان وما يزال درع الوطن وسياجه وسيفه، من معركة حطين إلى نصر أكتوبر المجيد، ومن مواجهة الإرهاب في سيناء إلى حماية الأمن القومي المصري على مختلف الجبهات، وأثبتت القوات المسلحة أنها من أعمدة الاستقرار والسيادة الوطنية، فجيش مصر العظيم مؤسسة وطنية متكاملة، تنتمي للشعب وتحميه، وتجسد تلاحم الدولة مع الإرادة الشعبية.


وتتجلى قوة مصر الناعمة كمصدر إشعاع حضاري وإنساني، إذ تتصدر المشهد الثقافي والفني والفكري في الوطن العربي، فشكلت وجدان الشعوب، ونسجت خيالها الجمعي على قيم الجمال والانتماء والعدالة، وعلمت العرب كيف يحبون ويحلمون ويثورون، وكان المسرح والسينما والإذاعة والأدب والفكر المصري مرآة للضمير العربي، ومصدرًا عميقًا لقوة ناعمة ما تزال تلهم وتبني وتشكل الوعي وتحافظ على الهوية فامتلكت مصر سر التأثير الهادئ والعميق، فاستحقت عن جدارة أن تكون دولة تصنع التاريخ وتشكل الوعي وتلهم المستقبل.


وتتميز الشخصية المصرية في أم الدنيا بذكاء فطري وفطنة نادرة وصبر جميل وأمل متجدد لا ينقطع، فالمصريون رغم المحن والتحديات ظلوا متمسكين بالحياة، مبدعين في شتي المجالات، يتسموا بإرادة لا تلين، وحس إنساني عميق يجعل من كل تجربة ألم طاقة أمل نحو البناء والتجدد، كما يتجلى الصبر والتسامح كركيزتين أصيلتين في هوية المصري فقد واجهوا الاحتلالات والشدائد، وخرجوا منها أكثر صلابةً وإيمانًا بالمستقبل، فلم يفقد المصري شغفه بالحياة، ولا قدرته على الإبداع في كل المجالات من الحرف اليدوية إلى أعلى مراتب الفكر والفن والعلوم فعبقريته تكمن في طبعه المسالم الذي يميل إلى الطيبة والبساطة، ومواجهه الحياة بروح ساخرة ويرفض القسوة ويؤمن بأن الاختلاف لا يفسد للود قضية؛ فهو شخصية باركها النيل، وصقلها التاريخ، وما زالت تبهر العالم بإرادتها وطاقتها على الإنجاز.


ونؤكد أنه في حب مصر تجف الأقلام وتعجز الكلمات، فحبها وفاء يترجم إلى انتماء، وعمل يثمر في ميادين البناء والصمود، إنها مصر أهرامات تحاكي السماء، ومعابد تروي ملحمة الإنسان في سعيه للخلود، وإذا نظرنا إليها اليوم رأينا وطنًا ينهض من كل أزمة أقوى، شامخًا كالنيل، ثابتًا كالأهرام، عصيًا على الانكسار.
وقد من الله عليها بعبقرية المكان وروعة الإنسان، فما من مؤامرة استهدفتها إلا واجهتها، وما من فتنة حاولت اختراقها إلا لفظها وجدان المصريين بوحدتهم واصطفافهم وسلامة وعيهم وضميرهم الجمعي، وستبقى مصر بإذن الله أم الدنيا.. لأنها الأقدر على العطاء والتجدد والاستمرار وتمتلك إرادة لا تكسر، وشعبًا لا يقهر، وجيشًا يحميها، وقيادة حكيمة تؤمن أن المستقبل يصنع بالعمل، ويبنى بالعقل، ويحمى بالوحدة والسيادة.

_____

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اللجنة المصرية توزع آلاف الطرود الغذائية على سكان غزة.. فيديو وصور

الإعدام شنقا للمتهم بقتل زوجته حرقا فى الشرقية

اعترافات طلاب مطاردة فتيات الواحات: لاحقناهما وحاولنا إيقاف السيارة

أول صورة للمتهمين بمطاردة فتيات طريق الواحات

النيابة تستدعى مصور حادث مطاردة سيارة فتيات طريق الواحات لسؤاله حول الواقعة


والدة فتاة حادث طريق الواحات: “مش هتنازل عن حق بنتى.. والرعب اللى عاشته”

بيراميدز يتفوق على الإسماعيلى فى المواجهات قبل لقاء اليوم بالدورى

وفاة بطل حريق شبرا الخيمة متأثرا بإصاباته بحروق فى جميع أنحاء جسده

ذروة الموجة الحارة.. تحذير من الأرصاد للمواطنين والقاهرة تسجل 42 درجة فى الظل

زوجة "بيليه فلسطين" توجه نداءً عاجلاً إلى محمد صلاح


النيابة تحقق فى مطاردة 3 طلاب سيارة فتيات بطريق الواحات

هل يحتفظ عضو مجلس الشيوخ بوظيفته الأساسية أثناء الانعقاد؟ القانون يجيب

المطلقات والمرأة المعيلة أولوية فى وحدات بديلة بقانون الإيجار القديم

في ذكراها.. شويكار في تصريح سابق لليوم السابع: شقيقتى لم تعمل في مجال الفن

ناشئو اليد أمام إسبانيا فى ربع نهائى بطولة العالم تحت 19 عاما

هل يجوز إخلاء وحدات الإيجار القديم بالتراضى بعد صدور القانون؟.. التفاصيل

بعد قرار الجنايات.. فصل جديد ينتظر قضية "قهوة أسوان" بعد تأجيلها للمرافعة

14 ألف فرصة عمل و317 مشروعا.. المنطقة الصناعية بحى الكوثر نهضة كبيرة بسوهاج

لو مأجر قديم وعندك شقة تانية.. خد بالك القانون يقضى بالإخلاء

"أهداف متتالية وهاتريك تاريخي".. سجل حافل يدعم محمد صلاح ضد بورنموث

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى