نجيب محفوظ والتعدد

حسين حمودة
حسين حمودة
حسين حمودة

شيد نجيب محفوظ تجربته كلها، من أولها إلى آخرها، على قيم كبرى أساسية، منها قيمة التعدد الذى ينأى عن، ويناوئ، التصور الضيق، أو الصوت أحادى النبرة، الذى لا شريك له.

طوال رحلة إبداعه التى اجتازت أكثر من نصف قرن، والتى بدأت بمقالات وقصص قصيرة، ثم شهدت أعماله الروائية الكبرى المعروفة، واتصلت بقصصه القصيرة وبنصوصه الدرامية، وانتهت بخلاصاته المختزلة (فى "رأيت فيما يرى النائم"، ثم "أصداء السيرة الذاتية" وحتى "أحلام فترة النقاهة").. طوال هذه الرحلة الممتدة، المتنوعة، ظل نجيب محفوظ مهتما دائما بأن يجعل كتاباته أشبه بساحة حرة تتحرك فوقها شخصيات تحمل أفكارا متباينة، وتنتمى انتماءات اجتماعية وفكرية متعددة، وتختار لحياتها، وأحيانا يختار لها، مسارات مختلفة، وتنتهى إلى مصائر ونهايات شتى.. كما ظل محفوظ حفيّا دائما بأن يجعل من هذه الكتابات، هى نفسها، مادة متجددة، تجسّد هذا التنوع؛ على أكثر من مستوى.

قبل هذا كله، نهلت تجربة نجيب محفوظ، معرفيا، من روافد عدة، يمكن القول إنها روافد التراث الإنسانى كله، فنجيب محفوظ، القارئ الأبدى، المنظّم والدؤوب (حتى بعد أن كفّ بصره أو كاد)، الملتزم ببرنامج للقراءة طويل وممتد وصارم إلى حد لا يصدّق، سعى سعيا متصلا إلى الاطلاع على أمهات المؤلفات، باللغة العربية وبالإنجليزية، وإلى حد ما بالفرنسية، فى مجالات شتى طالت الأدب والفلسفة والأديان والعلوم والحضارة، وغيرها.. ونجيب محفوظ، الواعى بانتمائه إلى هوية مصرية تمثّل ـ بحد ذاتها ـ نموذجا ناصعا من نماذج التعدد.. ونجيب محفوظ، المفصح بوضوح (كما كتب فى خطاب تسلمه لجائزة نوبل) عن كونه "ابن حضارتين" (ونستطيع أن نضيف: "لا حضارة واحدة").. نجيب محفوظ، بهذا كله، لم يكن له أن يصبح غير ما أصبح: عارفا بأخطاء الأحادية، ومدركا لأخطار الانعزال والتعصب بكل أشكالهما، وملمّا بأن الانتماءات والمواقف والتصورات والمعارف يمكن أن تتلاقى وأن تتفاعل، وموقنا بأن الإنسان الفرد الواحد ليس كما يبدو ظاهريا؛ إذ إن هذا الفرد الواحد يطوى غالبا بداخله بوتقة خفيّة، انصهرت فيها وانسبكت معا عناصر عدة، صاغت له ـ فى النهاية ـ هويته الواحدة.

***
كان من أمثلة التعدد، فى عالم نجيب محفوظ، نزوعه إلى "تمثيل" -بالمعنى النيابى- التيارات والانتماءات المتباينة فى حيز واحد. لاح هذا النزوع منذ روايته المبكرة (القاهرة الجديدة) التى صدرت فى أربعينيات القرن الماضى، والتى بدت شخصياتها أشبه بتعبيرات حية عن تيارات مختلفة. وسوف يتصل هذا النزوع خلال روايته (ميرامار) التى صدرت خلال الستينيات، والتى احتوى فيها المكان الواحد، "البنسيون" الذى وهب الرواية عنوانها، شخصيات متباينة الانتماءات، اجتماعيا وسياسيا وفكريا. ثم سوف يتصل هذا النزوع أيضا فى رواية محفوظ (العائش فى الحقيقة)، التى صدرت خلال الثمانينيات، والتى نهضت على تصور أساسى ينفى إمكان أن تكون "الحقيقة" أحادية الجانب، نهائية ومطلقة، وأنها يمكن أن تتعدد بتعدد زوايا النظر إليها. وامتداد مثل هذا النزوع، الذى ظل يراود محفوظ طيلة عقود، يعنى أنه لم يكن محض نزوع عارض، بل كان وظل جزءا لا يتجزء ـ كما يقال ـ من تصور محفوظ، ومكوّنا أساسيا، قارا وثابتا، من رؤيته الكلية الشاملة، المتنامية الممتدة.

وكان أيضا من أمثلة هذا التعدد فى عالم نجيب محفوظ، أن طرائق كتابته وأساليبها تنوعت وتغايرت عبر ما يسمى "مراحله" أو "منظوماته"، وهكذا تجاورت وتحاورت أساليب هذه الكتابة لتعبر عن أكثر من مستوى للوعى، وعن أكثر من ذائقة، مرتبطة بمغامرات فنية متتالية. وسيكون من الكلام المعاد محض الإشارة إلى أن محفوظ قد ظل، طيلة رحلته الإبداعية، يستكشف مساحات جديدة للكتابة، ويستطلع مناطق غير مأهولة فيها، ويسائل دوما ما كان قد كتبه من قبل، ليجاوزه ويتخطاه. ومن هنا كانت أعماله على هذا التنوع الكبير الذى نعرفه، وعلى هذا الاتساع المشهود الذى نراه؛ وكأن هذه الأعمال، على كل ما يربطها ويصل بينها، نتاج عمل كاتب واحد تناسل أو تكاثر فى مجموعة من الكتاب!
[من مفتتح عدد من أعداد "دورية نجيب محفوظ"، محوره "التعدد في عالمه"].

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

نبيل الكوكي يطالب لاعبي المصري بنقاط الحدود للحفاظ على قمة الدوري

الإسماعيلى يتسلح بالتفوق فى المواجهات المباشرة أمام الطلائع في الدورى

أخبار مصر.. فتح باب قبول تحويلات الطلاب إلى كليات جامعة القاهرة للعام الجديد

كهربا يتحدى ربيعة.. موعد مباراتي القادسية والعين في دوري أبطال الخليج

دوناروما يرحب بالانضمام إلى مانشستر سيتي بسبب جوارديولا


القاهرة فى الظل 37 درجة.. الأرصاد تحذر من استمرار ارتفاع درجات الحرارة

طبيب الأهلي يحدد موعد عودة مروان عطية للتدريبات الجماعية

مواعيد مباريات اليوم.. فولهام مع مانشستر يونايتد وأوفييدو ضد ريال مدريد

إصابة شخصين إثر حادث انقلاب سيارة فى الصف

طلائع الجيش يستضيف الإسماعيلي في مواجهة مثيرة بالدوري الليلة


عرض أولى حلقات مسلسل أزمة ثقة على قناة ON و Watch it اليوم

سون يسجل أول أهدافه في الدوري الأمريكي بطريقة خيالية.. فيديو

ريال مدريد يخشي مفاجآت ريال أوفييدو في الجولة الثانية من الدوري الإسباني

مع ارتفاع درجات الحرارة.. كيف تتجنب حرائق التكييفات خلال موسم الصيف

فتح باب قبول تحويلات الطلاب إلى كليات جامعة القاهرة للعام الجديد

رحيل صادم للممثل الشاب بهاء الخطيب..سقط أثناء لعبه كرة القدم وذبحة صدرية أودت بحياته.. تشييع جثمان الراحل في البدرشين ودفنه بمقابر ميت رهينة.. ونجوم الفن ينعونه ويشيدون بموهبته وأخلاقه وحبه وتشجيعه لأصدقائه

مساعدات استثنائية للأسر الفقيرة بقانون الضمان الاجتماعى تصرف فى 7 حالات

تشييع جثمان بهاء الخطيب في البدرشين ودفنه بمقابر ميت رهينة

وسام أبو علي يسجل ظهوره الأول في الدوري الأمريكي ويربك معلق المباراة بهدف.. فيديو

إعلان القائمة.. موعد مباراة بيراميدز ومودرن سبورت بالجولة الرابعة للدورى

لا يفوتك


شيرين .. عبثيات "البخت المايل"

شيرين .. عبثيات "البخت المايل" الأحد، 24 أغسطس 2025 12:00 م

المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى