بعد 29 عاما من رحيله.. صلاح أبو سيف فى حوار ينشر لأول مرة: اتهمونى فى طفولتى بالشيوعية.. أسرتى ضربتنى خوفا من إفسادى بالسينما.. الواقعية أساسها الصدق.. وكنت "بازوّغ" من المدرسة وأشاهد الأفلام فى عابدين بقرش صاغ

مجدي أحمد علي - محسن ويفى
مجدي أحمد علي - محسن ويفى
حوار - مجدى أحمد على - محسن ويفى

- «البداية» كان اسمه «اللعبة» لكنها «قلبت جد».. وحذفت الكثير منه لحرصى على علاقتى بالجمهور

- رائد الواقعية قبل وفاته: السينما فن شعبى وليست للصفوة.. المخرج مثل شهرزاد والجمهور شهريار سيطيح برأسى حال إحساسه بالملل.. أشعر بالرعب مع كل فيلم.. وبعد تصوير «شباب امرأة» سألت نفسى عمن سيفهمه

- وزير الداخلية النبوى إسماعيل كان يحاول إقناع السادات بقبضته القوية على غير الحقيقة شخصيتى الخجولة منعتنى من تحقيق حلمى فى النشاط السياسى.. واتجهت للسينما بالمصادفة

- أعتبر «السقا مات» من أفلامى الواقعية.. أخرجت أعمالى الشعبية بسهولة لأننى عشت فى حارة ولكنى درست الريف 6 أشهر لأستطيع إخراج «الوحش» و«الزوجة الثانية»

بعد مرور حوالى 29 عاما على رحيله، تنشر «اليوم السابع» حوارا مع رائد السينما الواقعية لم ينشر من قبل.

قيمة الحوار لا تنبع فقط من قيمة صلاح أبوسيف التى تكفى وحدها، لكنها تنبع أيضا من أن الحوار على غير العادة، أجراه مخرج متميز هو المخرج مجدى أحمد على، والناقد الراحل الموهوب محسن ويفى، اللذان استطاعا بحسهما الفنى أن يقتحما بجرأة العالم الداخلى الخفى لهذا المخرج العظيم، وأن يحصلا منه على شهادات قيمة، ليس فقط حول تجربته الغنية فى الحياة والسينما، ولكن أيضا حول تجربة السينما الواقعية عموما فى مصر.

وقد تم إجراء الحوار مع صلاح أبوسيف قبل رحيله، لكنه ظل حبيس الأدراج إلى أن قررت «اليوم السابع» إخراجه إلى النور اليوم.

فى هذا الحوار، يتناول مخرج «الزوجة الثانية، والسقا مات، والبداية، والقادسية، والمواطن مصرى، ولا أنام، والوحش، والفتوة، والأسطى حسن، وريا وسكينة، وفجر الإسلام، وحمام الملاطيلى»، الكثير من الأمور حول بعض أفلامه البالغة 41 فيلما، وهى أمور تعكس خلفيته الثقافية ورؤيته للفن والسينما، تحدث فيها عن الجوانب المتعلقة بصناعة السينما والمعارك التى خاضها وتجربته مع القطاع العام وتأثير نشأته وتربيته وانعكاسها على أفلامه والعديد من الكواليس والأسرار.. وإليكم نص الحوار:

كان فيلمك «البداية» قفزة نحو المجهول اقتحمت فيه الفانتازيا السياسية دون خبرة سابقة كما أن الجمهور الذى تراهن عليه لم يختبره.. ألم تكن خائفا؟

كنت مرعوبا.. ولكن هذا يحدث معى فى كل فيلم تقريبا وأتردد كثيرا وأخاف خاصة من الجمهور وأذكر أننى عندما انتهيت من صنع «شباب امرأة»، كنت خائفا من عرضه وقلت لنفسى «من سيفهم هذا» كما أن استقبال الجمهور فى كل مرة يختلف بسبب اختلاف طبيعة الجمهور أو الزمن الذى يعرض فيه الفيلم، فمثلا فيلم «بين السماء والأرض» لم يحبه الجمهور إلا بعد 10 سنوات.

وأذكر أيضا أننى كنت أعرض «ريا وسكينة» فى مهرجان برلين، لكنى فوجئت فى البداية وطوال العرض بحالة من الصمت التام بين الجمهور المصرى وأحسست بأن الناس لا تنفعل بالفيلم حتى كدت أنهار تماما ولكن بعد انتهاء الفيلم استمر تصفيق الناس ربع ساعة متواصلة دون أن أقوى على الوقوف لتحيتهم.

أشكال تعبير كل جمهور عن إعجابه تختلف كثيرا.. هذا الخوف من الجماهير خاصة بعد الشرخ الذى حدث لى بعد عرض فيلمى «بين السماء والأرض» و«القضية 68» هو الذى جعلنى أتردد كثيرا فى إطلاق العنان للخيال أو الفانتازيا فى فيلم «البداية»... نعم.. أنا أعترف بذلك فالناس هى ما يهمنى أولا وأخيرا.

اتفقت مع الجمهور فى بداية فيلمك «البداية» على «لعبة معينة».. لماذا تحس مع تقدم الفيلم أنك خدعت جمهورك وحولت اللعب إلى جد.. قتل.. حريق.. سكاكين ثم عزوت خضوع الناس للحاكم إلى عيوبهم الداخلية وعدم قدرتهم على الاتحاد.. ألم يكن ذلك على حساب الجانب الآخر من الحقيقة وهو أن السلطة قوية فعلا؟

فعلا كانت هناك لعبة أقول للناس فى كل خطوة منها: دعونا نفترض أنه حدث كذا.. وماذا لو حدث كذا.. تخيلوا لو حدث كذا.. وكان اسم الفيلم فى البداية «اللعبة» ولكنها قلبت جد مثل كل اللعب الشرقى فى قصص ألف ليلة وليلة وغيرها، إن الحكاية عادة ما تبدأ بشكل ضاحك بسيط، ثم ما تلبث أن تظهر الوحوش والشياطين وتتعقد الحكاية.

هذا مستوى، والمستوى الآخر أن الموضوع فى نظر كل مجموعة الطائرة لعب ولكنه ليس كذلك بالمرة فى نظر نبيه الأربوطلى.. إنه يمارس تسلطه وذكاءه منذ اللحظة الأولى.. إنه يحاول ضم الدكتورة والصحفية بعد ذلك وخاصة الملاكم الساذج... وعندما يدرك الآخرون أصول اللعبة يبدأون فى محاولة مجاراته.. فتظاهر الطيار بقبول الرشوة وتتغير الدكتورة وتهرب الصحفية وتنقلب عليه عندما تدرك بحسها التلقائى بأن الكفة لا تميل لصالحه.

ولقد قصدت الإيهام بالقوة وليست القوة ذاتها، لقد كان النبوى إسماعيل وزير الداخلية فى أواخر عهد السادات يردد طوال الوقت فى الصحافة عن مؤامرات تم ضبطها وأسلحة تم العثور عليها وذلك لكى يقنع الجميع بمن فيهم الحاكم نفسه أن السلطة قابضة على زمام الأمور بقوة بينما عرفنا بعد ذلك حجم الهشاشة التى كان عليها النظام فى هذا الوقت وأن أعضاء الحكومة كانوا يخدعون بعضهم بعضا.

فى فيلم البداية هل هذه هى صورة الفلاح المصرى كما تراها؟ ألم تتغير طوال كل هذه السنوات؟

الأحوال تغيرت ولكن السمة الأساسية للفلاح لم تتغير فى رأيى.. الطيبة والمباشرة والسذاجة.. إنك إذا لم تكن متنبها وجاءك من يقول لك «ناولنى الحذاء» فربما تجد نفسك تلقائيا تفعل ذلك، إن السلوك عند الإنسان الطيب «هى ماهيته».

لماذا كانت بعض المفارقات الكوميدية فى «البداية» غير مفهومة إلا للمثقفين أو الذين نالوا درجة من التعليم؟

قد يكون هذا صحيحا فليس كل الناس تضحك بنفس الدرجة على كل المفارقات أو الأفيهات ولكنى أجد هذا طبيعيا فالفيلم مصنوع لكل الناس على اختلاف مستويات ثقافتهم».

لماذا ترى الصدفة المبرر الأصلى لوجود السلطة بينما الرؤية السائدة أنها نتاج الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى تفوز فيها الطبقة الحاكمة بمن يجيد تمثيلها والدفاع عن مصالحها؟

هذا كلام صحيح فى العموم ولكن أغلب حكام العالم الثالث اليوم موجودون بالصدفة على رأس دولهم وقد لا يكونون أفضل من يعبر عن طبقاتهم.. أو بالأصح إن استغلال الصدفة هو مبرر وجودهم الأساسى أن نبيه الأربوطلى لم يحتمل أن يتحدد مصيره بالصدفة فاشترى نصيب الفلاح كى يستغل الصدفة كما اتضح من شخصيته فى بداية الفيلم فى استغلال كل شىء.. الرمال والمياه الكبريتية.. كما أنه بعد حصوله على الجزيرة يلجأ لكل شىء ابتداء من الغش وانتهاء بالقتل.

هل امتد أسلوبك فى كسر الإيهام إلى تعليمات الأداء للممثلين؟

طبعا وهذا ملحوظ بوضوح فى أسلوب أداء الجميع خاصة أحمد زكى ويسرا كما أن الموضوع كان أكثر جرأة من هذا ولكنى حذفت كثيرا لحرصى على علاقة الفيلم بالجمهور.. مثلا كان الطفل فى الفيلم يقول لمن يسأله عن وصول الطائرة.. «أن أونكل» المخرج لن يجعلها تصل إلا فى نهاية الفيلم «حذفت ذلك لأنى خفت من زيادة جرعة الفانتازيا على جمهور فيلم لم يتعود هذه السينما».

ألم يكن «الشرف» بالمعنى التقليدى مبررا ساذجا للثورة فى نهاية الفيلم خاصة بعد المعاناة التى يمكن لأى منها أن تكون دافعا قويا للثورة والتغيير؟

أولا أردنا أو لم نرد، فالشرف عند العرب هو الشىء الوحيد.. حتى هذه اللحظة الذى لا يمكن التسامح بإزائه أو الصبر عليه، وثانيا كانت هذه النقطة فى الفيلم قمة لمجموعة من التراكمات التى كانت المجموعة تختزنها حتى جاء هذا الموضوع بمثابة «القشة التى قصمت ظهر البعير».

والانتخابات الديمقراطية فى النهاية.. هل كانت مبررة بعد الخلاص من نبيه الأربوطلى؟

هذه أيضا من عيوب فهمنا للديمقراطية فى العالم الثالث أننا نتصور إمكان قيام الديمقراطية فى ظل أوضاع تسمح بالاستغلال.. أن اللعبة كما قلت «قلبت جد» وهو عندما يخسر الانتخابات التى حاول شراء الأصوات فيها.. يقول سأشكوكم للأمم المتحدة.. سأستدعى أمريكا.. إنه فهم هذه الطبقات للديمقراطية.

وماذا عن النهاية؟ هل كان ترك نبيه فى الواحة موفقا؟

كان رأى رافت الميهى  المنتج المنفذ  فى التحضير أن تأخذ الطائرة نبيه معها وإنقاذه ولكننى رأيت أن الفيلم عن الاستغلال داخل المجتمع.. وبرحيل الجميع لا يوجد مجتمع يستطيع نبيه أن يمارس فيه رغباته فى الاستغلال، وهذا هو أقصى درجات العقاب الذى تسمح به الدراما لأن الإيحاء بالمحاكمة المؤجلة يمكن أن يصل إلى المتفرج لو أن الطائرة أنقذته معهم ممكن يصل إلى إمكانية العدل تحت نفس الظروف.

ألا تحس أن شخصيات فيلم البداية تعانى من السيمترية والتنميط وليست شخصيات حقيقية من «لحم ودم»؟

أعتقد أننى أردت عن طريق هذه الشخصيات تمثيل المجتمع وأتيت بهم فى مكان منعزل حتى أقربهم من أماكنهم الطبيعية الخاصة بكل منهم.. فهنا فقط يوجد العمال.. والفلاحون ومختلف شرائح المجتمع المختلفة، وقد اخترت طريق الكوميديا لكى أوصل كل هذه المعانى للناس.. وإن كنت قد اخترت صيغة أخرى لتاه الجمهور هذا هو ما تخيلته عن كل الفئات الاجتماعية وطريقة التعبير عنها الآن فى السينما.

هل تظن أن الجماهير والنقاد استقبلوا «البداية» استقبالا حسنا؟

أكثر مما توقعت فالفيلم يعرض الآن فى أسبوعه السابع والإيرادات تزداد كما أن النقاد المصريين «المحترمين منهم» احتفوا جميعا بالفيلم واستقبل الفيلم من الجماهير فى فينيسيا استقبالا رائعا.. ماذا يطلب الفنان أكثر من ذلك؟!

فى قائمة أفلامك الأساسية نجد هذا الطابع الشعبى.. هل دخلت السينما بمظهر محدد للواقعية؟ أم حدث ذلك أثناء عملك بالسينما؟

حدث ذلك قبل الاهتمام العملى بالسينما فقد كانت كل قراءاتى فى الأدب - للكتاب الواقعيين سواء الكتاب الروس أو الفرنسيين.. ثم هناك التأثير الكبير للبيئة الاجتماعية التى ربيت وتعلمت فيها.. فقد تربيت وسط ناس مكافحين وبهم أصالة حقيقية.

وكنت وأنا صغير أحفظ نداءات بائع البطيخ «فى الحارة ببولاق ومعاملاتى المختلفة مع حسنين البقال ومرسى النجار ما انعكس بعد ذلك فى أفلامى.

وكنت مقتنعا من قراءتى الخاصة بأننى لا بد أن أساهم فى تطوير هؤلاء الناس أو الاشتراك فى تغيير ظروفهم الاجتماعية فوجدت أمامى مباشرة ميدان العمل السياسى.. وبالذات لأنه كان يوميا تقريبا يوجد سرادق ضخم لأحد الأحزاب السياسية الموجودة فى هذا الوقت.. وكان يخطب فيها قبطان.. وزعماء وخطباء كبار ومؤثرون جدا.. كما أن خالى كان كثيرا ما يقبض عليه لنضاله الوطنى ضد الإنجليز.. كما أن هناك أحداثا شخصية منذ الطفولة صغيرة لكنها مهمة جدا.

أتذكر أننى ذهبت لأزور أحد أطفال الفرع الغنى من العائلة فوجدت لديه - وأنا الذى لا أمتلك لعبة واحدة - عشرين لعبة «دراجة.. سيارة.. كرة... إلخ» فحدث أننى بعد الزيارة «سرقت لعبة من اللعب الكثيرة.. وعرفوا بعدها وطبعا أخذت علقة جامدة».

وانتشر الخبر وسط العائلة - حدث أن اتهمنى أحد الأفندية من أقربائى بالشيوعية! وسنى لم تكن تجاوزت العاشرة.

وأخذوا يتحدثون عن الاشتراكية وتوزيع الثروات بالعدل بين الناس فأعجبت جدا بحديثهم عن الاشتراكية.. وبالذات وأن الحديث كان يعبر عما بداخلى.. فكيف يكون لقريبى هذا عشرون لعبة وأنا لا أمتلك لعبة واحدة؟!

وازددت إصرارا على العمل بالسياسة لكن الذى حدث بعد أن كبرت أننى أصبحت خجولا جدا ولا أستطيع التحدث وسط جمع كبير لدرجة أنه فى أحد اجتماعات العائلة وقف كل الأطفال، وقف أحدهم ليلقى قصيدة.. وآخر لكى يخطب.. أما أنا فوقفت ولم أنطق على الإطلاق فأصبحت أضحوكة «القعدة» فذهبت للاختفاء «بالحمام»!

وعرفت طبعا أننى لا أصلح للسياسة، واكتشفت السينما، اكتشفتها صدفة، «وهذه حكاية رويتها كثيرا».. عموما حدث عام 1935 أن أصدر صدقى باشا قرارا بأن تكون سنوات الابتدائية خمس سنوات وليست أربع سنوات كما كان متبعا.. ففكرت مدرستنا أنه بدلا أن تضيع سنة كاملة على تلاميذها.. أن يطول يوم الدراسة ليستوعب مناهج سنتين بدلا من سنة فكنا نأخذ دراسات مسائية.. فحدث أننى «زوغت» مرة من الدراسة المسائية فأخذت أتسكع فى شوارع عابدين حتى وقفت عند سينما عابدين وبالصدفة كان معى ثمن التذكرة «قرش صاغ» فدخلت وجلست فى أول كرسى ونظرت حولى فإذا بكل من يدخل يجلس فى الأماكن الخلفية.. فاعتقدت أنهم قد دفعوا تعريفة وأن الكراسى الأمامية ثمنها قرش صاغ!

المهم أننى تفرجت يومها على طرزان وشارلى شابلن.. واندهشت جدا.. حتى أننى لم أتمكن من إخفاء هذا الإعجاب على كل من فى المنزل فحكيت لهم ما حدث.. فضربونى «علقة» عقابا على تزويغى من المدرسة لا أنساها حتى الآن.. لكن فى الصباح نشرت هذا الاكتشاف الجميل.. وذهبنا شلة كبيرة ودخلنا السينما ففوجئت أن نفس الأفلام التى رأيتها بالأمس هى التى تعرض اليوم أيضا!

وكل مرة أذهب فيها للسينما.. أعود للبيت وأضرب بحجة أن السينما ستفسد أخلاقى.. وعرفت بعد ذلك أن هناك حفلة الساعة الثالثة بعد الظهر فأخذنا نتردد عليها.. سينما الشعب بتعريفة.. وسينما بولاق وسينما إيديال وسينما أولمبيا - أربع دور عرض شعبية كنا نتردد عليها.

وكنا نتبادل الإعلانات المصورة التى توزعها سينما أولمبيا فى حفلة الساعة الثالثة المخصصة للتلاميذ والطلبة.. وكان لكل سينما من هذه السينمات أوركسترا خاص بها لجذب الرواد.. فى سينما إيديال كان يقود الأوركسترا «حسن أبوزيد» الذى مثل بعد ذلك شخصية «السكران» فى فيلم «حياة أو موت» لكمال الشيخ وكانوا يكتبون على الأفيش الخارجى للفيلم أنه أثناء الاستراحة سوف يعزف حسن أبوزيد على البيانو معزوفات «محمد لابس سيفه» ودلعنى.. إلخ.. فكل أوركسترا كان له مذاق خاص وله جمهوره الخاص الذى يذهب لسماعه.

وكنا نعتقد أن الفرق بين سينما كوزمو جراف - درجة أولى - ودور العرض الأخرى أن سينما كوزمو تعرض أفلاما ناطقة «المفهماتى» شخص لطيف جدا يسمى «المفهماتى» كانت أهميته أنه يشرح ما يحدث على الشاشة وطبعا كثيرا ما كان يؤلف ويحكى عن حوادث لا علاقة لها بما يحدث على الشاشة.

وأذكر أنى عرفت «مفهماتى» اسمه «البابلى» عمل معى كومبارس بعد ذلك فى أحد أفلامى، لذلك ظهرت أسماء عربية لممثلين أجانب، فـ«وليم فورتو» اسمه «على الديان»، وطبعا على الديان فهمت خطأ من الترجمة، فقد كانت «قبضوا على الديان» وهكذا فقد كان الأمر يعود لما يقوله هذا الشخص الفهيم!

فى أحد أحاديثك ذكرت أن الواقعية تعنى انتقال السينما من القصور إلى الشوارع والبيوت الفقيرة ومن أولاد الذوات والفيلات إلى الفئات الشعبية.. هل ما زالت هذه هى رؤيتك؟

فى الحقيقة لست أول من فعل ذلك فقد كان هناك كمال سليم، كان هذا أمرا مهما فى ظرف وتاريخ الأربعينيات والخمسينات، أما الآن فالأمر أصبح مختلفا.. ألا يحتاج الأمر إلى رؤية أكثر تحديدا تتمشى مع كل هذه التغييرات؟!

طبعا لقد كانت بالفعل واقعية مكانية وواقعية أشخاص لكن ليست هذه فقط هى الواقعية.. لقد أخرج «دى سيكا» فيلما خياليا «معجزة ميلانو» اعتبره مع ذلك فيلما واقعيا.

واقعى.. كيف؟

واقعى من ناحية المشكلة التى عرضها دى سيكا فى فيلمه فالمهم ماذا تقول؟ المهم هو تحليل المشكلة التى تمس حياة جموع الناس بأمانة.. للتعرف على عناصرها المختلفة كما أن حلولك لا بد أن تكون نابعة من ذلك التحليل الأمين لها فيمكن أن يكون فيلمك واقعيا برغم أن أحداثه تجرى فى القصور ما المانع؟! فالمهم باختصار - أن تكون صادقا مع نفسك.. وصادقا مع فنك والحلول التى تختارها أيضا لابد أن تكون صادقة وقابلة للتنفيذ.

كيف يمكن اعتبار «السقا مات» فيلما واقعيا؟

لأنه صادق فى عرض «شخصياته المختلفة».. والمشكلة التى يعرضها.. خوفا من الموت كل لحظة.. فإحساسنا بالموت إحساس طاغ.. الفيلم يعرض ذلك ويسأل لماذا الخوف من الموت.. وما العمل لتجنب هذا القلق الدائم.. الفيلم يجيب - بأننا يجب أن نعيش حياتنا فى مجابهة هذا الموت اليومى.

هناك فرق بين هذا المعنى.. وبين رؤية أخرى أحسسنا بها عند مطالعة كتبك «السينمائية».. لقد أحسسنا بدقتك فى مراعاة المشاعر الخاصة جدا بالفنان وتكون أيضا فنية جدا.. كسينما محمد خان الآن مثلا.. فما رأيك؟

طبعا.. طبعا أنا أعتقد أن سينما محمد خان - بمعنى ما - سينما واقعية فشرط مهم أن تكون المشكلة المعروضة - مشكلة حقيقية وأن يكون حلها حلا حقيقيا وليس حلا رومانتيكيا أو كاذبا فقد درسنا فى الأدب - مثلا - أن الإنسان يولد ليعيش فى بؤس وفقر دائمين.. ولا يمكن أن يكون قادرا على التغيير.

وطبعا أصحاب هذه الرؤية هم «الطبيعيون» زولا وبعض أعمال بلزاك ثم هناك الواقعية الاشتراكية التى أعلنت - أيضا - عن وجوه للبؤس والفقر الذى تعيش فيها الطبقات الفقيرة.. ولكنها تأثرت بإمكانية التغير وضرورته بتغير الأساس الاقتصادى الذى يقوم عليه المجتمع والذى يسبب كل هذا البلاء.

وهكذا ظهرت فى إيطاليا «الواقعية الجديدة» بعد الحرب الثانية والذى كان من أهم سماتها عدم وجود البطل الفردى.. بل بطولة جماعية فلا يوجد البطل «رود كلون» الذى يركب طائرته ويغزو اليابان ويضربها وحده كما تفعل الأفلام الأمريكية.

السوبر مان اختفى فى هذه الأفلام الإيطالية وحلت محله الجماعة أو الجبهة التى تستطيع مواجهة مشاكل ما بعد الحرب.

ثم تطورت الواقعية حتى أصبحت هناك واقعية رمزية.. وواقعية رومانتيكية.. والواقعية الاجتماعية والواقعية النقدية.. لكن أساسها الصدق فى التعامل مع واقع كل منها الخاص.

فأنا عندما أخرجت الأفلام الشعبية أخرجتها بسهولة دون عنت لأننى أعيش هذه البيئة وأحسها بصدق.. فأنا «منقوع» فى الحارة لمدة ثلاثين سنة، أما الوحش أو الزوجة الثانية فأحداثهما فى الريف الذى لا أعرفه - فظللت ستة أشهر أراقب حركة ولوازم وإشارات كثيرة من الشخصيات، فالفن - كما تعرفون - هو التفاصيل الصغيرة - فجاءت شخصيات الفيلمين كما أعتقد - منطقية وصادقة جدا.

كما أن حلول المشكلة المعروضة فى الفيلمين لا بد أن تلائم الظروف الاجتماعية للريف.

ألم يتغير مفهومك للواقعية على مدى السنين؟

الواقعية عندى مستمدة من الموضوع الذى أتصدى له.. «السقا مات» مستمد من الحياة وعن أشخاص عرفتهم جيدا وهو فيلم واقعى أيضا.. يختلف عن «شباب امرأة» وعن «بين السماء والأرض» أن أستمد نظرتى من الموضوع نفسه لقد درست فيلم «الفتوة» واكتشفت الناس والمكان ومفرداته الكاملة وتفاصيله.

وفى نهاية الفيلم كان لا بد من حل واقعى لا يخدع الناس ولا يضللها، أن النهاية غير الواقعية لفيلم الفتوة تعنى الانتباه للنظام الاقتصادى الذى يفرز قانون السوق وهذا النظام مستمد من الواقع المستمر فكان الحل هو فكرة الدائرة التى تنتهى كبدايتها مصداقا لفكرة آلية السوق فى المجتمع الرأسمالى، الواقعية هى الصدق وعدم التزييف سواء فى الشخصية أو الحوار فى كل عناصر الفيلم.

كيف تصنع هذه العلاقة البسيطة والمباشرة مع الجماهير؟

أنا دائما أقول لطلبتى فى معهد السينما إن المخرج مثل شهرزاد والجمهور مثل شهريار الذى إذا شعر بالملل أو أن الحكاية لا تعجبه فإنه سيشرع سيفه ويطيح برأس المخرج وقد كنت فى أول حياتى الفنية أذهب إلى دور العرض لأرى كيف يستقبل الجمهور أفلامى.. الموضوع أن أعرف كيف أحكى لجمهورى وكيف أنقذ رقبتى من سيفه.

اهتمامك الأساسى بكيفية توصيل أفكارك للجمهور فامتلأت أفلامك بالشخصيات البسيطة كالعمدة والخاطبة والحس الشعبى المباشر فى التناول والبناء الكلاسيكى للدراما «بداية - وسط - نهاية».. ألم يمنع هذا محاولات التجديد سواء فى البناء السينمائى أو الدرامى؟

لا أعتقد هذا.. الفن السينمائى فى رأيى فن شعبى.. ليس للصفوة أو المثقفين مثل الموسيقى أو التصوير.. أنا أتحدث إلى الناس بلغتهم.. لو تحدثت فى الريف مثلا عن مشاكل الفلاحين ولكن باللغة الفصحى.. فلن يلتفت لى الفلاحين أنفسهم وبالتالى لا فائدة.. أنا أعرف إلى من أتحدث، أنا لست فى فرنسا، الناس هناك مرفهة «تتفرج» على السينما، وهنا السينما فى خدمة الناس لذلك أرى أن كلمة كمال رمزى عن فيلم البداية صادقة تماما، لقد قال إنه فيلم تعليمى، لأنى أريد توصيل مفاهيم الاشتراكية والديمقراطية إلى البسطاء.

كنت أستطيع التقعر والفزلكة فى الشكل ولكنى لا أحب هذا ولا أحسه.. عندما كنت رئيسا لمؤسسة السينما جاء لى سيناريست شاب وأعطانى سيناريو.. ورأيت أنه بشىء من التقديم والتأخير يمكن أن يكون الفيلم «مفهوما» أكثر فإذا به يرد «ومن قال أنى أريد أن يكون الفيلم مفهوما»؟ أنه يريد التغريب لذات التغريب.. الفيلم يعرض على المشاهد مرة واحدة دون إمكانية إرجاعه وفهمه مثل الكتاب أو الفيديو فلابد أن يكون مفهوما دائما وبسيطا.. وهو فن شعبى يجب أن أستغله لتعليم الناس.. ومع ذلك فأفلامى تمتلئ بالتورية والتشبيه الممتاز وكل المحسنات البديعة التى تشحذ ذكاء الجمهور وتشعره بالسعادة.

وبالمناسبة حس الجمهور التلقائى عادة ما يكون أصدق من آراء كثير من النقاد.. أذكر عندما كنت أصنع أول أفلامى «دايما فى قلبى» وفى مشهد غرامى بين عقيلة راتب وعماد حمدى أردت أن أصنع تكوينا هرميا فطلبت أن تتكئ عقيلة راتب ويقترب منها عماد حمدى لأصنع تكوينا ذهبيا.. بعد ذلك قابلت أحد أولاد البلد فإذا به يعلق على هذا المشهد قائلا «أليس عيبا يا أستاذ أن تنام البطلة للبطل منذ اللقاء الأول؟

وأدركت خطئى تماما أنه يجب أن تكون الأولوية للمعنى وطبيعية الحركة.. وهذا خطأ كبير من المخرجين الشبان حتى الآن.. التكتيك يجب ألا يطغى على الموضوع ولكن يجب أن يكون فى خدمة الموضوع، المهم أن تكون اللغة السينمائية سليمة وألا يخرج أحد من الفيلم دون أن يفهمه.

عندما عدت من باريس انضممت لجمعية ثقافية اسمها «الثقافة والفراغ» وكنت السينمائى الوحيد فى هذه الجمعية وعندما عرض وقتها فيلم «المواطن كين» كنا نتناقش كثيرا فى هذا الفيلم الذى شاهدناه مرات عديدة وأؤكد لك أنى كنت أستفيد من الناس العاديين فى الجمعية أكثر مما لاحظته بنفسى فى الفيلم لأنهم تلقوا الفيلم ببساطة دون تفكير فى حركة الكاميرا أو حركة الممثل.. لقد وصلهم الفيلم هكذا.. وهذا هو المهم.

ولكن ألا يدفعك حرصك الزائد على علاقتك بالجمهور إلى ابتعادك عن الصدمة الفنية الضرورية لتوصيل مضمون ثورى فمثلا شخصيات المتمردات فى «أنا حرة، ولوعة الحب، والطريق المسدود» كل شىء يأتى عن طريق الرجال.. أنهن يتمردن داخل نفس النظام وبنفس قواعده؟

لا.. لقد كانت لبنى عبدالعزيز تفهم الحرية على أنها حرية السير والخروج من المنزل ولكنها فى النهاية اكتشفت أن الحرية يمكن أن توجد فى السجون، طالما أستطيع التعبير عن رأيى، الرجال هنا لأنهم يحملون أفكارا تقدمية وليس لأنهم رجال، إننى لا أدين أبدا الشخصية المتمردة بل أحلل الظروف من حولها وأتعاطف معها.

فاتن حمامة فى «الطريق المسدود» تترك بيتها تحت ضغط ظروف قاهرة ثم تقع فى يد «العمدة والأجزجى» إنه مجتمع فاسد يحاصرها ولكنها تركت شكرى سرحان قائلة إنه تخلى عنها فى محنتها.. وشادية فى «لوعة الحب» وسط مجموعة من البنات فى سنها فى مدرسة نسوية خاصة بتكوين الزوجة وهن يحلمن بأول قبلة وأول ليلة وعلى المستوى الآخر تفكير الرجال بأن الرجل لا يصبح رجلا إلا بالسيطرة على زوجته منذ الليلة الأولى، نحن أمام زواج طرفى نقيض.. هى بأحلامها الرومانسية الساذجة فوجئت بمن يطلب منها أن تخلع ملابسها وأن تخلع له حذاءه، إنها تقع فى حب محرم لأنها وجدت الشخص الرومانتيكى الذى كانت تحلم به برغم أنه يعمل نفس عمل الزوج.

ومع تغيير مفهوم الرجل عن قسوته على زوجته «حكاية الصديق عن زوجته التى ماتت» أصبحنا أمام موقف مختلف.. العلاقة تتغير بالنسبة للرجل عندما يدرك أنه أمام أسرة ولا داعى لمعاملة أم ابنه بهذه الطريقة، إن كثير من الزيجات حتى الآن تفشل بسبب عدم إدراك طرفى العلاقة وبالذات الرجل لطبيعة الطرف الآخر وكيفية التعامل معه.

كأن لوعة الحب إذن فيلم عن الرجل وليس عن المرأة؟

كان فى الواقع عن الاثنين معا.. وعن طبيعة العمل الصعب فى القطارات وتأثير قسوة العمل على العمال حتى دفعهم إلى شرب الخمر دون أن يعنى ذلك انحرافهم بالمعنى التقليدى.

ولكن إدانتك لعلاقة الحب بين شادية وعمر الشريف لصالح الأسرة هى تأكيد لـ«المصائر» وعدم رغبتك فى صدمة الناس.. ألا تريد التشجيع على هذا النوع من الحب، ألا ترى أن الخروج عن الشائع يكون صحيحا أحيانا؟

لو أحسست أن الخروج عن الشائع سيكون صادقا لفعلته.. لو أحسست أن هذا الزوج لن يصلح إطلاقا لتحمست للعلاقة الأخرى.

لكن الفن أحيانا يتطلب لحظات من الخيال والجنون.. فما رأيك؟

أنا لا أعتبر هذا فنا.

لكنك فعلت شيئا من هذا فى «البداية» كتجربة جريئة ومفاجئة؟

المهم أن يكون ما أقوله صحيحا.. أنا لا أجامل.. ولا أرضى الناس على حساب صدقى مع نفسى.. لن أقول مثلا إن المرأة يجب أن تعود للبيت لإرضاء الناس فى فترة معينة، ولم أفعل ذلك أبدا إلا مرة واحدة وهى الخاصة بنهاية فيلم «شباب امرأة» بموتها.

أعتقد أنى لو صنعت نفس الفيلم الآن فلن أجعلها تموت لأن الجانب الإيجابى فى شخصيتها مهم، لقد أعطت البطل دروسا عميقة وحقيقية فى الحياة، مفاهيمى
ومفاهيم الناس تتغير وأعتقد أنى كنت سأصبغ الفيلم كله بطريقة مختلفة بعد مرور 30 سنة على صنع الفيلم.

هناك كثير أريد قوله ولا أستطيع لظروف كثيرة ولكن المهم ألا أكذب على الناس.

حدثنا عن بدايات عملك فى القطاع العام.

عندما أرسل لى الوزير لتعيينى رئيسا لمؤسسة السينما طلبت مهلة للدراسة لأن الموضوع ليس سهلا فسافرت لدراسة نظام السينما فى دولة اشتراكية هى تشيكوسلوفاكيا وبلد ذا خط اشتراكى مع بعض الحرية للقطاع الخاص هى يوغسلافيا وبلد رأسمالى هى إيطاليا.

