لماذا نحتاج إلى الثقافة (11) الأمن الثقافى.. فى ضرورة أن نواجه عواصف الاختراق

هيثم الحاج على
هيثم الحاج على
هيثم الحاج على

فى القرن التاسع عشر، وبينما كانت أوروبا تنظر إلى الشرق كأرض للاستكشاف والنفوذ، سجلت الرحالة آن بلنت ملاحظات دقيقة خلال جولتها فى الجزيرة العربية، حيث لفت انتباهها بشكل خاص طريقة العرب في الأخذ بالثأر، تلك التي تعتمد على الترصد وإيقاع القتل غيلة، وقد قارنت بلنت هذه الطريقة بما عرفته من تقاليد غربية تدعو إلى المبارزة العلنية، ورأت في الشكل الغربي، رغم عنفه الظاهر، صورة أكثر "نبلا وإنسانية".

وبالنظر إلى هذه النظرة الاستعلائية، التي ترى في قيم الذات الغربية معيارا يجب أن يحتذى به، يمكن أن نرى أنها كانت بمثابة الشرارة الأولى لفهم كيف بدأ الاستعمار في التعامل مع ثقافات الآخرين باعتبارها أقل قيمة وتحتاج إلى تغيير.

بعد عقود طويلة، وفي كتابه "كتاب الضحك والنسيان"، يضع الروائي الفرنسي ميلان كونديرا يده على جوهر هذه العملية، مؤكدا أن "الخطوة الأولى في سبيل التخلص من أحد الشعوب هي محو ذاكرته وتدمير كتبه وثقافته وتاريخه"، عندها، يصبح الشعب لقمة سائغة لثقافة جديدة، وهويات زائفة، وتاريخ ملفق، وقبل أن تبدأ الأمم في نسيان حقيقتها، يسارع العالم من حولها في نسيانها بشكل أشد تسارعا.

ما هي هذه الثقافة التي يسعى البعض لفرضها أو محوها؟ هي ذلك الكل المعقد الذي يشمل معارفنا، وإيماننا، وفنوننا، وأخلاقنا، وقوانيننا، وأعرافنا، وكل القدرات والعادات التي نكتسبها كأعضاء في جماعة، وهي المعايير التي تحدد معنى حياتنا، والرموز التي توجه غاياتنا، إنها الأساس الذي تقوم عليه حضارتنا وتميزنا عن الآخرين.

من هنا تبرز أهمية مفهوم "الأمن الثقافي"، وهو شعور الفرد والجماعة بالاطمئنان على هويتهم، والإحساس بالأمان عليها من الخطر، والهجوم، والتهديد، والمحو، والتشويه، فالأمن الثقافي ليس مجرد حماية للتراث، بل هو صون للوجود ذاته، فمن لا هوية له، لا وجود له في معترك الأمم.

قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى تناقض بين مفهومي "الثقافة" المنفتحة والمتفاعلة و"الأمن" الذي يوحي بالانكماش والانغلاق، لكن الأمن الثقافي الحقيقي ليس عزلًا، بل هو بناء مناعة، ليكون بمثابة قدرة الثقافة على تلبية حاجات المجتمع المعرفية والروحية والفنية، وعلى الإنتاج والتراكم والإبداع، بما يرفع خطر الخوف من فقدان القيم والرموز التي تجيب عن تساؤلاتنا وتطلعاتنا، دافعه هنا إيجابي، ينشد التطور والتقدم لا الارتكاس.

وإذا كانت الهوية هي قلب الأمن الثقافي النابض، وهي الإطار الذي يجمعنا ويمنحنا إحساسا بالانتماء والتميز، وكما قال كارل ماركس، فقد بدأت فكرة العولمة مع الثورة الصناعية، حيث سعت البورجوازية لخلق عالم على شاكلتها، ونظرت البلاد المتأخرة إلى ما تظنه مستقبلها في مرآة الدول المتقدمة، وهو ما يبدو في الأساس محاولة لمسخ الهويات المتعددة لصالح هوية واحدة غربية تكون هي المعيار الأساسي الذي يقاس عليه تقدم، بل وجود الشعوب الأخرى.

كان الاختراق الثقافي إذن وسيلة أساسية في يد الاستعمار، بدءا من محاولة إقناع المجتمعات بأنها الطرف الأضعف والأقل حضارة، مرورا بمحو الثقافة القديمة، وصولا إلى محاولة صناعة مجتمعات غربية في الشرق، وبعد نهاية الحرب الباردة، اتخذ الاختراق أشكالا أكثر دهاء، من خلال تنميط المجتمعات وهدم الأيديولوجيات الكبرى والقوميات.

ولا يخفى على الجميع أن وسائل الاختراق الحديثة قد صارت أكثر تنوعا وتأثيرا: الإعلام بكل أنواعه، ومناهج التعليم، والشركات متعددة الجنسيات، وحتى كتب الأطفال، ومنصات الفنون، وتطبيقات الهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وكلها أدوات يمكن أن تستهدف لغتنا، ومنظومة قيمنا، وعاداتنا، ووعينا بتاريخنا.

وارتباطا بما يسمى بعولمة الأخلاق، يتجلى خطر حقيقي في تسرب قيم غريبة تؤدي إلى فساد الذوق، وتشويه القيم، وتهديد صفاء تشكيلنا الثقافي، مما يحدث خللا في جهاز الثقافة العام ويجعل هويتنا عرضة للتخريب.

في مواجهة هذا التسارع في وتيرة التغيير والاختراق، يقع على عاتق الدولة بمؤسساتها الدور الأكبر في الحفاظ على الأمن الثقافي للجماعة، من خلال سياسات حمائية تقوم على غرس الاعتزاز بالثقافة الوطنية، وربط الأجيال بتاريخها، وتقوية حس الانتماء، تستطيع الثقافة أن تمارس عملية غربلة واعية لما هو دخيل، واحتضان القيم الإنسانية التي لا تتعارض مع خصوصيتها.

وسوف يظل الأمن الثقافي سواء وعينا بذلك أم لا هو الحصن الأخير للأمة، في هذا العالم المتغير، وهو الوعي بذاتنا، والاعتزاز بتاريخنا، والقدرة على التفاعل مع العالم دون الذوبان في تياراته، وهو مفتاح بقائنا وتقدمنا في وجه رياح التغيير العاتي، شريطة أن نعي بذلك وأن نوجه إرادتنا نحو تفعيله وهو أمر ليس بمستحيل لو خلصت نوايانا.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

مواعيد مباريات منتخب مصر فى بطولة أمم أفريقيا

باريس سان جيرمان بالقوة الضاربة أمام فلامنجو فى نهائى كأس القارات

رئيس الوزراء: سنناقش إنهاء إجراءات تحويل الدعم العينى إلى نقدى الأسبوع المقبل

من حريق شقة بطلة فيلم اللى بالى بالك لكل بيت مصرى.. تحذيرات أمنية لا تحتمل التأجيل.. الخبراء يضعون روشتة لمواجهة الحرائق.. الحذر أثناء استخدام وسائل التدفئة.. ويشددون على كواشف الدخان والتأكد من سلامة الأسلاك

مجلس الوزراء يوافق على 14 قرارا خلال اجتماعه اليوم.. تعرف عليها


انتهاء نظر استئناف محمد رمضان على حبسه عامين وتغيبه عن الحضور

الأهلى يناقش استعارة لاعب سيراميكا فى يناير ضمن صفقة عمر كمال

بعد مصرع نيفين مندور.. حوادث مأساوية أنهت حياة فنانين بعيدا عن الكاميرا

أبرد الفصول.. الشتاء يبدأ رسمياً الأحد المقبل ويستمر 88 يوما و23 ساعة

شرط محمد صلاح للبقاء مع ليفربول بعد أزمة سلوت


ليفربول يبلغ وكيل محمد صلاح موقفه من رحيل الملك المصرى

فريق النيابة يعاين حريق شقة الفنانة نيفين مندور بعد وفاتها بالإسكندرية

حالة الطقس.. الأرصاد تكشف خرائط الأمطار خلال الساعات المقبلة

نيابة المنتزه تحقق فى مصرع الفنانة نيفين مندور داخل شقتها بالإسكندرية

نيفين مندور.. عاشت حياة مليئة بالأزمات ورحلت فى نهاية مأساوية

الأهلي مهتم بضم محمد توريه لتدعيم هجومه في يناير

جار نيفين مندور يكشف تفاصيل مصرعها فى حريق منزلها بالإسكندرية

مصرع الفنانة نيفين مندور بطلة فيلم اللى بالى بالك فى حريق بمنزلها

بدء الاقتراع بأول أيام جولة إعادة المرحلة الثانية لانتخابات النواب

الطقس اليوم الأربعاء 17-12-2025.. أجواء باردة وانخفاض بالحرارة وأمطار

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى