العناد.. عدو خفى يهدم البيوت

العناد ليس قوة كما يتوهم البعض، بل هو ثقلٌ في القلب، ومتانة زائفة في الرأي، تُفضي في النهاية إلى خراب العلاقات لا بنائها، هو ذاك الجدار الخرساني الذي نبنيه بأيدينا، ثم نشتكي من برود الظل خلفه.
ثقافة العناد، حين تتغلغل في النفوس، تُعطّل التفاهم، وتُصيب الحوار بالشلل، وتُحيل البيوت إلى ساحات معارك بلا منتصرين.
بين الأزواج، يتحول العناد إلى معركة كرامة زائفة، كل طرف يصرّ على موقفه لا لأنّه على حق، بل لأنّه لا يريد أن "ينكسر"، وينسى الطرفان أن اللين ليس ضعفًا، وأن التراجع عن الخطأ لا يقلل من القيمة، بل يزيدها، فكم من بيتٍ كان الحب فيه حيًا، ثم مات مختنقًا تحت أنقاض "العند".
وبين الأصدقاء، يكون العناد سمًا صامتًا، يقتل العلاقة بالتدريج، كلمة لم تُعتذر، موقف لم يُفسَّر، وكلٌّ ينتظر الآخر أن "يبادر"، فتضيع المودة بين صمت وصمت، وتذبل الصداقة التي كانت يومًا وطنًا.
أما بين الأقارب، فالعناد يُعمّق الشروخ، ويُحوّل صلة الرحم إلى ساحة تجاذب لا رحمة فيها، كلُّ يرى نفسه على صواب، وكلٌّ يُحمّل الآخر مسؤولية البُعد، والدم الذي كان دافئًا يصير بارداً لا يُروى به ظمأ العلاقة.
في العمل، يتحوّل العناد إلى معوق حقيقي للإنتاج، كل موظف يرى فكرته هي الأصح، وكل مدير يرفض النقاش، فتتعطل الأفكار وتتآكل روح الفريق، فلا نجاح يولد في بيئة كل فرد فيها يُصرّ أن يكون القائد الوحيد.
حتى بين الآباء والأبناء، يتسلل العناد متخفيًا في هيئة حزم، فيغيب الحوار، ويحضر الأمر والنهي، فيتمرد الابن، ويغضب الأب، وتضيع التربية بين أروقة العناد المتبادل.
أما في المجتمع كله، فإن العناد يُنبت الكراهية بدل التفاهم، والعداء بدل القرب، ويجعل من الاختلاف خلافًا، ومن النقاش خصامًا، نُصبح مجتمعًا يعلو فيه الصوت بدل أن يُسمع فيه العقل.
أليس من الأولى أن نعود لقول الله تعالى "فبما رحمةٍ من الله لِنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك"؟ ألم يحن الوقت لندرك أن اللين لا يُضعفنا بل يُجمّلنا، وأن الاستماع لا يُهيننا بل يُثقلنا وعيًا ورفقًا؟
فلنُغيّر هذه الثقافة، ولنُبدل العناد بالحكمة، والغلظة بالرحمة، لأن الحياة أقصر من أن نعيشها في ساحات العناد، وأثمن من أن نهدرها في معارك لا رابح فيها.

Trending Plus