درست الإنتاج فى البلاد الثلاثة وكتبت تقريرا ضمنته مقترحاتى عن النظام المقترح تطبيقه فى مصر، منها إلغاء نظام النجوم وإعداد عدد أكبر من كتاب السيناريو فأنشأنا معهد السيناريو اخترنا معظم طلبته من كتاب الدراما الذين ألفوا الكتابة للمسرح ولديهم خلفية الكتابة الدرامية وكانت هذه الخطوات تقابل بهجوم عنيف من كل الجهات داخل الوزارة وخارجها.

عندما أنشأت لجنة القراءة لإعداد عشرين فيلما واختيارهم ضمن أكثر من 40 سيناريو لكى أكون مستعدا كمؤسسة لعمل فيلم عن أى مناسبة مثل الحروب والكوارث، واجهتنى معارضة قوية إذا كيف يحكم خريج كلية الآداب على طه حسين مثلا، الآن السينما المصرية تنهض على أكتاف خريجى معهد السيناريو: رأفت الميهى، ومصطفى محرم، ووفية خيرى، وممدوح الليثى وغيرهم.

طوال فترة عملك فى السينما المصرية لم يتح لك أحد فرصة لعمل فيلما تحظر فيه نظام النجوم الموروث عن السينما الهوليوودية؟

منذ اللحظة الأولى التى عملت فيها بالسينما المصرية لم أتوقف عن محاولة عمل ذلك، ويمكنك إذا رجعت إلى أفلامى أن تلاحظ أنى أشرك على الأقل وجها أو وجهين جديدين فى فيلمى وأعطيهم أدوارا مهمة، مثل إبراهيم قدرى الذى كان ممثلا ثانويا وأعطيته دورا كبيرا فى «لا وقت للحب» ومثل «فتيحة» الذى كان يطاردنى رغبة فى التمثيل حتى وجدت له دورا ملائما تماما وهو شخصية دكتور الحشرات فى فيلم «لا تطفئ الشمس» لدرجة أننى طلبت حضوره من المنيا.

وشخصية القواد فى «السقا مات» كان موظف الخزانة فى محل «لا باس» أنا أؤمن بأن المخرج هو أساس العمل كله فالممثل الجيد مع مخرج سيئ سيبدو سيئا والعكس صحيح، فى بادئ حياة «زيزى البدراوى» عملت معى فى فيلم «البنات والصيف» ولعبت دور حبيبة عبدالحليم حافظ التى «تتقل عليه» وكانت سعاد حسنى أخته خفيفة الظل، وكان من سوء حظ زيزى البدراوى أن كرهها الناس تماما وأحبوا خفة ظل سعاد حسنى.

كان السؤال عن نظام النجوم نفسه الذى ورثناه عن هوليوود.. هل كان الطريق الذى سارت فيه السينما المصرية هو الطريق الوحيد فى رأيك لازدهارها؟

المشكلة أنه ليس لدينا نظام محدد، هوليوود كانت نظام أشبه بالملاجئ والسجون، النجم يصنع ما يريده أباطرة الشركات ولا يستطيع أبدا تجاوز دوره ولا يستطيع حتى مقاومة تنميطه فى دور أو شخصية معينة.

أذكر أننى كنت أعمل فى فيلم إيطالى وكنا نصور المشهد مرتين مرة للنسخة المصرية وأخرى للنسخة الإيطالية وعندما تأخرت سامية جمال فى أحد المواعيد ظن المخرج الإيطالى أنى سأشكوها للنقابة لإيقافها ست شهور، وعندما قلت له ولو فعلت ذلك ستدعى المرض وسيقف الفيلم، اندهش الرجل كثيرا.

وفى نفس الفيلم كان معى الممثل العالمى الشهير فى هذا الوقت «فيتوريو جاسمان» كان يخرج معنا يوميا إلى الصحراء يفترش عباءته ويقرأ فى كتاب حتى نهاية يوم التصوير الذى كان معظمه ينتهى دون أن يصور لقطة واحدة، وعندما سألته قال إنى وقعت عقدا لقد اشترانى الفيلم تماما طوال هذه المدة المتضمنة فى العقد 10ساعات أما بعد المدة بدقيقة واحدة فإنى لى سلوكا آخر، هذا هو نظام هوليوود المشكلة أنه لا نظام عندنا.

ألم تحاول خلال فترة رئاستك للقطاع العام فى السينما تحطيم هذا الشكل أو وضع نظام بديل؟

حاولت.. وكان من ضمن أهدافى تغيير نظام النجوم بسياسة محددة.. فاتن حمامة مع محمد أحمد وهو وجه جديد متخرج من المعهد.

وكانت فكرتى عن أفلام بسيطة لا يشترك فيها نجوم وذات ميزانية بسيطة بنظام «الحصة» أى أننى أطلب من الموزع أن يأخذ الفيلم البسيط كشرط لمنحة فيلم بطولة فاتن حمامة مثلا.. حاولت ولكن التاجر داخل الشركة أفسد كل شىء لأن كل العاملين داخل مؤسسة السينما كانوا يفكرون بعقلية القطاع الخاص.

المهم أننا قوبلنا بهجوم عنيف كما أننى عرفت بعد انتهاء التجربة أن هناك تقارير قدمت ضدنا، كنا قد وضعنا برنامجا لصنع عشرين فيلما فى السنة فتوقف منتجو القطاع الخاص تماما كما انتظر الموزع وتوقف العمل تماما بغرض ضرب التجربة أو انتظار نتائجها.

ووجدنا أنفسنا ونحن فى مرحلة الدراسة ولم نبدأ الإنتاج بعد - ملتزمون بتغطية السوق بأكمله خاصة بعد أن أرسل الفنيون - وهم فقراء بالفعل - شكاوى إلى كل الجهات المعنية بما فيها عبدالناصر نفسه، فصدرت أوامر بالفعل بالإنتاج بأى شكل، حتى تدور الدورة ويعمل هؤلاء الفنيون فكان اقتراح عمل أفلام حرف «ب» وحرف «ج»، وبمقتضى هذا النظام شارك التليفزيون فى إنتاج هذه الأفلام المأخوذة عن مسرحيات أغلبها لكتاب أجانب على أن تقتصر عرضها على التليفزيون، كان المستهدف إنتاج أفلام بميزانية متواضعة حتى يعمل الجميع وتدور العجلة، وحتى هذه اللحظة لم يكن هناك هيكل إدارى أو فنى.

كنت أطمع أن يحدث عندنا مثل المجر الذى توقف الإنتاج السينمائى فيها تماما لمدة سنتين لكى يتحول هيكل الإنتاج من النمط الرأسمالى إلى النمط الاشتراكى، ولكننا لم نتمكن من التوقف ولو لفترة محدودة لكى نفكر ماذا نفعل بالضبط وخاصة أن السينما ليست عملية إنتاجية فقط ولكنها عملية فنية فى الأساس.

هل اقتصرت هذه النوعية «الهابطة» من الأفلام على بداية العمل فى المؤسسة؟ أم لازمتها حتى النهاية؟

لا.. فى البداية فقط وكما قلت كان مفروضا ألا نعرض هذه الأفلام إلا فى التليفزيون ولكن نجاح بعضها دفع الكثيرين إلى المطالبة بعرضها عرضا جماهيريا بدور السينما، وعندما عرضت فعلا تلقفها من كانوا ضد تجربة القطاع العام كلها قائلين «هذه هى أفلام القطاع العام؟».


وبالطبع لم يدخل فى تحليل هؤلاء أفلام هامة جدا فى إنتاج القطاع العام مثل «الأرض» ليوسف شاهين، «يوميات نائب فى الأرياف» لتوفيق صالح، «والقاهرة 30»، و«الزوجة الثانية» و«القضية 68»، وبالنسبة لى عدد كبير لا أتذكره الآن فى الأفلام المحترمة.

والأفلام الهابطة كانت كثيرة جدا؟

هذا صحيح وكان السبب كما قلت الرغبة فى إدارة عجلة الإنتاج وإعطاء فرصة العمل للجميع.

وبرغم هذا فقد هاجم الجميع التجربة فى بداية السبعينيات على اعتبار أنها حققت خسائر تصل إلى 7 ملايين جنيه.

هذا كلام فارغ وغير صحيح، فنظام السبعينيات - برغم ادعائه الانتماء لثورة 23 يوليو - أراد أن يشوه كل ما قبله، لقد تم مثلا حساب الإنتاج والخسائر للفيلم كأى منتج أو سلعة بعد طرحه فى السوق بشهرين أو ثلاثة - «فالبداية» مثلا تكلف - فرضا - نصف مليون جنيه فلو تم بيعه لدولة ما بمائة ألف جنيه فإنه يكون طبقا لطريقتهم - قد خسر 400 ألف جنيه وهذا غير صحيح بالطبع.

هذه الطريقة فى الحساب مستمرة للأسف حتى الآن فلماذا ضربت هذه التجربة فى رأيك؟

لأنها طبقت دون فهم وهى فى هذا جزء من التجربة الاشتراكية كلها، لقد وقف أحد المخرجين فى نقابة السينما وقال إنه فى حالة الإنتاج الخاص يعرفون أن هذه أموال عباس حلمى أو رمسيس نجيب، ويجب الحرص عليها، أما هذه الأموال - يقصد ميزانيات القطاع العام - فهو لا يعرف أموال من؟! وقد نسى هذا المخرج أن هذه أمواله هو وليست أموال زميله عباس حلمى أو رمسيس نجيب وهى الأولى بالحفاظ عليها.

وكان كثيرا من المخرجين يطالب بتقاضى أجور أعلى فى القطاع العام على أساس أنها «فلوس سايبة»، ولا صاحب لها.

وخسرت الكثير من زملائى وأصدقائى أثناء رئاستى للهيئة، رغم أنى عقدت معهم اجتماعا فى بداية هذه الفترة وأشرت أن هذه هى المرة الأولى التى يتولى السينمائيون فيها أمور السينما بأنفسهم ولن أستطيع تولى المنصب دائما لأنى فى الواقع كنت أضحى فقد كنت أخرج فيلما واحدا فى العام وأسافر هنا وهناك ولكن مع منصبى فى القطاع العام كنت أعمل 24 ساعة فى اليوم بمرتب لا يكفينى، واقترحت على الزملاء أن نبدأ من فترة التجهيز والإعداد فى تولى المسئولين بالتتابع كل سنتين، وللأسف لم تفهم هذه الروح وكان الفيلم الذى يصنعونه فى القطاع الخاص بـ30 علبة خام يصنعونه فى القطاع العام بخمسين علبة.. وهكذا.

من أهم معارك هذه الفترة حكاية فيلم «بين القصرين» ما هى حقيقة ما جرى بشأن هذا الفيلم؟

كنت قد تعاقدت مع ستوديو مصر على إخراج هذا الفيلم عن سيناريو ليوسف جوهر فلما توليت رئاسة الهيئة وآل ستوديو مصر للهيئة بعد تأميمه لم أتمكن من إخراجه فطلب منى أن أرشح مخرجا آخر فرشحت «توفيق صالح» الذى كان حينئذ مخرجا مغمورا لم يصنع سوى «درب المهابيل» الذى أقنعنى بأنه مخرج جيد فأرسلت إليه أستدعيه من المجر، وعند عودته شكرنى على ترشيحى له وإعطائه هذه الفرصة الكبيرة ولكن عاد بعد فترة طالبا تغيير السيناريو، وأجبت بأن هذا حقه رغم أنى كنت سأخرج الفيلم بنفس السيناريو لأن لكل مخرج رؤيته وطريقته الفنية الخاصة.. ولما طلب «أجرا» نظير تغيير السيناريو أفهمته أننا شركة قطاع عام ولا أستطيع أن أجعلهم فى الشركة يقتنعون أننى سأدفع نقودا لتوفيق لإصلاح سيناريو ليوسف جوهر، وطلبت منه أن يشرع فى إخراج الفيلم وتعهدت له أن أفعل ما بوسعى بعد انتهاء الفيلم.

المهم دوخنى لمدة ستة شهور وكان مجلس إدارة الهيئة يطالبنى فى كل اجتماع بالانتهاء من الفيلم الذى كان مدرجا فى خطة الإنتاج وكنت دائما اصطدم بشرطه لإتمام تعديلات السيناريو، المهم بعد كل هذه المدة فوجئت بخطاب منه فى 25 صفحة يهاجمنى فيه بعنف ويعتبرنى من التجار الذين يريدون خسارة السينما المصرية، وأذكر أننى قلت له فى ردى إن الوقت الذى استغرقته فى كتابة خطاب من 25 صفحة كان يمكنك فيه أن تنجز التعديلات التى تريدها فى السيناريو.

بعدها لم أستطع فى الحقيقة - بالذات بعد إلحاح مجلس الإدارة - أن أنتظره أكثر من هذا فسحبت السيناريو وأعطيته لحسن الإمام.

ألا يثير الدهشة أن يكون هناك سيناريو يستطيع من وجهة نظرك على الأقل أن يخرجه توفيق صالح ثم تعطيه لحسن الإمام؟

من الذى كان يمكنه - فى هذا الوقت - إخراجه، لم يكن هذا «لون» بركات أو كمال الشيخ.

وهل كان السيناريو يليق «بطابع» حسن الإمام؟

أخرجه حسن الإمام بنفس الطابع التجارى الذى يخرج به أفلامه الأخرى لكن بالتأكيد ليس طابع كمال الشيخ أو بركات.. كما أن عليكم تقدير أن هناك شركة وفنيين وميزانية، كل هذه أجور تلح على لإسناد الفيلم لمخرج بسرعة وطبعا لم أكن أستطيع إخراج الفيلم بسبب تعاقدى السابق كما قلت، هذه حكاية بين القصرين ولكن علاقتى بتوفيق صالح تحسنت بعد ذلك بعد أن التقيت به بعد سنوات عديدة.

التقيته فى باريس وكنت رئيسا للجنة تحكيم أسبوع الفيلم العربى هناك وتحدثنا كثيرا فى موضوعات كثيرة وخاصة فى ضرورة عودته للإخراج مرة أخرى.

ماذا عن النقاد وعلاقتهم بأفلامك؟

فكرت فى جمع كل النقد الذى كتب عن أفلامى فى كتاب.. إما أن أعلق عليه أو أتركه دون تعليق.. وفى ظنى أنه كتاب سيحفل بالكوميديا والعجائب والجهل الفاحش بالنقد. ولكنى سأفعل ذلك إدراكا منى لدور الناقد وعلاقته بالجمهور أنى أذكر مثلا فى فيلم «الوحش» أن كانت هناك «خناقة» فى غرفة بالبغدادلى على السطوح وكان الأستاذ كمال الملاخ حاضرا للعرض الأول للفيلم.. فعلق بأن حوائط الديكور كانت تهتز ولم أشأ الرد بأن الحوائط من البغدادلى... إلخ وفضلت حذف هذه اللقطات من الخناقة حتى أستريح ولكن الناس ظلت حتى بعد الحذف تخرج من السينما وهى تقول «حوائط الديكور تهتز».

ومن الأشياء الطريفة عندما عرض فيلم «الزوجة الثانية» فوجئت بصفحتين متقاربتين فى مجلة الكواكب أحدهما كتبها هاشم النحاس والأخرى كتبها عبد الفتاح الفيشاوى، الأول شاب جديد يمارس النقد والإخراج والثانى مثقف قديم مخضرم «تربية» مسرح.

قال هاشم النحاس إن التمثيل كان بالغ السوء برغم أنه مخرج تسجيلى لا علاقة له بالتمثيل الذى كان فى الزوجة الثانية بالذات بالغ الخصوصية، بينما كتب الفيشاوى فى الصفحة المقابلة مشيدا بعنصر التمثيل إشادة خاصة.

هل تصنع أفلامك للناس؟ أم للنقاد؟

للناس طبعا ولكن عندما يكون الناقد معترضا فإنه يضع يده وعينه على أشياء لم تخطر على بالى مطلقا وربما كنت أصنعها دون وعى أو إدراك مسبق، الناقد الجيد قد ينبهنى لأشياء ويضىء أمامى نقاطا مهمة فى الرسالة التى قدمها «خميس بلخياط» فى السوربون اكتشفت أشياء لم أحسها بإدراكى الواعى مثل أنى فى أفلامى عن الريف جئت بشخصية العمدة الذى يهزأ الناس به فى 4 أفلام مثل الزوجة الثانية والوحش عندها فقط اكتشفت أن والدى كان «عمدة» ولم تكن علاقتى به جيدة لأنه تركنا منذ الصغر ولكنى لم أفكر إطلاقا أننى أفعل ذلك فى أفلامى كرد فعل لهذه المشاعر الكامنة حتى اكتشفها بلخياط.

وكثيرا ما يحدث أن تفيدنى تحليلات النقاد، والسينما المصرية مدينة لبعض أسماء النقاد العرب بفضلهم أصبحت هذه السينما معروفة فى أوروبا، أولهم الطاهر شريعة الذى نبه المتحدثين بالفرنسية وجمهور نوادى السينما إلى وجود سينما مصرية جادة ومهمة غير أفلام المطربين والمونولوجست والراقصات.

ونبههم إلى أفلامى وأفلام يوسف شاهين وتوفيق صالح وغيرهم ومن هنا وصلت السينما المصرية إلى باريس والى جورج سادول أول من كتب عن الأفلام المصرية ونبه إليها جمهور السينما الفرنسية حتى وصلنا إلى أنه من المستحيل أن يصدر كتاب أو مجلة عن السينما دون أن تحتوى قسم عن السينما المصرية، والسينماتيك الفرنسى الآن به نسخ من الأفلام المصرية ليست لدينا نسخ منها.

new
 
مجدي-احمد-علي
مجدي أحمد علي

 

محسن-ويفي
محسن ويفي

p.4-5

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

صفارات الإنذار تدوى فى غلاف غزة

صفارات الإنذار تدوى فى غلاف غزة الأحد، 20 يوليو 2025 01:00 ص

الأكثر قراءة

مسار متعثر للمحادثات النووية.. هاجس الهجمات يدفع طهران للتحفظ.. مسئول إيرانى: معلومات تؤكد استعداد واشنطن للحرب.. أوروبا تهدد بتفعيل العقوبات الأممية حال الفشل.. وطهران ترد: لا تفاوض دون استعداد لاتفاق عادل

فيلم Superman الجديد يحقق 272 مليون دولار حول العالم

سنغافورة تدفع نحو "الطيران الأخضر" عبر إنشاء مركز جديد لإنتاج وقود طائرات مستدام

الأهلي يواصل تدريباته اليومية بمعسكر تونس استعداداً للموسم الجديد

اليوم.. محاكمة 22 متهما فى قضية "رشوة وزارة الري"


عودة أنشطة النادي المصري بعد انتهاء الحداد على ميمي عبد الرازق

زى النهارده.. أحمد حسن يظهر للمرة الأولى بقميص الأهلى أمام الزمالك

أمن الجيزة يضبط تاجر هيروين قبل ترويج سمومه بين المتعاطين.. اعرف التفاصيل

لاعب وسط المصرى السابق يدخل اهتمام الاتحاد السكندرى لضمه فى الصيف

الفراعنة يغزون الدوريات العربية والأوروبية فى الطائرة واليد بميركاتو 2025


موجة حارة مفاجئة.. القاهرة تسجل فى الظل 39 درجة بهذا التوقيت

مهرجان العلمين الجديدة يطرح "برومو تشويقى" لحفل تامر حسنى والشامى.. فيديو

فرص عمل براتب يصل إلى 9200 جنيه.. وزارة العمل تكشف التفاصيل

موعد مباراة ناشئى كرة اليد أمام كوريا فى ضربة بداية بطولة العالم

الأهلى يعتذر للحزم السعودى: ديانج غير مطروح للبيع

طريقة الاستعلام عن معاش "تكافل وكرامة" إلكترونيًا.. اعرف التفاصيل

فشلوا فى وقف نزيف الدماغ ووالده رفض رفع الأجهزة.. تفاصيل وفاة الأمير النائم

وفاة الأمير النائم بعد أكثر من 20 عامًا فى الغيبوبة

أبرزها هدف شيكو بانزا.. لقطات من ودية الزمالك ورع بمعسكر العاصمة الإدارية

أفلام المشروع X وريستارت والشاطر وأحمد وأحمد فى سينما الشعب بـ40 جنيها.. الأكشن محور فيلم كرارة.. وبطولة مشتركة بين السقا وفهمى.. وفيلم كريم عبدالعزيز عن الحضارة المصرية القديمة.. وأسرار رقمية فى فيلم تامر حسنى

لا يفوتك

سوريا.. إلى أين؟

سوريا.. إلى أين؟ الأحد، 20 يوليو 2025 01:46 ص


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى